الأخلاق عند الإمام الصادق (ع)
العلامة محمد أمين زين الدين
توطئة
(1)
للبيان حق الإيضاح والتصوير، وللفكر سلطة النقد والتحليل، وللحق فوق هذا وذاك حكومة عادلة تنير الهدى للبصير، وترغم العادي بالحجة، والكاتب مدين للحق في تفكيره، قبل أن يكون مديناً في تصويره.
للكاتب ان يتفنن في حديثه ما يشاء له الذوق، وأن يتعمق في بحثه ما تسمح به قوة النظر، ولكن عليه قبل ذلك أن يتخذ من الحق دليلاً، ومن العلم الصحيح مرشداً، عند ما يريد ان يعرض على قرائه عظيما من عظماء الإنسانية، ومعجزة من معجزات القرون، ولاسيما إذا كان هذا العظيم من أمثال جعفر بن محمد الصادق، مثال العقل السامي، والإنسانية الكاملة.
ستعترض الباحث في طريقه أسرار، وستقف أمامه شؤون وألغاز، يقف دون حلها وقفة الحائر ولعله يرجع عنها رجعة الخاسر، إلا أن يسترشد بهدى العلم الصحيح.
أقف عند ملتقى الخطوط من عبقرية الإمام جعفر بن محمد فتتملكني دهشة لم أكن أعهدها لنفسي، ويكاد اليراع ان يكبوا من يدي، وتموت الكلمات على شفتي. لم يعودني عليه البيان من قبل، ولم يخني في مثله التفكير.
تلك هي مزالق الفكر البشري المحدود إذا أراد ان يسمو إلى آفاق غير محدودة، وحيرة المصور حين يلتقي بأضواء غير متناهية.
بماذا يحيط الفكر المحدود من هذه الآفاق ليخصه بالتحليل، وماذا يعين المصور من هذه الأضواء المتشابكة ليفرده بالتصوير، أي النواحي من الإمام جعفر بن محمد أقدمها للقراء, وأية خاصة منه أتناولها بالبحث، وكل ناحية منه حرية بالبحث وكل خاصة منه جديرة بالتحليل، كل نواحي جعفر بن محمد علم، وكل خواصه إِعجاز..
وبعد أمر وأمر اخترت علم الأخلاق موضوعاً لحديثي عن الإمام الصادق (ع) وليس عليّ أن يرتضي جميع القراء مني هذا الاختيار، مادمت حراً في الإرادة وكانوا أحراراً مثلي، ومادام علم الأخلاق من النفائس النادرة في ميراث الإمام، وكل إرادته واختياره.
الأخلاق هو العلم الذي يبعث الكمال في النفس البشرية, وينمّي القوة والاستقلال في العقل البشري، وهو العلم الذي يساير الإنسانية في اتجاهاتها، ويوجهها عند حيرتها، ويأخذ بيد العقل عند اضطرابه، ويمده بالقوة عند ضعفه، وعلم الأخلاق هو الرسالة العامة التي يجب على كل حي مدرك ان يبلغها إلى كل حي مدرك، وهو الأمانة الكبيرة التي يجب على كل كائن عاقل ان يؤديها إلى كل كائن عاقل.
لهذا ولأمثاله اخترت علم الأخلاق موضوعاً لحديثي عن الإمام الصادق (ع) وان لم يكن أجلَّ مميزات الإمام ولا ابرز خواصه، على أن للإمام عناية خاصة بعلم الأخلاق تكفي الباحث حجة على هذا الاختيار، ومن أثر هذه العناية أن طابع علم الأخلاق يكاد يظهر على كل كلمة نقلت عن الإمام وعلى كل أثر نسب إليه.
لم أقصد في بحثي هذا ان أتحدث عن الوجهة الخلقية في نفس الإمام الصادق (ع) فإن هذه الوجهة نفسية تهم الباحث عن عظمة الإمام في شخصيته، أما الذي يبحث عن عظمة الإمام في علمه فعليه أن يتحدث عن علم الأخلاق عنده، وان كانت الوجهة الثانية تكشف عن الأولى في الأكثر.
(2)
لم يعتمد الإمام جعفر بن محمد في أخلاقه على نظرية استفادها من فيلسوف، ولا قاعدة أخذها من حكيم، ولكنه استقاها من ينبوع الوحي واستفادها من هدي القرآن، نعم إنه لم ينتسب إلى مدارس الفلسفة في أثينا، ولم يخضع لبيوت الحكمة في الهند ولكن الفلسفة بعض ما تخرج فيه من جامعة القرآن، والحكمة بعض الفروع التي تلقاها في مدرسة أبيه محمد، وإن فتى نمت شبيبته في بيت محمد، وكملت نفسيته بإرشاد محمد، وامتزجت بروحه روحانية كتاب محمد جدير أن يكون غنياً عن فلسفة إِفلاطون وحكمة أرسطو والمثالية ومعتصرات العقول ونسائج الأفكار.
