متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
أرسطوطاليس ـ حياته ـ فلسفته الأخلاقية
الكتاب : الأخلاق في الإسلام و الفسلة القديمة    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

                                 

أرسطوطاليس

أ ـ حياته:

ولد في ستاجيرا (تابعة لمقدونية بالقرب من مصب نهر ستريمون) سنة 384ق.م. وكانت وفاته سنة 322ق.م في أثينا. والده الطبيب المشهور نيقوماخس، ولقد تتلمذ بعد بلوغه السابعة عشرة على أفلاطون في أكاديميته بأثينا، ولازمه طوال عشرين عاماً، وقد خالفه في كثيرة من آرائه، وكان يستعمل عبارة شهيرة عن علاقته مع أفلاطون فيقول: (إنّا نحب أفلاطون ونحبّ الحق، فإذا افترقا فالحقّ أولى بالمحبة).

عمل أرسطو أستاذاً للإسكندر بناء لطلب والده الملك فيليبس المقدوني منذ سنة 343ق.م وكان الإسكندر يومها في الثالثة عشرة من عمره حيث تأثر الإسكندر كثيراً بآراء أستاذه. بعد أن تولى الإسكندر الحكم بقي أرسطو مرافقا له حتى أثناء بعض حملاته العسكرية، وكان الإسكندر لا يبرم أمراً دون استشارته. في عام 331ق.م عاد إلى أثينا وأسّس فيها مدرسة للحكمة في مكان يدعى (ليسيوم) وهو منتزه بالقرب من أثينا.

عرف أرسطو بمؤسس الفلسفة المشائية، ويقال إن سبب التسمية يعود إلى أن أرسطو كان يلقي المحاضرات النظرية ـ في الفلسفة خاصة ـ على تلامذته وهو يتمشّى بينهم في رواق بمدرسته ولذلك سمّيت فلسفته بالمشّائية. ولقد لقّب كذلك بالمعلم الأول في تاريخ الفلسفة، وسبب إعطائه هذا اللقب يعود إلى أنه كان أول من أرسى أسس علم المنطق.

ترك تراثاً فلسفياً مهماً أبرزه المنطق في مؤلفه: الأورغانون، وفي السياسة كتاب: السياسات، وفي الأخلاق كتاب: الأخلاق لنيقوماخس، وفي الفيزياء كتاب: السماع الطبيعي... الخ.

 

ب ـ فلسفته الأخلاقية:

تنطلق فلسفة أرسطو الأخلاقية من قاعدة عرف فيها الإنسان أنّه مدني اجتماعي بطبعه، فهذه الفطرة تجعل الإنسان متشوّقاً للاجتماع مع غيره، وهذا الشوق يدفع إليه السعي لتكامل القدرات وتأمين الحاجات اللازمة من أجل تحقيق سعادة المجتمع، وسعادة الفرد. فالسعادة التي تحصل استناداً إلى السيرة الحسنة والعمل المنضبط، والأفعال الطيّبة هي غاية الاجتماع البشري.

تأسيساً على هذه القاعدة خالف أرسطو أستاذه أفلاطون في موضوع الثنائية بين النفس والبدن، وفي دعوته إلى الزهد، وإماتة الشهوات سعياً إلى الاتصال بعالم المثل. وكذلك خالف سقراط في مقولته: إن الإنسان مفطور على الخير، وإن القيم والمعارف هي قبلية (a priori) موجودة في ذهنه ويتمّ توليدها منه بالمحاورة.

واتجه أرسطو إلى استقراء الواقع لتحديد القيم الأخلاقية، ولتحديد مفهوم السعادة، وقرّر أن كل معرفة يجب أن تتوجّه في مباحثها إلى المشكلات الطبيعية وإلى غير الطبيعية، وأن تسعى إلى وضع منهج يساعد على تحقيق ما فيه خير الإنسان. والقادة السياسيون وواضعو النظريات الإصلاحية، وكذلك المفكرون الاجتماعيون عليهم ـ جميعاً ـ أن يوجّهوا عنايتهم إلى الخير المحقّق للسعادة، وأن يكون ذلك في ذروة أهدافهم وغايتهم.

