متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ب ـ الأخلاق البوذية
الكتاب : الأخلاق في الإسلام و الفسلة القديمة    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

                      

ب ـ الأخلاق البوذية:

ترتبط فلسفة الأخلاق البوذية بحياة مؤسسها بوذا، لذلك لا بدّ من التوقف بعض الشيء أمام سيرته.

هو (سيدهارثا) المولود في ولاية (بيهار) بالغرب من جبال الهملايا سنة 560 قبل الميلاد، وحسب التوزيع الهندوكي ينتمي لطبقة القواد والعسكر، أي الطبقة الثانية، وهذا الأمر أتاح له نشأة مترفة بقي عليها حتى بلغ الرابعة والعشرين. وأبوه كان حاكماً للمنطقة التي ولد فيها مما أعطى له لقب أمير بالولادة.

تزوج في هذه المدة وأقام ببلاط أبيه، ولكن بدأت تتحرك فيه مشاعر الرحمة، والإحساس مع الفقراء والمضطهدين مما أثّر في شخصيته التي تحوّلت من الترف والنعيم، المعاش بحكم الانتماء الطبقي، إلى القلق والاضطراب مما حمله على هجر زوجته وقصره، وهام على وجهه في غابات جبال الهملايا في محاولة بحث عن سبيل يؤدي به إلى خلاص نفسه، وخلاص الإنسانية، وخاصة المجتمع الهندي الذي فُرض البؤس على معظمه بحكم النظام الطبقي الهندوكي الجائر.

ظلّ ما يقارب سبع سنوات يخضع نفسه لأنواع من الرياضات التي عرفت بنظام (اليوجا)، فكان يلبس خشن الملبس، ويأكل ما يسدّ الرمق، وينام على الخشب... الخ. واقترنت عنده هذه المرحلة من حياته بشكل من أشكال نفي الذات، والتماهي في الآخرين سعياً لإنقاذهم. بعد هذه السنوات شرح صدره وبدأت دعوته وعنوانها: العمل على خلاص الآخرين، بعد إعلان مذهبه اشتهر باسم (بوذا) ومعناها: المستنير، أو الملهم العراف بالحقائق.

إن مذهب بوذا شابَهُ اللبس والغموض لأنه بقي متداولاً على الألسنة، واعتماداً على الذاكرة ما لا يقل عن أربعة قرون. ولكن ما يمكن تلخيصه هنا من فكره ومذهبه هو أنه قد تغافل عن الحديث في موضع الاله أو مجموعة الآلهة، وفق المعتقد الهندي وسواه، وبالتالي لا يظفر الباحث بموقف له من هذه المسألة.

لقد صرف (بوذا) جلّ اهتمامه (لحل مشكلات الناس وآلامهم، وكانت تسير دعوته في الحقيقة على خط الإصلاح الاجتماعي الاقتصادي، وهذا هو السبب في أن بوذا لم يدع أتباعه إلى ترك الدنيا والتخلّي عن شؤونها، واتخاذ الرهبانية في الحياة)[1].

لقد اهتم بوذا بالحياة العملية للبشر سعياً لإسعادهم، ولكنه لم يصرف جهداً في موضوعات دينية بحتة رغم أنه صنف نفسه في موقع معادٍ للهندوكية. فالمهم عنده ليس معرفة الله والكون، وإنما أن يتصف الإنسان بالإيثار، وحبّ الإنسان للآخرين.

وبهذه الطريقة نلاحظ أن بوذا (لم يتعرض لصفات الألوهية، ولا للمسائل الكونية، بل إنّه لم يحاول أن يناقش الأحكام الدينية أو الشعائر التي وردت في مجموعة الفيدا)[2].

فالبوذية قامت إذن، على الاهتمام بالجانب العملي السلوكي في حياة الإنسان، وبشكل أساسي إخضاع النفس لضوابط وقيود تهدف إلى قمع الشهوات، وهذا يؤدي إلى تطهير النفس وخلاصها. يقودنا هذا الأمر إلى التقرير بأن (عقيدة بوذا إذن مبادئ خلقية ودعوة قائمة على إصلاح النفس بالتأمل وتربية الخلق بالتهذيب والعمل. لذلك لم يأمر بعبادة، ولم يقم معابد ولا هياكل، وليس في عقيدته، أو دينه، قساوسة ولا رهبان ولا رجال دين ولا ناس لهم قداسة خاصة. ولعل ذلك... الذي أثار عليه البراهمة من رجال الدين)[3].

يتّجه بوذا، أول ما يتجه، في فلسفته الأخلاقية إلى النفس فهي الباب إلى صلاح الإنسان، ومن ثم المجتمع، وهي هدف مهم في مبدئه، لأن النفس عنده تطمح إلى الطهارة حتى تكون فيما بعد سامية لتندمج في اللانهائي الذي هو مجمع الأرواح، وهذا الاندماج للروح المتميّزة بالطهارة يحصل بقهر الشهوات والتغلب عليها، وهو ما يعرف عند البوذيين (بالنيرفانا).