ولعل أثر هذه التربية يظهر جلياًَ في أحاديث الإمام (ع) وأحاديث الأئمة من آبائه وأبنائه، فإن الباحث قد يجد الأثر الواحد مروياً عن أكثر من إِمام واحد وإِذا استقصى في بحثه وجد الحديث بلفظه ومعناه مروياً عن جدهم الأكبر(ص) فمنه يقتبسون، وإليه ينتهون، كالأشعة من النور، وكالثمرة من الشجرة.
(3)
الأخلاق إِحدى الجهات الإنسانية التي عني بها دين الإسلام، واهتم بها اهتماماً كبيراً، والذي يستقصي تعاليم الكتاب وإِرشادات السنة يعلم مقدار هذا الاهتمام، ومبلغ هذه العناية، وهذه الظاهرة من الدين الإسلامي إحدى مميزاته عن سائر الأديان، وإحدى مؤهلاته للخلود.
وهي جارية على ما تفرضه جامعية الدين، وجفاء أخلاق المتدينين، يوم غرس بذرته، وإذا كان شذوذ الأخلاق ناتجا عن تطرف في الغريزة أو إِسفاف في العادة، او قصور في التربية، وإذا كانت أمراض الروح أشد فتكاً في معنويات الأمة، وأعظم أثراً في إِبعادها عن الخير والسعادة، فجدير بالدين الجامع، وجدير بالمصلح المهذب أن يتكفل إِتمام النقص في الأخلاق، ويتبين مواضع الخلل في النفس، ويعالج الخطر في الغريزة الموبوءة لِيُكَوِّن من الفرد عضواً صالحاً لمكانته من الأمة، ويجعل من الأمة مجتمعاً قابلاً للعلم في سبيل الخير.
الإسلام دين فردي اجتماعي وهو في إجتماعية فردي أيضاًَ، ينظر الإسلام في سعادة الفرد كما ينظر في سعادة الأمة، ويسعى لتهذيب الشخص كما يسعى لتنظيم المجتمع، وإذا كان صلاح الأمة مشروطاً بصلاح أفرادها كان اهتمام الدين بسعادة الفرد من ناحيتين:
تهمه سعادة الفرد لأنه ممن يجب إِيصاله إلى الكمال.
وتهمه سعادة الفرد لأنها شرط في سعادة الأمة. وكلتا هاتين الغايتين يدعوا إليهما الدين الجامع. وإذن فلابد للإسلام أن يكون دين أخلاق، ولابد لقادة الدعوة فيه من بث روح الأخلاق، والإمام جعفر بن محمد أحد أولئك القادة. وبعض حملة ذلك المصباح.
كلنا نعلم أن الفلسفة الخلقية جزء من التراث القديم، بحث عنها الإنسان حين بحث عن أحوال الوجود، وحين علم أن النفس البشرية من أهم أفراد هذا الوجود وأن أخلاق هذه النفس من أبرز نواحيها، ومن أظهر خواصها، وقد استنفد هذا البحث كثيراً من جهده، وطويلا من زمانه، حتى أتته النتائج منقادة كما يريد.
ولكن الذي نلاحظه أن العرب في أيامها الأولى لم تكن تسمع عن هذه الفلسفة شيئاً، ولم تلمح منها إلا ظلالا خفيفة أدركتها بغرائزها... نطق بها حكماؤها ونظمها شعراؤها، وان الدين الإسلامي الذي نشأ بين هؤلاء العرب والذي صدع بتعاليمه محمد العربي الأمي قد تعرض لعلم الأخلاق فيما تعرض له من النواحي، فأسس له نظماً وقواعد تتمشى مع أدق الموازين في التطبيق، وأشدها إِحكاماً في القياس، وأكثرها انسجاماً مع الزمان المختلف والبيئات المختلفة.
نعم تعرض الإسلام لعلم الأخلاق بأساليب وجد العربي الأمي فيها ما أدركه بالفطرة، وقرأ فيها الفيلسوف ما أثبته بالبرهان وأكبر الجميع هذا الشرع الجديد الذي يعضد البرهان بالفطرة ويركز الفطرة على البرهان، ويصلهما جميعاً بوحي السماء ليضمن لهما العصمة في الإنتاج والغزارة في المادة. ولعل الوقت يتسع لنا بعد هذا فنبحث الموضوع كما يقتضي العلم أن يبحث، ولعلنا نحاسب الاُستاذ أحمد أمين عن نظرته إلى الأخلاق في الإسلام، فإن علاقتها باللفظ أشد من علاقتها بالمعنى والاُستاذ حين يتسرع بإرسالها يشبه البسطاء الذين يكتفون في معرفة الشيء بظواهره الشكلية.