في تحديده للخير يقول أرسطو: (إذا كانت كل معرفة وكل اختيار إنما يتشوّق خيراً ما، فما الخير الذي نقول إن تدبير المدن يتشوّقه ويقصد قصده؟... وهذا الخير الذي هو أعلى وأرفع من جميع الأشياء التي تفعل.

فنقول: إنّه يكاد أن يكون أكثر الناس قد أجمعوا عليه بالاسم، وذلك أن الكثير من الناس والحذّاق منهم يسمونه السعادة، ويرون أن حسن العيش وحسن السيرة هي السعادة)[1].

وعلى العكس من استاذه أفلاطون الذي يقول بالثنائية بين النفس والبدن، وإن البدن هو سجن النفس، فإن أرسطو يعتبر العلاقة بين النفس والبدن علاقة تلازم تشبه علاقة المادة بصورتها، وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك ثمة فعل نفسي إلاّ وله اثر جسدي والعكس صحيح.

لكن أرسطو الذي حدّد خير الإنسان والمجتمع بالسعادة المرتبطة بالنفس والبدن معاً، أعطى الأولوية للنفس في فعل الخير، وسلوك طريق الفضيلة. لماذا هذا الموقف؟ إن النفس عنده فيها مجموعة قوى مسؤولة عن حركة الإنسان ومنها جانب طبيعي مسؤول عن الغذاء والنمو والتوليد وهو مشترك بين كل المخلوقات الحيّة، وجانب مسؤول عن الإدراك الحسّي وهو مشترك بين الإنسان والحيوان، وأخير هو أرقاها وهو مختصّ بالإدراك العقلي وهذا خاص بالإنسان.

إن الإدراك العقلي الخاص بالإنسان، وهو أرقى قوى النفس، يجب أن يكون المرشد والضابط لحركة الإنسان حتى يتحقّق الخير، ويتصف سلوكه بالفضيلة، أما تعطيل قيادة العقل للسلوك فإنه حكماً سيولّد الرذيلة في الأفعال.

والإدراك العقلي يجب أن تكون له القيادة المتواصلة الفعل حتى تكون الفضيلة سمة عامة لكل ما يصدر عن هذا الإنسان. نصل من ذلك إلى قول أرسطو: إن (الخير الذي يخصّ الإنسان هو فعل للنفس على ما توجب الفضيلة. فإن كانت الفضائل كثيرة، فهو فعل ما يوجبها أفضلها وأكملها.

وإنما يكون هذا الفعل في السيرة الكاملة، لأن خطّافاً واحداً لا ينذر بالربيع، ولا يوماً واحداً معتدل الهواء ينذر بذلك)[2].

إن سلوك الإنسان يتّجه إلى الكمال كلما كانت أفعاله محكومة بالتعقّل والرويّة، لأن وجود قناعات بقيم فاضلة عند الإنسان هو الذي يجعل سلوكه في حالة سموّ دائم، وسعي متواصل من أجل مزيد من الكمال. فالإنسان المتصف بالفضيلة هو ذلك الإنسان الذي يكون عنده ثبات في المواقف، وتقدّم دائم فيها نحو قيم الخير، وهذا لا يكون إلاّ للإنسان الذي اتصف بالسعادة. ومن الواضح (أن الثبات الذي ننشده ينتسب إلى الإنسان السعيد، الذي سيظلّ سعيداً طوال حياته كلّها؛ لأنه سيقوم بأفعال وتأملات موافقة للفضيلة)[3].

وهذا الإنسان الذي يقترن عنده الفكر الفاضل بالفعل الفاضل هو الذي يترفّع في حالات الشدّة، كما في حالات الرخاء، (إن الرجل الفاضل حقّاً والعاقل يتحمّل كل تقلبات الحظّ بهدوء ويستفيد من الظروف ابتغاء أن يفعل بأكبر قدر ممكن من النبل)[4].

إنسان القيم الأخلاقية عند أرسطو لا يكفي أن يمتاز بالمعرفة كما هي الحال عند سقراط، بل يجب أن تتجسّد أفكاره الفاضلة في أفعال فاضلة، وأن تكون الأفعال الفاضلة سمة عامة له في كل الأحوال، ومهما قست الظروف، لأن منهج الإنسان الفاضل يجب أن يلازمه في كل الأحوال والظروف، وليس من الجائز أن يكون التزام منهج الفضيلة موسمياً، أو مرتبطاً بظروف وأحداث.