النيرفانا لغوياً معناها: الإخماد. (فإن الإنسان الّذي لا يغذّي نيران عواطفه المتأجّجة يصل في النهاية إلى إخماد هذه العواطف، وتصبح حياته هادئة لا يقلقها إزعاج الشهوات... إننا لا نصل إلى النيرفانا، وهي انتفاء لكلّ صيرورة، إلاّ إذا أخمدنا كل فكرة دنيوية، وكل إرادة مادّيّة، وكل شهوة حسّيّة)[4].

إن إخماد الجانب الدنيوي الشهواني في الأخلاق البوذية يلغي الخصوصية التي تتميّز بها كل نفس عند حلولها في جسدها الخاص، في هذه الحال ينتقل الفرد من (الأنا) إلى (الآخر) ومن حبّ الذات إلى حبّ الآخرين، وينتج عن هذا السلوك الاستقرار الّذي يحقّق الخلاص لنا جميعاً.

وينقل في هذا الباب عن بوذا قوله: (إن نفوسنا المضطربة ليست، في حقيقة الأمر، كائنات وقوى مستقلاً بعضها عن بعض، لكنّها موجات عابرة على بحر الحياة الدافق، إنها عقدة صغيرة تتكوّن وتتكشّف في شبكة القدر حين تنشرها الريح، فإذا ما نظرنا إلى أنفسنا نظرتنا إلى أجزاء من كلّ، وإذا ما أصلحنا انفسنا وشهواتنا إصلاحاً يقتضيه الكلّ، عندئذ لا تعود أشخاصنا بما ينتابها من خيبة أمل أو هزيمة، وما يعتورها من مختلف الآلام، ومن موت لا مهرب منه ولا مفرّ، لا تعود هذه الأشخاص تحزننا حزناً مريراً كما كانت تفعل بنا من قبل؛ عندئذٍ تفنى هذه الأشخاص في خضم اللانهاية؛ إننا إذا ما تعلمنا أن نستبدل بحبّنا لأنفسنا حبّاً للناس جميعاً وللأحياء جميعاً، عندئذ ننعم آخر الأمر بما ننشد من هدوء)[5].

ولكن المسألة غير الواضحة عند بوذا هي مصير النفس، ففي الوقت الذي رفض فيه (التناسخ) الهندوكي وعدّه مدخلاً للظلم الاجتماعي بقيت عنده مسألة عقيدة الآخرة غامضة، وإذا ما أضفنا ذلك إلى لا مبالاته بموضوع العبادات والمعتقد الديني عامة أصبح ذلك سبباً لاتهام (بوذا) باللادينية.

فالبوذية ليست أكثر من فلسفة أخلاقية أقامها بوذا على مبدأ (الوسطية) الذي يقوم على ثماني شعب هي:

1 ـ الرؤية السليمة: تكون بالهدوء الدائم وعدم الاستسلام للفرح أو الحزن.

2 ـ والقرار السليم: ويتأتّى بهدوء المرء دائماً، وألاّ يفعل أذى بأي مخلوق.

3 ـ والكلام السليم: ويكون بالابتعاد عن الكذب والنميمة وعدم التلفّظ بالكلمة النابية.

4 ـ والعمل السليم: ويتأتّى بالبعد عن العمل السيء مثل التزييف، وعن أخذ السلع المسروقة، وعن اغتصاب المرء ما ليس له.

5 ـ والسلوك السليم بالابتعاد عن السرقة والقتل وفعل ما يأسف له المرء على فعله، أو يخجل منه.

6 ـ والجهد السليم: بأن يسعى المرء دائماً إلى كل ما هو خير والابتعاد عمّا هو شرّ.

7 ـ والعبرة السليمة: بأن الحقيقة هي التي تهدي المرء.

8 ـ والتركيز السليم: وهو لا يتأتّى إلاّ باتباع القواعد السابقة وبلوغ الإنسان مرحلة السلام الكامل)[6].

تأسيساً على ما سبق نلاحظ أن بوذا قد كرّس جلّ مذهبه لتأصيل الفضائل في النفس عند الإنسان، فالفضائل تطهر النفس وتجعلها سامية، والشهوات تعكّر استقرارها ولا تثمر سوى الآلام، لأن (كل لذة تحمل سمها في طيّها).

لقد سأل أحد التلامذة بوذا عن واجبات الإنسان، وضوابط سلوكه التي تجعله يحيا حياة سليمة فأجابه بوصايا خمس هي:

1 ـ لا يقتلن أحد كائناً حيّاً.

2 ـ لا يأخذن أحد ما لم يعطه.

3 ـ لا يقولنّ أحد كذباً.

4 ـ لا يشربن أحد مسكراً.

5 ـ لا يقيمن أحد على دنس)[7].

