الأخلاق بين المجتمع والإنسان
إن حكمة الله تعالى في خلق الإنسان جعلت الفرد قاصراً عن توفير مستلزمات حياته، وعن إعمار الأرض دون التعاون والتعايش مع سواه، وهذا ما حمل الفلاسفة والمفكرين على ترديد مقولة: (الإنسان مدني بطبعه). ولكي يحيا الإنسان حياة تكون فيها العلاقات سلمة مع أبناء جنسه، ومع سائر المخلوقات، وحتى مع موارد الطبيعة، لا بدّ من قواعد خلقية تحكم سلوكه بحيث يتصرّف وكأنه بكل سلوك من سلوكاته يسنّ قانوناً أخلاقياً اجتماعياً، وأن يرى الآخر دائماً في كل عمل يقوم به.
إذا سارت المسائل هكذا تنتظم العضوية المجتمعية للأفراد، وتتحقّق الفضيلة خاصة، إذا وضع كل عضو في المجتمع حيث يتلاءم موقعه مع قدراته. أما إذا سادت الفوضى، وانتفت الأخلاق الضابطة لسوك الناس مع أنفسهم، وبين بعضهم، عندها يسود (قانون الغاب)، ويدبّ الفساد في جسم المجتمع مما يعرّضه للانهيار والخطر.
انطلاقاً من هذه المعطيات، ورحمة بالإنسان المستخلف في الأرض، بعث الله تعالى الرسل والأنبياء لكي ينشروا الهداية والقيم النابعة من الأديان، وكان خاتمها الإسلام الذي قال الله تعالى في حامل رسالته النبي محمّد صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة: (وإنك لعلى خلق عظيم).
لذا يجب أن تولى أبحاث علم الأخلاق الاهتمام الكافي، لأن قوام الاجتماع محتاج إليها، فالأخلاق (ضرورة إنسانية، وهي ضرورة ملحّة لا تقبل الإرجاء أو التسويف، إذ إنّ كل فرد ملزم بأن يعيش، وحياته تستدعي أن يتصرّف حسب قواعد خلقية معينة).
إن أية جماعة لا تتحقق فيها العلاقات الإنسانية إلاّ إذا قامت على أساس من قواعد الخلق السليم، مما دفع الفلاسفة على امتداد تاريخ الفكر البشري أن يفردوا فصولاً، وأبواباً من كتاباتهم وابحاثهم في محاولة لتلمّس الحلول للمشكلة الخلقية.
وفي مراقبتنا لتاريخ العلاقات البشرية نلاحظ أنه قد تحركت الدوافع، منذ وعي الإنسان على ما حوله، إلى ضرورة السلوك وفق ضوابط يستمدها من عقيدته وتربيته ومحيطه. ولذلك فإن سلامة العقيدة، وحسن الالتزام بأسسها، هي السبيل إلى سلامة الأخلاق، لأن الضمير، وهو الرقيب الذاتي الكامن في كل إنسان، هو قوة معنوية تتشكل من مجموع المفاهيم التي تحكم عقيدة المرء وقناعاته، وانطلاقاً من من هذا التكوين الشخصي يمكن أن يحدّد عند كل فرد نوع الضمير.
ولكن في كل الأحوال هناك قواسم مشتركة لا بدّ للجميع من مراعاتها حتى لا تنبذهم الجماعة، أو يساهمون في سوقها إلى الهاوية. وهذه القواسم المشتركة باتت أشبه ما تكون بمسلمات خلقية تشكّل خطوطاً عريضة لخلق جمعي حول تحديد مفهومي: الخيروالشرّ، والحقّ والباطل، والفضيلة والرذيلة.
إن الحاجة للأخلاق، علماً وعملاً، تبدأ منذ اللحظات الأولى في حياة كلّ إنسان (عندما يهتف صوت الضمير: اضبط نفسك، هذّب نفسك، احترم الآخرين، ساعدهم، فإنّ هاتيك الأوامر تكون ذات معنى خفي هو: اعمل ما لا توجد أية جماعة بدونه، كن اجتماعياً في حياتك).
ينشط الضمير في كل فرد محاولاً تحريكه باتجاه فعل الخير، والانخراط مع الجماعة بسلوك متميّز بالعناصر التي سبق ذكرها. والجواب على ذلك يأخذ عند كل إنسان أحد اتجاهين: الأنانّية، أو الإيثار والنظرة الجماعية.
فبعض الناس يتجهون إلى ذواتهم بالحب، وبالجهد، كل ما يفعله هو من أجل (أناه)، والمصلحة الشخصية عنده هي مقياس الأشياء، وتحقيق اللذة والمنفعة الخاصة هو معيار جدوى أي عمل بنظره. هذا النوع من البشر تحكم سلوكه ومنهجه الحياتي المقولة الغربية: (بعدي الطوفان).
هؤلاء الأشخاص يجلبون لأنفسهم الكراهية من الآخرين، وينبذهم المجتمع، كما أنهم لا يشكلّون شيئاً يذكر في ميزان الواقع والتاريخ. إنّهم يسخّرون كل ما يتمكنون من تسخيره من بشر وإمكانات من أجل ذواتهم، شعارهم في الحياة: (كل شيء لي ولو كان ذلك على حساب الآخرين).
وعلى الجهة المضادة لهؤلاء النرجسيين ـ عشّاق الأنا ـ يقف الاجتماعيون الذين يقومون بكل فعل والمعيار المعتمد عندهم مصلحة الجماعة لا مصلحة الفرد، وهدفهم تحقيق سعادة المجتمع لا لذة الفرد. فقد يتحمّلون الشقاء أحياناً ويكونون مستعدّين للعطاء في أية لحظة إذا كان هذا العطاء يحقق خير المجموع.