ينتقل أرسطو بعد ذلك إلى الحديث عن قيمة النفس، وأهميتها في حصول الفضائل، فالفضيلة، وهي أمر خاص بالإنسان ـ ترتبط بالجزء المميّز له عن سائر المخلوقات ألا وهو النفس العاقلة. وبذلك يعود أرسطو إلى التقارب مع موقف أستاذه أفلاطون فتصبح القاعدة عنده: إن الإنسان بنفسه وليس ببدنه. ولذلك يصرّح قائلاً: (لست أعني بالفضيلة الإنسية فضيلة الجسد، بل فضيلة النفس. ونحن نقول إن السعادة أفضل للنفس. فواجب على صاحب تدبير المدن أن ينظر في أمر تدبير النفس... وأن يعلم أحوال النفس كيف هي)[5].

فالفضيلة الإنسية أمر ضروري للفرد وللجماعة، وهي تعتمد بشكل أساسي على ما تدبّره لها النفس العاقلة وبذلك تصبح السعادة التي هي غاية فعل الخير، هي السعادة النفسية، وليست السعادة عند أرسطو بتلبية رغبات الجسد وملذاته. على هذا الأساس تكون الفضائل والقيم  الأخلاقية أموراً تتعلّق بنتائج أفعال النفس العاقلة في كل حالاتها سواء أكانت هذه الفضائل مرتبطة بالوصول إلى الحكمة والفلسفة، أم إلى فلسفة أخلاقية سليمة، فالفضائل الفكرية عند أرسطو تتمحور حول الحكمة والفهم والعقل، والفضائل الخلقية تتمحور حول الحريّة والعفّة.

وإذا ما توقفنا عند الفضائل ـ وهي موضوع حديثنا ـ نرى أن الحرية تبدأ بالتحرّر من القيود الماديّة والحسّية التي قد تمنع النفس عن التحليق عالياً، وبعيداً عن متطلبات الجسد. والعفّة تؤدي الغرض نفسه؛ أي الترفّع فوق الصغائر، وفوق ما يدنّس سمة الفضيلة بالدناءة التي هي عكس العفة، وفي كل الأحوال الفضائل الخلقية بهذا المعنى هي شوق نفسي إلى المثل العليا، وتمرّد على الجسد والهوى.

هذا الجانب النظري في الفضيلة عند أرسطو ليس مشابهاً لما عند سقراط أو افلاطون؛ أي أنه أمر تعرفه النفس بالفطرة، أو قد عرفته من حياتها السابقة في عالم المثل، عالم الحقائق بالذات. فالنفس عند أرسطو ليس لها حياة سابقة قبل أن تحلّ في البدن، وإنما وجدت عندما أصبح هناك بدن جاهز لاستقبالها، وبذلك تكون القيم الأخلاقية الموصلة إلى الخير والسعادة عبر الأعمال الفاضلة غير متأتّية من أمور سابقة تكمن في ضمير الإنسان وفكره، وإنما هي أمور مكتسبة ـ خاصة من الممارسة ـ فمن تعوّد وتدرّب على ممارسة الأعمال الفاضلة أصبح عنده ثوابت وقيم لفلسفة أخلاقية فاضلة.

كأنّي بأرسطو يقدّم ـ وفق مفهومه هذا ـ العمل والتطبيق على القول والنظر، ويظهر ذلك في قوله: (أما الفضائل فإنّا نكتسبها إذا استعملناه أولاً، كالحال في سائر الصناعات، لأن الاشياء التي ينبغي أن نعملها إذا تعلمناها، هنا إذا عملناها تعلّمناها، مثال ذلك إذا بنينا صرنا بنّائين، وإذا ضربنا العود صرنا ضرّابين للعود، وإذا فعلنا أمور العدل صرنا عادلين، وإذا فعلنا أمور العفّة صرنا أعفّاء، وإذا فعلنا أمور الشجاعة صرنا شجعاء)[6].