وقد أضاف بوذا إلى وصايا هذه قاعدة أخلاقية ـ اجتماعية مهمة، تقوم على ضرورة مقابلة الخطأ بالعمل الفاضل، وعنده لا يجوز مطلقاً أن يعالج الخطأ بالخطأ، فهذا يعقّد المشكلات، ولا يثمر شيئاً. من وصاياه حول طريقة معالجة الخطأ قوله: (على الإنسان أن يتغلب على غضبه بالشفقة، وأن يزيل الشرّ بالخير. إن النصر يولّد المقت لأن المهزوم في شقاء. وإن الكراهية يستحيل عليها في هذه الدنيا أن تزول بكراهية مثلها... إنما تزول الكراهية بالحب)[8].

أما بالنسبة لموضوع المرأة فموقف بوذا لم يختلف عن البراهميين، فهما متفقان على الحذر من المرأة، وتجنبها قدر الممكن، مما فرض في الهند نظام الزواج المبكر تلافياً لأية مشكلات. ونرى أن بوذا نفسه قد مارس ذلك، فالمعلوم من تاريخ حياته أنه قد هجر زوجته عندما هام في الغابات زاهدا متأملاً، وعندما عاد من رحلاته في جبال الهملايا، التي دامت قرابة سبع سنوات، وجد أن زوجته قد توفيت أثناء غيابه فلم يتزوج بعدها.

لقد توجّه أحد مريدي بوذا المقربين (أناندا) إليه بالاستفسار عن الموقف من النساء، فكان بينهما الحوار الآتي والذي يعطينا صورة عن موقف فلسفة بوذا من المرأة:

( ـ كيف ينبغي لنا يا مولاي أن نسلك إزاء النساء؟

ـ كما لو لم تكن قد رأيتهن يا أناندا.

ـ لكن ماذا نصنع لو تحتّمت علينا رؤيتهن؟

ـ لا تتحدث إليهن يا أناندا.

ـ لكن إذا ما تحدثنا إلينا يا مولاي فماذا نصنع؟

ـ كن منهن على حذرٍ تام يا أناندا)[9].

بهذا الأسلوب القائم على النواهي تأسست فلسفة بوذا الأخلاقية، ولها سند آخر هو ممارسة التأمل بأوسع معانيه لأن التأمل هو العودة إلى النفس من أجل تهذيبها، وهذا لا يستطيعه إلاّ الحكيم من الناس الذي استطاع التخلص من قيود الذات وفكّ كل علائقها مع الماديات.

إن الأخلاق البوذية شكل من أشكال الهروب من الدنيا، ودعوة للانسحاب من الحياة، ولا يمكن أن تؤخذ نمطاً حياتياً فاعلاً. لهذا السبب نذهب إلى القول (بأن المذهب البوذي في الأخلاق ذو طابع سلبي، لأنه يقوم على نفي كل قيمة للأشياء الدنيوية، وعلى جعل التأمل الذاتي شرطاً أساسياً للوصول إلى الخلاص أو سعادة النفس. وجميع تفاصيله تقريباً تقوم على نواهٍ، أي على الابتعاد عن أشياء معينة، لا على أوامر إيجابية)[10].

وإذا كانت القيمة الأساسية لأي مذهب أخلاقي هي بمقدار ما يحمل في طياته من أنواع وأساليب التربية الخلقية التي تفضي بالمتتلمذ لأن يكون عضواً فاعلاً في مجتمعه، بعد أن يكون قد تعلّم كيفية السلوك وسط الجماعة، وما هي حقوقه وواجباته كفرد منها، فإن الأخلاق البوذية لم تكن سوى دعوة غالت في الشرور التي تنتج عن المادة وعن اللذة، فوضعت نواهي سلوكية قاعدتها التشاؤم من كل ما هو متعلّق بالجسد وشؤونه، وهذا تطرف لا يضيف شيئاً جديداً ـ اللهم ـ إلاّ عند من ضعفوا في مواجهة مصاعب الحياة فآثروا العزلة والاعتكاف بعيداً عن المجتمع وشؤونه وشجونه.

نختم هذا البحث بالقول: إن حياة التقشف والزهد، التي اشتركت في الدعوة إليها الهندوكية والبوذية، حملت كثيرين من المؤرخين للفكر الديني على الحكم بأن للزهد الهندي أثراً عميقاً في نظام حياة الصوفية عند المسلمين، وفي حياة الرهبنة المسيحية.



[1]  الندوي، د. محمد إسماعيل، م. س، ص 6.

[2]  بدوي، د. السيّد محمد، م. س، ص 26.

[3]  الشرقاوي، محمود، الدين والضمير، بيروت، دار العلم للملايين، ط2، سنة1964، ص 35.

[4]  بدوي، د. السيّد محمد، م. س، ص 32، 33.

[5]  ديورانت، ول، م. س، م 1 ج3، ص 85.

[6]  الحيني، د. محمد جابر عبد العال، في العقائد والأديان، القاهرة، الهيئة المصرية العامة، سنة 1971، ص 132.

[7]  ديورانت، ول، م. س، م1، ج3، ص 77.

[8]  مظهر، سليمان، م.س، ص 79.

[9]  ديورانت، ول، م.س، م1، ج3 ، ص77.

[10]  بدوي، د. السيد محمد، م. س، ص 31.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net