متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
أ ـ الأخلاق عند البراهمة
الكتاب : الأخلاق في الإسلام و الفسلة القديمة    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

أ ـ الأخلاق عند البراهمة:

أصل كلمة (براهما)[1] يعود إلى العبادة عند الهنود، ثم تجاوز الاسم ذلك ليطلق على فئة ممن يتولون الشأن الديني (الكهنوت) وهم أرقى فئات المجتمع، وفق المعتقد الهندوسي، ومن ثم تطورت التسمية ليصبح (برهما) إله الآلهة عندهم.

ولكن الهنود رغم تقديسهم للخالق وتنزيهه والقول: إنه العالم بذاته سرمداً، إلاّ أنهم قالوا: (الإله واحد من ثلاثة آلهة يسمون: الثلاثة في واحد، يسيطرون على الكون هم: براهما الخالق ـ وفشنو الحافظ ـ وشيفا المدمر.

أما براهما فسيّد جميع الآلهة رغم أنه مهمل في شعائر العبادة الفعلية... وهو القوة الخالقة في الطبيعة... أما فشنو فهو إله الحب الذي ما أكثر ما ينقلب إنساناً ليتقدم بالعون إلى البشر... وأعظم ما يتجسد فيه فشنو هو شخصية كرشنا... يأتي بكثير من أعاجيب البطولة ومغامرات الغرام، يشفي الصمّ والعمي ويعاون المصابين بداء البرص،  ويذود عن الفقراء.

أما شيفا فعبادته من اقدم وأعمق وأبشع العناصر التي تتألف منها العقيدة الهندوكية... هو إله القسوة والتدمير..)[2].

هذا عن الإله، أما بالنسبة للكتب فأقدم ما عرف عندهم هو كتاب (الفيدا)، وهو بالأصل مجموعة كتب (تتضمن انطباعات الآريين وعقائدهم ومشاعرهم وأحاسيسهم... إنها تحكي آلهتهم وأدواتهم التي جلبوها من بلادهم مثل الحديد والخيول. وبهذا يعتبر الفيدا تاريخ الفكر الآري منذ عام 1800 ق.م. ويعتقد الباحثون أن التدوين الفني لهذا الكتاب قد تمّ خلال سنة 600 ق.م. وقد ألّف الفيدا في الحقيقة كثير من رجال الدين الآريين باللغة السنسكريتية وبالشعر وبهذا لم يكن للفيدا مؤلف واحد)[3].

وتنقل المصادر التاريخية أن أقدم كتب الفيدا وأولها هو: الرج فيدا، وكلمة رج عادة تطلق على الشعر، وبذلك يكون اسم أول كتب الفيدا: أناشيد المعرفة الروحية. إلاّ أن الشريعة الهندوكية استقرت بشكل شبه نهائي مع (كتاب مانو) الذي ألّف حوالي سنة 200 ق.م. وعلى ضوء شريعة مانو[4] يمكننا فهم التركيبة المجتمعية عند الهندوس وانعكاس ذلك على (علم الأخلاق).

في الوقوف عند الأخلاق الهندوسية يلاحظ أنها تركز على تزكية الروح، والسعي ما أمكن للتقرب من الإله الخالق بالترفع عن الأهواء والشهوات، لأن مثل هذا السلوك يجعل النفس تكتسب سمة الحياة الخيّرة عند حلولها في البدن.

وينقل البيروني فيما نسب إلى (براهم) عن هذا الموضوع: (لا بدّ للإنسان من الغذاء والسكن واللباس فلا بأس به فيها، ولكن الراحة ليست إلاّ في ترك ما عداها من الفضول ومتاعب الأعمال. فاعبدوا الله خالصاً، واسجدوا له، وتقرّبوا إليه في موضع العبادة بالتحف من الطيب والزهر، وسبّحوه وألزموه قلوبكم حتى لا تزايله، وتصدقوا على البراهمة وغيرهم، وانذروا إليه النذور الخاصة، كترك اللحم، والعامة كالصوم. والحيوانات له، فلا تميّزوها عنكم فتقتلوها. واعلموا أنه كل شيء، فما تعملونه فليكن لأجله، وإن تنعمتم من زخارف الدنيا فلا تنسوه في النيّة وإن غرضكم فيه التقوى والاقتدار على عبادته. فبهذا تنالون الخلاص دون غيره)[5].

فالوصايا الاخلاقية البرهمية تقرب من زهد وتقشف الصوفيين، وهي ليست تهذيباً للسلوك فحسب، بل هي انقطاع عن الدنيا، وخلاص من نير الشهوات مقترنة بنظرة متساوية للمخلوقات الحية من إنسان وحيوان مما جعلهم يمتنعون عن ذبح الحيوان وأكل لحمه.

