الأخلاق والعلوم الأخرى
تشكّل الأخلاق العناصر الفاعلة الأساسية في توجيه أنشطة الإنسان المختلفة، وتحكم كل تصرف من تصرفاته، فقيم الأخلاق عند إنسان ما تجعل منه كريماً أو بخيلاً أو مبذّراً، وشجاعاً أو جباناً أو متهوّراً... الخ. لذلك تحتاج الأخلاق إلى اطّلاع واسع ثقافي واجتماعي حتى يستطيع الإنسان، على ضوء هذا الاطّلاع، تلمّس طريق الخير تمهيدا للسير فيه.
لهذا السبب كانت الأخلاق جزءاً أساسياً في التشريع الديني، وفي الأفكار الوضعية، حيث لا تخلو فلسفة وكتابات، وأبحاث أي مشتغل في الفلسفة والعلوم الإنسانية، من حيّز يظهر فيه الاهتمام بالأخلاق، سواء بدراسة بعض الظواهر الخلقية، وإظهار محاسنها والحضّ على التزامها، أو بصياغة فلسفة خلقية جديدة ترسم ما ينبغي أن تكون عليه أخلاق الفرد والجماعة.
ولكن مهما يكن من أمر، فإنّ كلّ الذين كتبوا في ميدان علم الأخلاق كانوا ينطلقون من الإنسان مصالح وسلوكاً ومفاهيم، فتتركّز أبحاثهم على طلب المنفعة له، والسعادة الدنيوية والأخروية، واللذة العقلية والحسّيّة... الخ. وهذا ما يقودنا إلى تعريف عام لمقاصد الأخلاق فيه: إن الفلسفة الأخلاقية تُعنى بتعريف الخير الأسمى، وتحديد القيم الأخلاقية، وبيان علاقة هذه القيم بالنشاط الإنساني، ووضع معايير Normes العدالة والحقّ والواجب والفضيلة والمسؤولية).
إن الفلسفة الأخلاقية تعتمد التعميم عادة، وتتضمن نسقاً كليّاً منسجماً ومتكاملاً لمفاهيم نظرية أخلاقية ترسم مثلاً عليا للسلوك البشري، وتصلح مقياساً يتمّ على ضوئه تقويم أي فعل أو عمل، وعلى أساسه يكون الحكم على الأشخاص... وإذا كان الإنسان ملزماً بأن يتعايش مع ذويه، فإن علاقاته بهم تحكمها عادة قواعد معينة، هي هذه المثل السابقة الذكر فتكون مواقفه تجاههم على أساسها.
يحتاج كلّ إنسان إلى فلسفة خلقية تحكم سلوكه، وهذه الفلسفة هي مجمل نظرته ومفهومه لأنماط العلاقات بين الإنسان مع العقل والحس، وبين الإنسان وسواه من المخلوقات والموجودات، لا يخلو منها أيّ إنسان بصرف النظر عن سنّه، ونضجه، وثقافته، وإن كان لا يستطيع صياغتها في نظرية مكتوبة.
وهذه الفلسفة الخلقية تنطلق من العقيدة السائدة عند الجماعة أو الشخص، ومن مجمل سمات حضارة المجتمع الذي ينتمي إليه هذا الإنسان. ولذلك يشترك فيها المفكّر والإنسان العادي، والكبير والصغير، والعالم والراعي، والاختصاصي والعامل البسيط، لأنّ كلّ إنسان هو ابن محيطه ومتكيف معه.
ولكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار موضوع إمكانية التطوير والتغيير، وهذا يقوم على أساس أنه قد يستطيع المستنير، من أبناء مجتمع ما، أن يستكشف سلبيات فلسفة أخلاقية تسود مجتمعه فيرسم طريقاً جديداً لتحقيق ما ينبغي أن يحصل لاستبدالها بما هو أفضل، ومثل هذا الشخص يرتفع إلى مرتبة المصلح الاجتماعي. وهذا الأخير يحتاج بشكل أساسي إلى الإحاطة التامة بكل شؤون مجتمعه، وإلى الفهم العميق والدقيق لكل ألوان الثقافة والأنشطة الاجتماعية التي تسود المجتمع موضوع الإصلاح.