الأخلاق عند أرسطو إذن ليست علماً نظرياً يتعلّق بالظواهر الأخلاقية، وإنما يتصف الإنسان بالفضيلة إذا مارسها، والمعرفة وحدها غير كافية في هذا الباب، وهذا الأمر هو الذي دفع أرسطو لإضافة الأخلاق إلى موضوعات ومباحث الفلسفة العملية.

والفضيلة عنده ليست إسرافاً في قمع الجسد لصالح النفس، وليست ميلاً كليّاً إلى اللذات الحسّية والمنفعة الخاصة. فالإفراط والتفريط فيهما خروج عن طريق الفضيلة، والإقلال أو الإكثار لا يوصلان إلى السعادة. الفضيلة هي توسّط واعتدال.

الفضيلة هي ضبط للانفعالات لتحقيق الاتّزان، وضبط للأفعال لتحقيق الاعتدال، والأمران معاً يؤديان إلى الوسطية. إن (الفضيلة لها علاقة بالانفعالات، والأفعال التي فيها الزيادة خطأ، والنقصان موضوع للذّمّ، بينما الوسط موضوع للمدح والنجاح... فالفضيلة إذن نوع من التوسّط، بمعنى أنها تستهدف الوسط)[7].

إن فضيلة التوسط هي التي تجعل أخلاق الخير تسود مما يؤدّي إلى النجاح في تدبير المدن والمجتمعات، وإلى نجاح الفرد في تدبير ذاته وإلى استقامة العلاقة بين أفراد المجتمع كافة، فكل شيء فيه نقائض مفرطة مضرة ومفسدة هو طريق الرذيلة، وما فيه توسط هو طريق الفضيلة. فالشجاعة هي توسط بين الجبن والتهوّر، والكرم وسط بين البخل والتبذير... الخ.

لذلك فإن الخير وهو فضيلة التوسط له حدّ خاص لكل نوع من الأعمال. وإذا كان الخير بمعناه المجرد هو غاية للإنسان الفاضل من أجل تحقيق السعادة له ولمجتمعه، لكن لا بدّ من تحديد الخير الخاص بكل نوع من الأفعال، وذلك لأن الخير في كل واحد من الأفعال والصناعات غيره في الآخر.

فالخير (في الطّبّ: الصحة، وفي تدبير الحرب: الظفر، وفي صناعة البناء: البيت. وهو في كل واحد من الأشياء غيره في آخر، وهو الغاية المقصودة في كل فعل واختيار... فيجب من ذلك إن كان ها هنا شيء هو غاية لجميع الأشياء التي تفعل، فهو الخير الذي ينبغي أن يفعل)[8].

إن قيمة هذا التحديد الأرسطي هي أن يكون هناك قيمة هي الغاية من كل فعل، وهي معيار الخير فيه إن تحققت. وهذا التحديد يعطي للإنسان مقياساً دقيقاً لكل فعل، وللغاية منه. وبدون هذا التحديد تضيع المعايير فيقوم كل فرد بما يحلو له، وإذا حاسبته على النتائج، يقول لك: اعتقدت الخير فيما قمت به. ولأن الأخلاق علم معياري للحكم على سلوك الأفراد والجماعات، فإن تحديد المعايير التي ستستخدم في القياس أمر أساسي ولا بد منه، حتى لا تضيع القيم المتوافق عليها.

وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يحقّق الغاية كاملة من كل عمل يقوم به، فإنه يجب أن ندرك أن الكمال هو أمر تجريدي كالسعادة ليس من المتيسر تحقيقه بالكامل، وإنما الأعمال الفاضلة التي نقوم بها، نهدف من ورائها تحقيق السعادة كغاية قائمة بذاتها فيها كمالات الأهداف المختلفة عن الفضيلة المتصف بها كل فعل بمفرده.

فالكامل (بالجملة هو الذي يؤثر لذاته أبداً... وأولى الأشياء بهذه الصفة السعادة. وذلك أن السعادة هي التي نؤثرها لنفسها، ولا نطلبها في وقت من الأوقات لغيرها. فأما الكرامة واللذة والعقل وكل فضيلة فقد نؤثرها أيضاً لنفسها... وقد نؤثرها أيضاً للسعادة إذا ظننّا أنّا إنما نصل إلى السعادة بتوسطها... إن السادة شيء كامل مكتفٍ بنفسه غاية للأشياء التي تعقل)[9].