ولقد أدّت الاخلاق الهندوكية إلى ما يسمى بنظام (اليوجا) المشهور عند الهنود. وكلمة (يوجا) لغوياً معناها: النير. ويقصدون بها خضوع الإنسان في نظام معيشته وسلوكه إلى نير التقشف وقمع الشهوة ليتحقق غرضه في تطهير الروح من أدران المادة لأنّ هذه الأخيرة هي أساس الألم والجهل. فاليوجا هي تحرير النفس من خلال رياضات بدنية ونفسية، تتسم غالباً بطابع القسوة والشدّة، من كل ما هو مادي ـ حسي، فهي عندهم السبيل الرئيسي لخلاص الإنسان ولبلوغه أفضل كمالاته.

الروح دون العقل عند الهندوس هي الضابط المهذّب لسلوك الإنسان، وتطهيرها، لا ازدياد المعرفة العقلية، هي الهدف الأسمى. على أساس هذا المفهوم يمكننا تلخيص. الفلسفة الخلقية البرهمية على الوجه الآتي:

(ن التدليل العقلي أقلّ جدارة بالركون إليه في هدايتنا إلى الحقيقة والصواب، من إدراك الفرد وشعوره المباشرين إذا ما أعدّ الفرد إعداداً صحيحاً لاستقباله العوامل الروحية، وأرهقت نفسه إرهاقاً باصطناع الزهد والتزام الطاعة مدى أعوام لمن يقومون على تهذيب نفسه، وأن الغاية من المعرفة ومن الفلسفة ليست هي السيطرة على العالم بقدر ما هي الخلاص منه؛ إن هدف الفكر هو التماس الحريّة من الألم المصاحب لخيبة الشهوات في أن تجد إشباعها وذلك التحرر من الشهوات نفسها)[6].

هذه الطروحات في اهمية تطهير النفس من المادة، واعتبار إشباع الشهوات سبيل الألم والشقاء كان لها صداها فيما بعد في نظام الرهبنة المسيحي، وكذلك في السلوك الصوفي عند المسلمين حيث يتداول المتصرفون القول المأثور: (الشهوة حجاب بين العبد وربّه).

ليست المعرفة بحدود البحث العقلي والتبصر بذات قيمة مهمة في نظر الهندوس بل قد تستخدم المعرفة العقلية كاقتدار على تحصيل المتطلبات البدنية، لذا نرى أن الهنود لم يكثروا من التنظير الفكري البحت في ميدان الاخلاق والسلوك، بقدر ما ركزوا اهتمامهم على الممارسة العملية للرياضات والمجاهدات البدنية والنفسية، ويؤكد لنا ما نقوله عدم بروز أسماء متعددة في ميدان الفلسفة، وترك الآثار النظرية لدرجة أن كتبهم الفيدا المقدسة جهّل كاتبها.

إن السلوك الخلقي الفاضل عندهم ليس ذلك الذي يتمتع صاحبه بالمعرفة الواسعة وإنما بالسلوك الزاهد المحصن من شرور المادة. وعندهم: إن (الوصول إلى الخلاص بالعلم لا يكون إلا بالاتّزاع[7] عن الشر، ففروعه على كثرتها راجعة إلى الطمع والغضب والجهل. وبقطع الأصول تذبل الفروع. ومدار ذلك إماتة قوتي الشهوة والغضب اللتين هما أعدى عدوّ وأوبقه[8] للإنسان، يغرّانه باللّذة في المطاعم والراحة في الانتقام، وهما بالتأدية على الآلام والآثام أولى، وبهما يشابه الإنسان السباع والبهائم، بل الشياطين والأبالسة، وعلى إيثار القوة النطقية العقلية التي بها يشابه الملائكة المقرّبين. وعلى الإعراض عن أعمال الدنيا، وليس يقدر على تركها إلاّ برفض أسبابها مع الحرص والغلبة)[9].

ولكن الوصول إلى الخلاص وتطهير النفس لا يكون إلا إذا تعلّق فكر الإنسان وقلبه بالخالق، عندها يكون هذا الارتباط نوراً لقلبه يهتدي به، ويمنحه ثبات الخطى في وجه أعاصير الشهوات، وإغراءات الحسّيّات، فترى الإنسان في هذه الحالة متغافلاً عما يحيط به من أصناف اللذة والألم، وذلك بسبب انشداده كلياً، وتعلّقه بخالقه.