ولاستكشاف الفلسفة الخلقية السائدة في مجتمع من المجتمعات، نحتاج إلى بحث علمي ميداني نتّجه فيه بالدراسة إلى مختلف مرافق المجتمع موضوع الدراسة، وهذا ما يسميه علماء الإنسانيات بعلم الظواهر الأخلاقية، وهو العلم الذي (يهتم بتعريف الظاهرة الخلقية، ويبحث في نشأة الضمير الأخلاقي، وأصول القواعد الأخلاقية وصلتها بالعقائد والعرف والتقاليد).
وإذا كان المفهوم لعلم الظواهر الأخلاقية يفيد أن لكل مجتمع ظواهره الأخلاقية الخاصة التي تميّزه عن مجتمع آخر، ولكن يبقى بين كل الظواهر الأخلاقية أمر مشترك هو الاهتمام بالإنسان. وهذا الاهتمام يسير في الطريق السليم إذا كانت فلسفة الأخلاق، التي تحكم هذه الظواهر، قد اعتمدت قاعدة الفهم الموضوعي والدقيق لموقع الإنسان بين المخلوقات الأخرى. وكلما ازداد الجهل بهذه المسالة تبعد فلسفة الخلق وظواهره عن تقدير الإنسان حقّ قدره، وقد يوصل العقم في الفهم للإنسان بعض الناس إلى حد الاستهتار بكل ما يتعلق بحياته الخلقية، وتعريفه وكأنّه جزء من المادة وأدوات الانتاج.
استناداً إلى ما تقدّم الحديث عنه نقول إلى كلّ المهتمين بالإنسان: لا داعي للتحليق بعيداً في عالم الخيال، وإنما الحلّ كائن في الاعتماد عند نظم القواعد الخلقية من رحاب الإيمان، ومن شريعة الله ـ الإسلام ـ حيث أقرّ سبحانه فيها التكريم لبني آدم بصرف النظر عن الجنس واللون والمستوى الاجتماعي أو العلمي أو الاقتصادي، بل جاء التحديد شاملاً عاماً في قول الله تعالى: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً).
فالتكريم في الإسلام للآدمي مهما كان، وأين ما كان. وإذا كانت فلسفة الأخلاق تتجه للإنسان كفاية بحدّ ذاته، فلكي لا تضلّ ما عليها إلاّ أن تستنبط نظرياتها على ضوء المنطلقات الإسلامية التي تتصف بالرحمة والعدل والكمال، كيف لا؟ وهي من لدن الله العزيز الحكيم.
تأسيساً على ما تقدّم تكون الظواهر الاجتماعية أموراً محدّدة بهدف هو الإنسان في أهمّ جوانب حياته، أي آدميته، وليست ظواهر الأخلاق وفلسفاتها أي كلام أو سلوك يحلو لشخص أن يقذف به عشوائياً دون ضوابط، لأن مثل هذا السلوك هو ديماغوجية وفوضوية تدمّر واقع الإنسانية، وتهدّد مستقبلها.
الإنسان هو ساحة لقاء الطبيعة بالقيم وتفاعلهما، وهذا اللقاء التفاعلي هو الذي يثمر فلسفة الأخلاق وظواهرها. وتكون الفلسفة إنسانية بمقدار سلامة القيم، وهذا ما جعلنا نطلب ذلك في الدين وليس في عقول المنظّرين، وفي ما يلي ستتضح لنا مصداقية ما نطرح عندما سنتعرّض للأخلاق المنطلقة من الإسلام، وللأخلاق المعتمدة على مفاهيم الأفراد وفلسفاتهم.
(الإنسان هو الأصل) هذا هو عنوان دراسة الأخلاق وظواهرها مهما تبدّلت الأزمنة والأمكنة، وتغيّرت الحضارات والمجتمعات. (نومهما يكن من أمر تغيّر الظواهر الأخلاقية، فإنّ من المؤكد أن الشرائع الأخلاقية لا تمثّل مجموعة من القواعد التعسفية أو الاعتباطية التي لا تخضع لأي منطق ولا تصدر عن أية معقولية، بل هي مبادئ إنسانية عقلية تستمد أصولها من قاعدة أولية عامة هي احترام الشخص البشري، وتقديس القيم الإنسانية).