عرفنا مع سقراط أن مصدر الفضيلة هو العلم، وأن الجهل ينتج الرذيلة دون أن يكون فاعل الرذائل مصمّماً على فعلها،  أما عند أرسطو فإن أفعال الإنسان تصدر موافقة لميله وهواه، وان من واجبه أن لا يفعل أي فعل إلاّ بعد تروٍ واختيار.

الإنسان عند أرسطو يتحمّل مسؤولية ما يقوم به لأنه فعله دون إلزام من أحد، ويصرح أرسطو عن ذلك قائلاً: (الفضيلة من الأشياء التي هي إلينا، وكذلك الخساسة... وإن كان فعل الجميل إلينا، ففعل القبيح إلينا... فإلينا إذاً أن نكون أخياراً أو شراراً)[10].

بعد ان حدّد أرسطو بعض الثوابت في فلسفته الأخلاقية، وفي مقدمتها فضيلة التوسّط في كل الأشياء، وأن الإنسان مسؤول عن أعماله لأنه يقوم بها طوعاً واختياراً، وأن الفضائل تقود إلى السعادة؛ سعادة الفرد وسعادة المجتمع كلّه إذا تمّ تدبير العلاقات فيه على أساس من أخلاق الخير، انتقل أرسطو ليتحدث عن بعض الفضائل التي تشكل أساساً مهماً في تحقيق الخير العام.

تأتي المحبة في رأس قائمة الفضائل، فهي أمر لا بدّ منه حتى تستقيم شؤون الحياة الاجتماعية للإنسان، فهو مدني بطبعه، والعلاقات المدنية يجب أن تقوم على التعاون، والدافع الأساسي للتعاون هو المحبّة. بهذا تكون المحبة ضرورية لتحقيق سعادة الإنسان التي لا تحصل إلاّ بفضل علاقات قائمة على التحابب مع سواه، والمحبة هنا تثمر له الأصدقاء الذين يكونون عوناً له.

ويرى أرسطو أن من واجب الإنسان أن (لا يظن أن هناك ملجأ آخر ما خلا الأصدقاء. وهم ملجأ الأحداث حتى لا يخطئوا، ومعونة المشايخ فيما يحتاجون إليه من المصلحة فيما بهم من نقص الفعل لضعفهم، والمحبة تعين الشباب في الأفعال الجياد... ويشبه أن يكون بالطبع، وأن يكون كإضافة الوالد للمولود، ليس في الناس فقط بك وفي الطائر وغالبية الحيوان)[11].

لقد ربط أرسطو المحبّة والتآلف مع الآخرين لتوليد الصداقة بالفطرة التي يولد عليها الإنسان، وكذلك غالبية الطير والحيوان مما يعني أن (غريزة القطيع)؛ أي غريزة الاجتماع والتعاون مسألة لا يستغني عنها كائن من كان طفلاً أم شيخاً أم شاباً. وكل واحد من هؤلاء تكون حاجته للصداقة مختلفة عن الآخر ولكن الصداقة القائمة على المحبة تكون هي الغاية المجردة التي يبغي الوصول إليها بالاعتماد على كل سلوك فاضل يقوم به لتحقيق هذا الهدف.

إن المحبّة تؤتي ثمارها إذا ما قامت على الملاءمة بين المحبوبين لبعضهم على تنوّع أنواع المحبة، وتنوّع حاجة الشخص إليها. لأن الملاءمة بين غايات الأشخاص الذين تقوم بينهم العلاقة، تؤدي إلى انتظام هذه العلاقة على أسس سليمة، وهو ما يصحّ تسميته: العدل. فأفضل أنواع الروابط بين البشر تلك الرابطة القائمة على التعاون بالعدل. في ظل هذا النوع من العلاقات يأخذ كل إنسان حقّه، ويقوم بواجبه كاملاً فينتج العدل الذي هو وضع كل إنسان حيث يجب، وينتج عن ذلك تقويه عوامل المحبة بين الأشخاص، لأن التجاوز والتسلط، وهو عكس العدل يفتح الطريق للشهوات والأنانيات، مما يولّد البغضاء والحسد، وهي أمور تعدّ من الرذائل، وهي نقيض الفضيلة.