فطريق الخلاص هو إهمال البدن وقواه، والانصراف بالكليّة إلى الروح وتزكيتها وتطهيرها. ومما جاء في وصايا الهندوس، التي تعزّز هذا المنهج، قولهم: (إن كنت تريد الخير المحض فاحرس أبواب بدنك... واعرف الوالج فيها والخارج منها، واحبس فؤادك عن نشر أفكاره... ولا تر الإحساس طباعاً في آلات الحواس حتى لا تتبعه. والقسم الثاني: العقلي؛ بمعرفة سوءة الموجودات المتغيّرة والصور الفانية حتى ينفر القلب عنها، وينقطع الطمع دونها... ذلك أنّ المحيط بأحوال الدنيا يعلم أن خيرها شرّ، وراحتها مستحيلة في المكافأة إلى شدّة، فيعرض عمّا يؤكّد الارتباك ويولّد المقام)[10].

إن هذا التشريع الأخلاقي الصارم في العقيدة الهندوكية الذي يستلزم مداومة ممارسة العبادات، وعدم التعلّق بزينة الدنيا، ارتبط عندهم بنظام طبقي جائر عزوه إلى الطبيعة والفطرة، ولذلك فأخلاق كل شخص تكون فاضلة بمقدار التزامه بقواعد مسلكية في حياته حدّدها له موقعه في طبقته بحيث باتت المقولة السائدة عندهم: خير لك أن تؤدي عملك المقسوم لك أداء سيّئاً من ان تؤدّي عملاً مقسوماً لغيرك أداء حسناً.

لقد تأصّل هذا النظام الطبقي في حياة الهندوس، وصار الفرد منهم يحسسه وكأنه جزء لا يتجزأ من نظام حياته "ولقد بلغ هذا التصور للأخلاق من الرسوخ في القدم مبلغاً جعل من المتعذّر على الهندوس جميعاً، ومن المستحيل على الكثرة الغالبة منهم، أن ينظروا إلى أنفسهم نظرة لا تجعلهم أعضاء طبقة معيّنة، تهديهم وتقيّدهم قوانينها)[11].

أما بالنسبة للنظام الطبقي عند الهندوس فإنهم قالوا بانقسام المجتمع إلى أربع طبقات:

1 ـ البراهمة: وهم أعلى الطبقات ترتيباً، وهم رجال الدين ومهمتهم الاشراف على المعابد، وأداء الطقوس والشعائر الدينية، وسنّ القوانين، والاشراف على التربية والتعليم.

2 ـ كشتر: وهم الطبقة التي تلي (البراهمة) ولا يبعدون عنهم كثيراً من حيث المستوى، لأنّ هؤلاء هم الأشراف، وقوّاد الجيش، والفرسان المدافعون عن البلاد، ومن هذه الطبقة يتشكّل معظم حكام البلاد وساستها وحرّاسها.

3 ـ ڤايساس: وهذه الفئة تضمّ المزارعين والتجار وأصحاب المهن.

4 ـ شودار: وهم أصحاب المهن الحقيرة والبسيطة كالخدمة وسواها، ومن أعمالهم: غسل الملابس ـ أعمال النظافة ـ ويسمونهم بالمنبوذين.

وعلى ضوء موقع كل فئة أو طبقة في المجتمع حدّدوا لها سمة خلقية عامة. وعندما تحدثوا عما يجب أن تتخلّق به كل طبقة من الطبقات، قالوا: (يجب أن يكون البرهمن وافر العقل، ساكن القلب، صادق اللهجة، ظاهر الاحتمال، ضابطاً للحواس، مؤثراً للعدول، بادي النظافة، مقبلاً على العبادة، مصروف الهمّة إلى الديانة. وأن يكون كشتر مهيباً في القلوب، شجاعاً متعظّماً، ذلق اللسان، سمح اليد، غير مبال بالشدائد، حريصاً على تيسير الخطوب. وأن يكون بشن (فايساس) مشتغلاً بالفلاحة، واقتناء السوائم[12]، والتجارة، وشودر مجتهداً في الخدمة والتملّق[13]، متحبباً إلى كل أحد بها)[14].

لم يكن ممكناً ترسيخ هذه الصيغة الطبقية الجائرة في حقّ الغالبية من سكان المجتمع لو لم يخترع كهنة البراهمة من أجل (استحكام هذه القوانين الصارمة الظالمة وتحصينها وتثبيتها وترسيخها عقيدة تسمّى: التناسخ، تلك التي تقنع الجماعات كلّها بأن هذه الطبقات ظهرت من جرّاء أعمالهم في الحياة الأولى، ونتيجة لها)[15].