إن مبادئ إنسانية عقلية تنطلق من قاعدة احترام الإنسان لأنه آدمي، لا تكون في المستوى المطلوب من الكمال والموضوعية إلاّ إذا انطلقت من مبادئ الدين وفرائضهه؛ لأن أي فكر وضعي لا بدّ أنه متأثر بأهواء صاحبه، وبالمؤثرات الاجتماعية المحيطة به.
والمبادئ الدينية، إذا تمّ الانطلاق منها، فإنّها تشكلّ الرقيب والضابط لما يجود به عقل الفرد ويستنبطه، فيحفظه ذلك من الزيغ والانحراف، لأن الانطلاق من الدين يعني تحكيم قاعدة: الإخاء بين البشر، ويعني أن أي تفسير لواحدة من أفرع الفلسفة الخلقية سيعتمد قاعدة الالتزام بأمر إلهي لا مناص منه، وليس الأمر مرتبطاً بمصالح أنانية مادية، فالحب يكون لله، والمساعدة تكون لله، والإخاء يكون في الله... الخ. لذلك تنجح أخلاقية الإنسان في إصلاحه، وإصلاح مجتمعه بمقدار اعتمادها على التأمل في الذات استنادا إلى المعايير التي حدّدها الدين للأخلاق.
وهذا ما جعل الدكتور السيّد محمد بدوي يقول: (إن الشعور الديني مهمته مراقبة وتوجيه الطاقة العقلية توجيهاً يرفعها عن عالم المادة إلى عالم الروح، أي إنّه يحوّل الأنانية الجشعة في الإنسان إلى حبّ خالص ينتهي في أرقى درجاته إلى الحبّ الإلهي. وبقدر ما تعتمد الحاسة الخلقية على الوحي الصادر من باطن الذات نجد أن الشعور الديني يبعث فيها القوة).
إنّ الشعور الديني المتولِّد عن إيمان والتزام صحيحين لا تكون مهمتهما تحديد القيم والمثل العليا الأخلاقية فحسب، بل يتجاوز الأمر ذلك بحيث يتحوّل هذا الشعور والالتزام إلى باعث ناشط في تحريك الإنسان باتجاه هذه المثل، كما أنّه يصنع في داخله قانوناً ذاتياً يمثّل دور الساهر على تنفيذ الأفعال وفق هذه المثل والقيم المستندة إلى الدين. لأن الإيمان الديني يفعل فعله في العقل والوجدان، في الفكر والإحساس فيتسامى الإنسان، بتأثير هذا الفعل، إلى مستوى يليق بإنسانيته، فيجعل منه شخصية متوازنة، تعتمد فضيلة (التوسط) في كل أفعالها دون غرق في مثالية أو مادّيّة لا تقدّمان ولا تؤخّران.
فالأخلاق إذن تحتاج حاجة ملحّة إلى الفعل الديني في شخصية الإنسان سواء كان فيلسوفاً أخلاقياً أو إنساناً عادياً. وكلّما تعمّق فهم الإنسان للفكر الديني، وللمبادئ السلوكية التي يفرضها الدين، كان ذلك سبيلاً إلى صلاح أخلاقه فلسفة وظواهر وأفعالاً.
وإذا كانت أخلاق الإنسان هي نتاج تفاعل القيم التي يؤمن بها مع طبيعته، ومحيطه، فإن النتاج الأفضل للتحكّم بالطبيعة يكون ذلك الفعل الخاضع لسلطان القواعد والمبادئ الدينية.
نخلص مما تقدّم إلى أن للعلوم الدينية سلطاناً خاصاً على فلسفة الأخلاق، ولكن هذا لا يلغي تأثير العلوم الأخرى، وارتباطها بعلم الأخلاق، خاصة وأن الأخلاق تشمل كل قسمات شخصية الإنسان الفكرية ـ الاجتماعية ـ الوجدانية الفنية... الخ، ومن بين العلوم التي ترتبط بعلاقة مع الأخلاق علم النفس، أو ما يجب تسميته علم السلوك.