ويقول أرسطو مركزاً على عدل الحاكم في العلاقة مع رعيته: (وفي كل واحد من السير تظهر محبة على قدر ما يظهر العدل أيضاً. أما محبة الملك في الذين يملك عليهم فعلى قدر تفاضل الإحسان. فإن الملك إذا كان خيّراً يحسن إلى من يملك عليهم ويتعهدهم لتكون أفعالهم عادلة كتعهد الراعي غنمه)[12].

لكن المحبة ليست نوعاً واحداً عند أرسطو؛ فهناك المحبة التي يريد فيها الإنسان الخير لغيره ولنفسه، وهي المحبة التي تصنّف في أنواع الأفعال الفاضلة، وهذه المحبة هي جوهر العلاقات الإنسانية. وهناك محبة مصطنعة يريدها صاحبها، أو يظهرها ويريد من ورائها تحقيق اللذة والمنفعة على حساب غيره، وهذه المحبة لا تستمر لأنها بالعرض وليست بالجوهر.

والمحبة المصطنعة ستتوقف عند انتهاء المنفعة المستهدفة من ورائها، وهذه ليست من انواع الفضائل، بل هي مضرّة، ومفسدة لفضيلة المحبة التي تولد التعاون بالعدل. إنّه من المعروف (أنّ الذين يحبّون بعضهم بعضاً يريدون الخيرات بعضهم لبعض لهذه المحبة التي يحبون بعينها. فإن الذين يحبون بعهم بعضاً لمنفعة فليس يحبون لذاتهم، بل بأن يكون لهم خير ما بعضهم من بعض. وكذلك الذين يحبون للذّة ما، فإنهم لا يحبّون العُقّل لأنهم ذوو كيفية، بل لأنهم يلتذون بهم. فالذين يحبون لمنفعة ما إنما يحبون للخير الذي هو لهم. والذين يحبون للذة إنما يحبون اللذيذ عندهم... وهذه المحبات هي بنوع العرض)[13]. فالمحبة إما تكون لغايات الخير ويكون عمادها التعقّل والحكمة، وهي مفيدة، وتقود إلى السعادة. وإما أن تقوم على اللذات الحسية وهي فاسدة ومحبة كاذبة مصطنعة.

يصل أرسطو من ذلك إلى التمييز بين الحب الصادق المفضي إلى الخير والذي يشدّ الناس إلى بعضهم بروابط تمتاز بالثبات والتواصل، وبين الحب الذي يهدف إلى لذة، وهو مصطنع، وهذا الحب يتحوّل إلى عشق قائم على أسس الجمال الحسّي، وتصبح اللذة عندها هي باب تجدّد اللقاء بين المحبوبين، وبالتالي تفسد العلاقة بعد قضاء الحاجة.

فالعشق هو من أنواع العلاقات الفطرية الغريزية، أما عندما يصل الإنسان إلى التعقّل وتجريد الحقائق فإن العلاقة ترقى فتسمو عن مستوى الحس. وبذلك يشبه أن يكون ابتداء الصداقة (اللذة التي تكون بالبصر، كمحبة العشق. فإنه لا يعشق أحد إن لم يلذّ بالبصر أولاً. والذي يفرح باللذيذ لا يعشق شيئاً أكثر منه، بل إذا أصيب بتباعده اشتهى قربه أيضاً. وكذلك لا يمكن أن يكونوا أصدقاء، إن لم يكونوا صاروا نصحاء. وأما النصحاء فلا يحبون حباً أكثر، فإنهم يريدون الخير فقط للذين هم لهم نصحاء)[14].