(4)
علم الأخلاق حق إنساني مشاع، لا يختص بطائفة من البشر دون طائفة,ولا يحتكره فريق دون فريق، وإذا كانت الخاصة هي التي أسست قواعده، وشرعت نظامه، فإن العامة تشابهها في الحاجة، وتشترك معها في الغاية ما دامت للجميع ملكات يجب تعاهدها بالإصلاح، وغرائز يلزم إخضاعها للتوازن، وما دامت لهؤلاء وهؤلاء أعمال يحكم عليها بالخير أو الشر. ولجميعهم حق في السعادة ونصيب من الخير الأعلى.
ولست أذهب بعيداً حين أقول: حاجة العامة إلى علم الأخلاق أكثر فهو بهم اَلصق، لأن الأمراض الخلقية في العامة من الناس أكثر شيوعاً، وأعظم تفشياً وحاجة المريض إلى الطب أشد من حاجة الطبيب.
علم الإمام الصادق بذلك، وعلم ان لهؤلاء العامة إفهاماً لا تقبل المصطلحات الغريبة، ولا تستسيغ العبارات البعيدة. فكان لزاماً عليه ان يوضحها لهم على حسب ما يدركون، وان يترجمها لهم بما يفهمون، فكان من أبرع من أوضح، أدق من ترجم، على ان أكثر ما يهتم به المثاليون من قادة الدين هي ناحية التطبيق من علم الأخلاق، لأنها أكثر دخلا في التوجيه الخلقي الذي يهتم به الدين. ولأن الوحي قد كفاهم مؤونة الاستقراء، وأراحهم من عناء البحث والتمحيص.
(5)
لعلماء الحديث من شيعة أهل البيت (ع) حرص شديد على تدوين ما لأئمتهم من أقوال وإرشّادات، فهم يجمعون منها كل شاردة وواردة ـ ما تعلق منها بالفقه الجعفري، وما تعلق منها بغيره ـ فكان من نتائج هذا الحرص ان دونت جوامع وجمعت دواوين، وكانت أخلاقيات الإمام الصادق (ع) بعض ما دون.
تميزت الشيعة بذلك لا لأن نصائح الأئمة كانت خاصة بهم، بل لأنهم أكثر اهتماماً بآثار أئمتهم، وإذا استثنينا هذه الوجهة فلم تكن الشيعة إِلا بعض من تجب له النصيحة في رأي الإمام (ع) فإن حبه للخير والإصلاح يأبى له ان يمنع النصيحة عن أيَّ أحد ينتفع بها.
لم يبخل الإمام بنصيحة على مسلم يوماً ما، وتعاليمه الخلقية لسفيان بن سعيد الثوري، وزملائه الآخرين من رؤساء المذاهب بينة واضحة على هذه الدعوى، وهو القائل: "خير الناس من أنتفع به الناس" والراوي عن أبيه النبي (ص): "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم " وكل ما تتميز به الشيعة من ذلك أنهم لتعاليمه أسمع، ولأقواله أحفظ ، وان الإمام هو المسؤول عن تهذيبهم، لأنه عميد مذهبهم.
خلف لنا علم ألا ثر ثروة كبيرة من أخلاقيات الأمام الصادق (ع) يجدها الباحث منتشرة في فصول كتب الحديث، ولاسيما الأخلاقية منها، ولكنه لم يحفظ لنا كتاباً يختص بأخلاق الأمام، إذا استثنينا (مصباح الشريعة ) الكتاب الذي آثار بعض علماء الحديث عاصفة الريب في نسبته إلى الإمام الصادق، وكان لهم في أمره شكوك وشكوك.
نعم ان علم الحديث لم يحفظ لنا كتاباً يختص بأخلاق الأمام الصادق (ع) ولكنه حفظ أنا بين طيّاته درراً من أخلاقه، وجواهر من عرفانه، لو اعتنى الباحثون بجمعها لألفوا مجموعة رائعة في العلم
أما كتاب (مصباح الشريعة ) فإن نسبته إلى الإمام جعفر بن محمد أخذت دوراً مهماً كانت فيه حديث أهل النقد من علماء الحديث، وقد انقسموا فيه إلى شطرين، وكل ما أتى به النافون تشكيك وتردد، ولا يهمنا ان نتعرض لا ثبات هذه النسبة أو نفيها، ولا ان نستعرض أدلة المثبتين وشكوك الناقدين، فإن لهذا النوع من البحث كتباً أخرى، على ان أحاديث الأخلاق والسنن لا تحتاج إلى عناية كبيرة في التوثيق، وقد اعتمد على كتاب (مصباح الشريعة) كثير من علماء الحديث، وصححه جماعة من الأ ثبات، وهذا كاف في صحة الاعتماد عليه.
سماحاً أيها القارئ الكريم: لقد اطلنا بك الوقوف على المنعرجات، وتشعبت بنا الطرق عن الغاية، ولابد للكلام عن هذه النواحي ان يطول، فلنسر بعد هذا إلى غايتنا وكان الله معنا.
محمد أمين زين الدين
|