إن علم النفس بعد التطوّر الذي أصابه لم يعد أحكاماً تطلق على الإنسان من خلال شكل الوجه، أو حجم الجمجمة، وإنما أصبح علماً تجريبياً يتناول كل نوع من أنواع السلوك عند الإنسان في محاولة لتفسير دوافعه، ومستلزماته، ولإدراك أهدافه. وبات هذا العلم يستخدم أساليب وأنواعاً من الاختبارات يتوصّل الباحث من خلالها إلى استكشاف متقدم في الدّقّة لقدرات الإنسان وميوله، وتحديد بعض أمراضه في محاولة لمعالجتها.
وإذا كان علم النفس هو تحليل السلوك فمعناها أنّه، إلى حد بعيد، يتطابق مع ما يمكن تسميته بعلم الظواهر الأخلاقية، الذي هو بحث ضروري من أجل فهم القيم الأخلاقية السائدة في مجتمع ما، تمهيداً لإقرارها وتجديد الالتزام بها، أو إلغائها ووضع البديل عنها. فعلم النفس يدرس السلوك ويصفه فيأتي فيلسوف الأخلاق ليعطي الحكم ـ انطلاقاً من معاييره ـ عليه إذا كان سلوكاً خيّراً أو شرّيراً.
بهذا المعنى يكون علم النفس ضرورياً لعلم الأخلاق وفلسفته، فهو يقدّم له المادة اللازمة عن سلوك الفرد أو الجماعة لمعرفة مدى توافق أو عدم توافق سلوكها مع الفضائل الخلقية، وبذلك يكون علم النفس ممهداً لعلم الأخلاق، (لأن فيلسوف الأخلاق لا يمكن أن يتجاهل دراسة: الشعور، والوجدان، والعاطفة، والرغبة، والإرادة، والانفعال... الخ، وأثرها على سلوك الفرد)
بهذه الطريقة يترابط علم الأخلاق مع علم النفس مع علم التربية، لأن التربية التي تعتمد في الغالب نظريات علم النفس، ليست سوى تنشئة الأجيال على أساس خلقي سليم، وتقويم سلوكهم بما يتناسب مع هذا الخلق السليم. وهنا تشترك القيم السائدة، أو التي يتمّ السعي لإحلالها في عقول الناشئة، مع جهود المربّين مما يولّد شخصاً ذا سلوك متزن منضبط.
وعلى هذا الأساس تصبح (الوظيفة الأولى للمربي هي العمل على تفتيح ذهن الحدث، أو الشاب، للقيم الخلقية. وكلما زادت حساسية المربّي نفسه للقيم، كان تأثيره الخلقي على النشء أقوى وأفعل).
وإذا كانت فلسفة الأخلاق سبيلاً لإصلاح تربوي فإنّ ذلك لن يكون مجدياً إذا لم ترتفع درجة الإلزام الخلقي عند المربين، وكل من يكونون في موقع المسؤولية والقدوة، حتى يشكّلوا بسلوكهم وسيرتهم باباً للدعوة إلى الأخلاق الحميدة، قبل لسانهم وكتاباتهم.
فتطابق القول والسلوك هو السبيل الناجح للإصلاح في ميدان التربية الخلقية، ومن خلال هذا الفهم لارتباط الأخلاق بالتربية وعلم النفس نوجّه الدعوة إلى كل العاملين للاصلاح لكي يحوّلوا ما يؤمنون به إلى واجبات يلتزمونها في أفعالهم وسلوكهم، ونذكّرهم بقول الله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
بعد علم النفس والتربية نجد أن علم الأخلاق يرتبط بشكل رئيسي بعلوم اللغة عند كل شعب من الشعوب، فاللغة كما نعلم هي واحدة من أهم الروابط بين الجماعات يتخاطبون بها، وهي من أهم وسائل التعبير عمّا تكّنه ذواتهم، وعند التعبير أو المخاطبة تنتج أنواع من مواقف التآلف أو التناقض، والتشجيع أو الزجر، كل ذلك على ضوء أنواع الكلمات المستخدمة في الخطاب.