هنا يلتقي أرسطو مع أستاذه أفلاطون في تمجيد علاقات المحبة القائمة على العقل والحكمة، والتي يقصد من ورائها الخير للآخرين مما يقود إلى سيادة القيم الأخلاقية الخيّرة. ويذم أرسطو كأفلاطون علاقات العشق لأنها لا تقوم على العقل، وإرادة الخير، وإنما تقوم على المصلحة، وابتغاء اللذات، وكثيراً ما يستعمل العاشقان التمويه والخداع بين بعضهما لأنه لا توجد قيم تحكم العلاقة بينهما، وإنما علاقاتهما تحكمها الشهوة والغريزة مما يعطل دور الحكمة، فالعاشق لا يقدّم لمعشوقه الأشياء التي فيها النصح والخير، بل يعمل جاهداً بالتمويه عليه حتى يستمر معه في علاقة تتحقق فيها اللذة والمنفعة له. ولذا يصبح العشق طريقاً إلى رذيلة مفسدة للعلاقات المدينية الاجتماعية هي: الأنانية. وهي عكس سمة الإيثار والتضحية من أجل الآخرين التي تحقق الصداقة الحقّة التي تقود إلى الخير للجميع.

إن سمة الأنانية تطلق على كل من يفضّل نفسه على غيره، أو الذي يسعى لتأمين اللذات البهيمية حتى لو كانت على حساب الآخرين، فهذه التسمية إذن مختصة بمحبي (أنفسهم الذين يخصون أنفسهم بأكثر الأحوال والكرامات واللذات الجسمية... والذين يكثرون في الشهوة يفرحون بالشهوات وبجميع الآلام النفسانية وبالجزء اللانطقي في النفس... وخليق أن يكون أحرى أن يظنّ أنه محبّ ذاته الذي يخصّ ذاته بأجود الخيرات وأعظمها، والذي يفرح بالذي هو له بالحقيقة ويقنع به أبداً)[15].

هؤلاء الأنانيون شعارهم: (بعدي الطوفان). والوصول إلى اللذات يتطلب فعل كل وسيلة. واللذات المطلوبة عندهم تتعلّق بالجسد، وتراهم من أجل ذلك يتمردّون على قيم النفس العاقلة، ويقبلون بالألم للنفس مقابل اللذة الحسية. وهؤلاء الأنانيون لا يقيمون وزناً للصداقة ولا للمحبة، وإذا ما تظاهروا أحياناً بذلك فهم كالعشاق يتظاهرون بالمحبة من باب التمويه، لمكان النافع في الطرف الآخر، (والمقصود أن هؤلاء لم يحبّ بعضهم بعضاً، بل لم يحبّوا إلاّ لمصلحتهم... ومحبة الأخيار وحدها لا تنضب)[16].

في قول أرسطو هذا تنبيه للعقلاء الفضلاء بأن لا يثقوا بمحبة من أجل مصلحة، وأن يسعوا إلى الحب الذي يكون من الأخيار دون مصالح، أو غايات مقصودة، وهذا النوع من الحب يحافظ على صفة الثبات والتواصل.

بعد ذلك يعود أرسطو إلى ذم العشق الذي يعبّر عن أنانية، وتدفع إليه المنفعة واللذة، والعشاق ينتهون عادة إلى فشل، لأن كل وعودهم تذهب هباء، بينما العلاقات القائمة على أساس قيم أخلاقية هي التي تبقى وتثمر. عن هذا الأمر يقول أرسطو: (كثيراً ما يشكو المعشوق من أجل أنه قد وعد جميع المواعيد وليس يفعل منها شيء الآن. وإنما تعرض هذه الأشياء إذا كان يحب العاشق المعشوق لمكان اللذة، ويكون المعشوق يحب العاشق لمكان المنفعة... وأما المحبة الخلقية فمن أجل أنها بذاتها فإنها تبقى)[17].

المحبة الخلقية التي تضبطها قواعد ثابتة هي أساس المجتمع الفاضل، وهي السبيل إلى علاقات متماثلة بين الأفراد تؤدي إلى الصداقة. فالصداقة التامة (هي صداقة الأخيار المتشابهين بالفضيلة، فإن هؤلاء يريدون الخيرات بعضهم لبعضهم بنوع التشابه على أنهم أخيار بذاتهم)[18].

إن الصداقة نقيض الأنانية فالإنسان الذي يراعي علاقات الصداقة يحافظ عادة على غيره، وتكون الصداقة بين المتشابهين من الناس وفق قواعد سمتها الفضيلة، والصداقة بين الأناس الأخيار تحكمها قوى النفس العاقلة؛ أي تخضع للحكمة، ويكون عنوانها الإيثار والتضحية.