فالإنسان عند موته تنتقل نفسه لتوّها إلى جسد طفل ولد لحظة وفاته. وعلى ساس هذه القاعدة لا شيء اسمه اليم الآخر في عقيدة الهندوس، وإنما ربطوا الثواب بعد الموت بعملية التناسخ التي جعلوها حلاًّ لمشكلة مصير النفس بعد موت البدن في عقيدتهم، وفي الوقت نفسه مخرجاً لتلك الطبقية التي أراد البراهمة ترسيخها ليبقوا على امتيازاتهم، ويقنعوا الناس أنهم وحدهم يتمتّعون بنقاوة الجنس التي تجيز لهم الاشتراك مع الآلهية في إدارة شؤون العالم.

ويلخّص أبو الريحان البيروني عقيدتهم بالتناسخ في قوله: (إن من استحق الاعتلاء والثواب، فإنّه يصير كأحد الملائكة، مخالطاً للمجامع الروحانية، غير محجوب عن التصرّف في السموات والكون مع أهلها... وأما من استحقّ السفول بالأوزار والآثام؛ فإنه يصير حيواناً أو نباتاً ، ويتردّد إلى أن يستحقّ ثواباً فينجو من الشدّة، أو يعقل ذاته فيخلي مركبه يخلص.

وقال بعض من مال إلى التناسخ من المتكلمين؛ إنّه على أربع مراتب: هي النسخ، وهو التوالد بين الناس، لأنّه ينسخ من شخص إلى آخر. وضدّه المسخ، ويخصّ الناس، بأن يمسخوا قردة وخنازير وفيلة. والرسخ، كالنبات، وهو أشدّ من النسخ لأنّه يرسخ ويبقى على الأيام ويدوم كالجبال، وضده الفسخ، وهو للنبات المقطوف والمذبوحات، لأنها تتلاشى ولا تعقب)[16].

قبل أن نختم الحديث عن البرهمية، أو الهندوكية لا بدّ من القول: إن الزهد عندهم مخالف للطبيعة البشرية، لأن الله تعالى أودع في الإنسان الغرائز ولم يطلب منه قمعها وإنما تنظيم، وتقنين إشباعها بما يحفظ له إنسانيته. كما أننا نشير إلى سلبية هذا النظام الطبقي الذي جعل من المواطن عضواً منذ الولادة في طبقة لا يحق له تجاوزها وفي هذا ظلم وقضاء على الطموح وإعاقة لدينامية المجتمع. أضف إلى ذلك فساد المعتقد في التناسخ الذي نتج في محاولة تبرير للنظام الطبقي المجتمعي، مما يجعل مثل هذه المعتقدات غير مجدية كثيرا في ميدان علم الأخلاق، اللهم إلاّ ذلك الجانب العملي في الإعراض عن الهوى والشهوات الذي يعطي نموذجاً لا بأس به في جانب الأخلاق العملية.



[1]  يراجع بهذا الشأن: البروني، الفلسفة الهندية، راجعه وقدم له د. الحليم محمود، وعثمان عبد المنعم يوسف، صيدا ـ بيروت، المكتبة العصرية، بدون تاريخ، ص 87.

ـ الندوي، د. محمد إسماعيل، الهند القديمة ـ حضاراتها ودياناتها القاهرة، دار الشعب، سنة 1970، ص 90 وما بعدها.

ـ مظهر، سليمان، بين السماء والأرض، القاهرة، دار النهضة العربية، سنة 1381 هـ ـ 1962، ص 12.

[2]  مظهر، سليمان، م. س، ص 28، 29.

[3]  الندوي، د. محمد إسماعيل، م. س، ص 98.

[4]  مانو: حكيم هندي ومشترع عاش في القرن الثالث قبل الميلاد وقد عالج أوجه الحياة للهندوس المتديّنين في كتابه (مانو سمهيت)؛ أي قوانن مانو.

[5]  البيروني، م. س، ص 69.

[6]  ديورانت، ول، قصة الحضارة، م. 1، ج3،  ترجمة د. زكي نجيب محمود، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمعة والنشر، ط2، سنة 1957، ص 249.

[7]  الاتّزاع: الكف والامتناع.

[8]  أوبق: من أبق العبد: هرب من سيده وأنكره.

[9]  البيروني، م. س، ص 65.

[10]  البيروني، م. س، ص 70.

[11]  ديورانت، ول، م. س، ص 171.

[12]  السوائم: الماشية والإبل الراعية.

[13]  التملّق: التودّد والتذلل، وأن يقول باللسان من كلام الود والاكرام ما ليس في قلبه.

[14]  البيروني، م. س، ص 89.

[15]  الندوي، د. محمد إسماعيل، م. س، ص 102، 103.

[16]  البيروني، م. س، ص 59.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net