وفي الأخلاق تبرز أهمية اللغة أولاً في مساعدتنا على دراسة القيم الأخلاقية، والظواهر السائدة في مجتمع معين، لأننا، وبعملية إحصاء عددي لحديث من شخص معين، أو مقال، نستطيع الحكم على شخصية المتحدث أو الكاتب. ومن استخدام شعب أو جماعة لكلمات معينة، في الخطاب الشفوي أو المكتوب، نستطيع استقراء ومعرفة توجهه وأهدافه.
فعملية تقويم أخلاق شعب من الشعوب يمكن قياسها انطلاقاً من الكلمات المستخدمة عنده في التداول اليومي. فجماعة تستخدم في خطابها كلمة (نحن) تختلف حكماً عن جماعة تستخدم كلمة (أنا). وجماعة يسودها الإيمان ستكثر من عبارات التوكّل على الله تعالى، والتوجه إليه سبحانه بكل طلب ورجاء، على عكس جماعة ملحدة ستكثر من الحديث عن المادة وأهميتها. ومجتمع جشع سيكثر فيه استخدام التعابير ذات المنحى الاقتصادي، ووضعه يختلف عن مجتمع تسوده القيم الإنسانية الطابع ستكثر فيه التعابير الجمعية التعاونية... الخ.
ومن أجل استخدام اللغة معياراً أخلاقياً يمكن (ان نعدّ قوائم خاصة بالكلمات التي تتصل بالقتل أو السرقة أو الأشياء الجنسية... الخ، وهذه القوائم تفيدنا في ناحيتين: الأولى: إن عدد الكلمات الخاصة بكل ظاهرة من هذه الظواهر يوضح لنا المكان الذي تحتلّه هذه الظاهرة في الكيان الأخلاقي العام للمجتمع. والثانية: إن الاختيار الدقيق لهذه القوائم يعطينا فكرة عن اختلاف التقويم اللغوي بين طوائف المجتمع تبعا لاختلاف ظروف معيشتها).
إن استخدام شعب من الشعوب للاصطلاحات اللغوية مفيد إذا تمّت دراسته في فهم تطور قيمه الأخلاقية من عصر إلى عصر. كما أن التركيز على كلمات معينة يعطينا صورة عن المثل العليا في هذا المجتمع. لذلك إذا أردنا أن نرقى بشخص أو جماعة في الميدان الأخلاقي يجب أن نسعى إلى تطوير استخداماته اللغوية وترقيتها؛ لأن ترقّيها دليل على رقي أفكاره ومفاهيمه، وانحدارها دليل على أخلاق الشرّ والفساد عنده. وهذا يقودنا من جديد إلى أهمية التربية حيث يكون من واجب المربين والموجّهين أن يتجنّبوا في أحاديثهم وخطاباتهم الكلمات النابية لأنها ترسّخ صوراً لمفاهيم غير سليمة في أذهان الناشئة.
ونلاحظ ذلك مثلاً في كتب الحساب للصغار حيث تطرح معظم المسائل على أنها عمليات شراء وبيع وربح وخسارة، مما يطبع في أذهان الناشئة اهتماماً مادّياً خالياً من القيم، بدل ان تطرح المسائل الحسابية على أنها صرف لزكاة، وحساب لمقدارها، أو صرف لصدقة وكميتها، أو أنها حسابات لمؤسسة إنسانية صحية أو اجتماعية أو تربوية، مما يؤدي إلى تربية المتعلّمين وفق قيم مختلفة عن الأولى.
أما الأدب الذي هو استخدام للّغة في صياغات نثرية أو شعرية تكون استعمالات الكلمات فيها دلالة على القيم الأخلاقية، كما أن المضمون أو الموضوع يكون أيضاً ذا دلالة أخلاقية.