فالإنسان في حالة الصداقة الصحيحة يكون مستعداً للدفاع عن أصدقائه، واسترسالاً عن مجتمعه كلّه، وشعاره يكون: كل شيء من أجل الجماعة وأنا فرد فيها والصداقة بهذا المعنى تؤدي إلى سيادة التعاون والفضيلة في المجتمع. والفرد المضحّي تصح تسميته: الصديق الفاضل الذي (يفعل أشياء كثيرة من أجل الأصدقاء، ومن أجل الوطن، وأن يحتاج الأمر إلى أن يموت دونهم، فإنه يبذل الاموال والكرامات وبالجملة جميع الخيرات التي يتنازع فيها)[19].

الإنسان الذي يتصف بالفضيلة يكون بعيداً عن الأثرة متميّزاً بالإيثار، وغير آبهٍ (بالأنا) ومهتماً (بنحن) ولذلك يساعد وجود العدد الوافي من هؤلاء الأفراد في المجتمع على صلاحه وسيادة أخلاق الخير فيه، لأن أفراد هذا المجتمع لا يتمسّكون بملكية، ولا يبخلون بثمن تطلبه التضحية، فإنهم مستعدّون لبذل كل شيء وفق الأصول، أي وفق فضيلة (الوسط) التي يدعو لها ارسطو، والبذل تكون غايته السعادة، والخير العام لكل المجتمع. هذه الميزة تكون في كل أفراد المجتمع الذي يريدون تدبير مجتمعاتهم بما يحقّق الخير من أي فعل يقومون به.

تأسيساً على ما تقدم يمكن أن نقول: إنّ أرسطو يلتقي مع سقراط وأفلاطون في أهمية المرعفة والحكمة من أجل تحقيق الفضيلة، وكذلك يلتقي معهما بضرورة تسليط قوى النفس العاقلة على البدن. ولكنه يختلف معهما في مصدر القيم الخلقية عند الإنسان، وهي عنده تكون مجرّدة بعد سلوك موافق للفضيلة بينما يقول سقراط: إنها في فطرة الإنسان. ويقول أفلاطون: إن النفس قد عرفتها في حياتها السابقة في عالم المثل.

ومن المهم في فلسفة أرسطو الاخلاقية تركيزه على الجماعة، واعتباره الفضيلة تضحية وصداقة تؤدي إلى تدبير فاضل للمدن والمجتمعات، وهذا التدبير الفاضل يؤدي إلى السعادة التي لا تقوم إلاّ على التوسط في كل فعل يقوم به الإنسان.



[1]  أرسطوطاليس، الأخلاق، ترجمة إسحق بن حنين، حقّقه وشرحه وقدّم له د. عبد الرحمن بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، ط1، سنة 1979، ص 57.

[2]  أرسطو، الأخلاق، م. س، ص 68. الخطّاف: نوع من الطيور الجارحة.

[3]  أرسطو، الأخلاق، م. س، ص 76.

[4]  أرسطو، الأخلاق، م. س، ص 77.

[5]  أرسطو، الأخلاق، م. س، ص81.

[6]  أرسطو، الأخلاق، م.س، ص 86.

[7]  أرسطو، الأخلاق، م. س، ص 96.

[8]  أرسطو، الأخلاق م. س، ص 65.

[9]  أرسطو، الأخلاق، م.سن ص 66.

[10]  أرسطو، الأخلاق، م. س، ص118.

[11]  ارسطو، الأخلاق، م.س، ص 273.

[12]  أرسطو، الأخلاق، م. س، ص 296.

[13]  أرسطو، الأخلاق، م.س، ص 277.

[14]  أرسطو، الأخلاق، م. س، ص 316.

[15]  أرسطو، الأخلاق، م.س، ص 322.

[16]  أرسطو، الأخلاق، م.س، ص 282.

[17]  أرسطو، الأخلاق، م.س، ص 306.

[18]  أرسطو، الأخلاق، م.س، ص 279.

[19]  أرسو، الأخلاق، م.س، ص 313.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net