إن رصد وبرمجة موضوعات الكتابات الأدبية في حقبة ما، ولمجتمع معين، يعطي صورة عن مثل وقيم هذا المجتمع. فالمجتمع العربي في الجاهلية مثلاً تبرز في شعره وأدبه موضوعات الترحّل، والكرم، والفروسية، في حين يزداد المدح في كتابات أدباء البلاطات، وبالمقابل يكثر الأدب التعليمي في حالات الانكباب على العلم والتطوير الحضاري.
يعدّ الأدب وثيقة مهة لدراسة ظواهر الأخلاق عن الأديب أو المعجب بأدبه لأن في الأدب تعبيراً عن مكونات ذات الشخص، وفي الأدب أيضاً عن القيم الاخلاقية للجماعة لأن الأدب ابن بيئته.
وبالتالي فإن (الأدب من الظواهر الاجتماعي مهمة التي يمكن أن تكون مصدراً غنيّاً من مصادر الدراسة الأخلاقية، ففي كل عمل أدبي عناصر ذاتية تتصل بالمؤلف هي العبقرية والخيال والأصالة في التعبير، ثم عناصر موضوعية يستمدّها من المجتمع والبيئة التي تحيط به وهي المعتقدات والعادات السائدة والاتجاهات الفكرية والخلقية).
وفي الوجه المقابل، لمسألة فائدة الأدب في دراسة الظواهر الأخلاقية لمجتمع، فإن الأدب يفيد حين دراسته أو تدريسه في إرساء قيم معينة عند الناشئة. وبذلك يكون اختيار النصوص الأدبية عند وضع البرامج الدراسية مهماً جداً لتربية الأجيال على خلق ينبغي أن يكونوا عليه. فوضع النصوص الأدبية في البرامج المدرسية وسواها ليس إلاّ نتاجاً لغرض عند القائمين بذلك فنسأل مثلاً ماهي الفائدة من وضع نص في كتب القراءة للصغار يروي كيف احتال الثعلب على الغراب عندما طلب منه أن يغنّي لتسقط من منقاره قطعة الجبن فيأخذها؟ أو غير ذلك من مثل التركيز في بعض المراحل على نصوص للشاعر عمر بن أبي ربيعة عن الإباحية والخلوة، أو عن الخمرة والمجون للشاعر أبي النّواس.
يضاف إلى العلوم التي ترتبط، بشكل أو بآخر، مع علم الأخلاق، علم الاجتماع وهذا العلم بجميع فروعه، وفي جميع أطوار المجتمع، موضوع الدراسة من بدائية إلى متحضرة، ومن ريفية إلى مدينية، وتناول علم الاجتماع للجماعة في مختلف الوان نشاطها وشؤون حياتها لا يستغني مطلقاً عن النظرة للظواهر الاجتماعية ذات الطابع المعياري والتي هي ضوابط القيم الأخلاقية وفق عقيدة وثقافة الجماعة.
وفي علم الاجتماع تتضح العلاقة مع الأخلاق بشكل أساسي في ذلك الفرع منه المسمّى: أنثروبولوجيا (علم الإنسان)، وهو علم يدرس كل نواحي حياة النوع الإنساني، والظاهرات بأشكالها المتعددة من حيث تعلّقها بالإنسان، وهذا العلم يدرس كذلك ثقافات الشعوب في كافة مراحل التاريخ وصولاً إلى الجماعات المعاصرة، والغاية هي فهم مشكلاتهم في محاولة لقيادة حركة إصلاح وسطهم.
ومن بين الدراسات الاجتماعية المرتبطة بالأخلاق تلك التي تهتم بالتراث الشعبي المتعلّق بالعادات والتقاليد، لأن هذه الأخيرة هي في نهاية المطاف أسلوب من أساليب التعبير عن واقع خلقي معين يسود هذا المجتمع، ولا يبعد عن أساليب التعبير هذه موضوع الفولكلور والغناء والرقص والزيّ، وترتيب المسكن وعادات الضيافة... الخ. فالأنماط السائدة بين جماعة معينة في هذا الباب تعطي فكرة واضحة عن المعايير الخلقية لهذا المجتمع. فأسلوب الرقص والسلام مثلاً في مجتمعات أوروبا يعطي صورة عن الانحلال الخلقي في هذه المجتمعات، أو عند من يقلدونها، في حين أن الحشمة والعلاقات المنضبطة في كل وجوه السلوك في قيم المسلمين والعرب تعطي صورة لمجتمعات تمتاز بقيم خلقية تناقض الأولى.
ويدخل في هذا الباب من جديد موضوع التربية حيث إن تعويد الإنسان منذ صغره على عادات مستقاة من فضائل العفّة والكرم والمحبّة وغيرها، يجعل المرء يلتزم في كبره أخلاق الخير دون كبير عناء. كما أن طبع عادات فاسدة في سلوك الصغار يصعب تبديلها إلاّ بعد جهد كبير. إنّ هذا الأمر يفرض على المؤسسات التربوية والثقافية والرعائية، إضافة إلى وسائل الإعلام والإعلان والدعاية، أن تدقّق في ما تعرضه من الموضوعات حتى لا ينعكس ذلك سلوكاً تدميرياً على الصعيد الأخلاقي الاجتماعي ولعلّه من الأمثلة على ذلك؛ لعبة الموت التي تكون بترك طلقة واحدة في مسدس وإدارة طاحونته بسرعة وهو موجّه إلى الرأس، وكم من الأشخاص قتلوا فيها بلبنان وفي غير لبنان. وما نقوله يفسّر لنا الغايات الإفسادية لوسائل الإعلام والإعلان حيث يربط كل عرض بالخلاعة والمجون والخيانة والجنس... الخ.
وهناك علاقة بحدود معينة بين علم التاريخ وعلم الأخلاق، لأنّ وثائق التاريخ هي حافظة الشعوب وذاكرتها، وبالتالي فإن هذه الوثائق مفيدة كثيراً ـ إذا ما تمت دراستها ـ في فهم فلسفة الأخلاق التي كانت سائدة لأخذ العبرية منها، ولأخذ الدرس للحاضر والمستقبل. فإن تراث الماضي يبقى له أثره في عقول الحاضر وتطلعات المستقبل، وبذلك يبقى للتاريخ فعله كإطار من أطر الثقافة في توجيه الشعوب، والتأثير في سلوكها وأخلاقها.
أخيراً يمكن أن نضيف إلى هذه العلوم، التي لها صلة ما بالأخلاق، علم القانون. فالقانون والأخلاق كلاهما معياري ويرسم حدود وضوابط لسلوك الفرد والجماعة، وكلاهما مستمد من عقيدة الجماعة ومنهجها الحضاري، ولكنهما يختلفان في كيفية الالتزام بهما. فالقانون تسهر على تطبيقه الحكومات وتسنّ العقوبات المادية والمعنوية لمخالفيه من أجل ضبط العلاقات بين أفراد المجتمع، أما الأخلاق فيسهر على تنفيذها ذلك النداء الوجداني المنبعث من داخل الإنسان المحدد وفق قناعاته وقيمه والذي نسميه الضمير، والعقوبات على من خالف المعايير الأخلاقية في غالبها معنوية، فهي إما أن تكون عذاب ضمير، أو أن تنبذ الجماعة صاحب الخلق السيء، ولكن من الصعب جداً الفصل أحياناً بين فعل مخالف للقانون أو للأخلاق، وقد يكون الترابط تاماً في كثير من الأحيان. فمن يسرق مثلاً يكون ذا خلق سيء، وفي الوقت نفسه يكون قد قام بجرم يعاقبه القانون، وهكذا الأمر في سلوكات عديدة.
تناولنا بهذه العجالة علاقة علم الأخلاق ببعض العلوم الأخرى لنلفت النظر إلى الموضوع، وتناولناه بالقدر الذي يتناسب مع بحثنا هذا تاركين أمر التوسع فيه لعمل يكون مخصصاً لدراسة الأخلاق والعلوم الأخرى بأسلوب مقارن قد نقوم به في المستقبل إن شاء الله، وإذا تمّ الاهتمام به من أي باحث فإننا نقول: جزاه الله عنّا كل خير.
|