هؤلاء يعرفون بالإيثار حيث المقياس بنظرهم هو مدى مشاركة الآخرين في السرّاء والضرّاء، وليست مشاركتهم بتلك التي تتوقف عند الجانب المادّي، وإنما المشاركة بمعناها الإنساني الوجداني حيث يعيش الإنسان مشكلة أقرانه بمشاعره وتفكيره كما لو أنها مشاكله هو.
إنّ هذا الصنف من البشر هو الذي يقوم على أكتافه بناء الحضارات، وبه تحقّق كرامة الإنسان لأنه يكون مستعدّاً للتضحية مهما غلا الثمن، وهؤلاء جاء فيهم قول الله تعالى: (ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة). هذا الصنف من البشر يضع عنواناً لحياته: التضحية. ومنهاجه الأخلاقي: (كلّ شيء للجماعة ولو كان ذلك على حسابي).
إن الإيثار أو الأثرة موقعان يضع المرء نفسه في أحدهما بإرادته واختياره، من هنا يمكن القول: إن نوازع الشرّ هي الدافع للأنانيّة، وإن الإرادة الخيّرة هي الأساس المهم للحياة القائمة على قواعد خلقية سليمة.
ولكن يكون من غير الصحيح، ولا المجدي، أن نفترض الإرادة والنيّة كافيتين لكي تكون أعمال الإنسان متسمة بسمة الخلق والفضيلة، فلا بدّ من أن تقترن النيّة الطيّبة بالتربية والصقل، وبالإعداد اللازم لتتوفر عند الإنسان الإمكانات التي تؤهّله لنقل ما ينويه إلآحيّز التطبيق وفوق ذلك يجب أن لا ننسى أهمية المعرفة، لأن التضحية والإقدام على العطاء لا يؤديان غرضهما إذا اقترنا بالجهل، فالمعرفة تولّد حالة الحيطة والفطنة، وتعطي للإنسان سمة حسن التبصّر قبل الاختيار، ويكون على بيّنة من الأمر فيأتي اختياره سليماً.
فالإرادة اساسها الاختيار، وسلامة الاختيار تستند إلى المعرفة. لذلك وفي ميدان الأخلاق بالذات (لا يكفي أن يكون الإنسان ذا إرادة طيّبة لكي يكون عمله أخلاقياً. وأنه حتى مع وجود خير إرادة في الدنيا، وأصدق مجهود لتحرّي الصواب، واقوى عزيمة، قد يكون من الممكن أن يخطئ الإنسان خطأ فاحشاً في نظره إلى الخير والشرّ، والعدل والظلم. وليس يكفي أن يريد الإنسان من أعماق نفسه، عمل ما يجب عمله، بل إنّه من الضروري أن يعرف ذلك، وأن تلك المعرفة لأصعب هذه الأمور غالباً).
المعرفة أمر مهم من أجل سلامة القرار والاختيار، والجهل ظلمات وهو مضرّ ولو سلمت النوايا. والأخلاق من بين المعارف المرتبطة بحياة الآدميين تحتاج أكثر من غيرها إلى النظرة الشاملة والعلم الواسع، وذلك لأن (سلطان الأخلاق يسري على جميع أنواع النشاط الإنساني، ولا يخرج عن حكم الأخلاق أي نشاط بدني أو عقلي أو فنّي أو أدبي أو روحي).
الأخلاق هي الفكر العملي، والسلوك التنفيذي للمرء، فكل فعل يصدر عن وعي من صاحبه هو ثمرة نمطه الأخلاقي. وهذا النمط الخلقي هو ثمرة التقاء عقله مع وجدانه وضميره، فالثلاثة معاً يكونون شخصية الإنسان، ويحكمون سلوكه الذي نحكم من خلاله عليه إذا كان ذا أخلاق خيّرة، أو شريرة. وبعد ذلك تتحوّل قيم الإنسان إلى شعور باطني يصاحب كل إراك أو فعل عنده بأي جانب من جوانب الحياة ارتبط، وبذلك نرى الإنسان على ضوء هذا الشعور يرتاح أو ينزعج أمام حدث ما، يطمئن أو يقلق، يقدم أو يتردّد... الخ.
إن هذا الشعور Conscience يجب ان يتجاوز الذات ليصبح مصدر مشاركة الآخرين، وسبيل الانصهار مع الجماعة، لأنّه من غير المجدي أن ينكفئ الإنسان على ذاته يوجّه لها اهتمامه، فمثل هذا الامر هو إفراط في الأنانية يهدّد وحدة المجتمع، ويطلق العنان للغريزة الخاصة، فيتحوّل الشخص في ظلّ ذلك إلى عبد للشهوة.
إن الشعور المتولّد عن قانون الأخلاق الخّيرة يتجاوز الواحد إلى الجماعة،ويضرب الأنانية لحساب الإيثار والتضحية، وبذلك يكون الشعور ليس (فقط ـ الأنا ـ متميّزة عن ـ الأنت ـ. بل يجب أن نفهم من معنى الشعور أنه الامتزاج بين الأنا والعالم الخارجي، بين التفكير والتأمل. التفكير من حيث إنه ينصب على أشياء خارجة عن الذات، والتأمل من حيث إنه ينصبّ على الذات).
الأخلاق الخيّرة هي أساس صلاح الفرد، وصلاح الجماعة. وقوام الخلق القويم المعرفة، لأنّ المرء حتى في حالة التأمّل الذاتي يكون في حالة التعرّف على قدرات النفس ومركزها حتى يتجاوز الإنسان حدوده إذا جهل حقيقة ذاته. وهذا التأمل المنطلق من الذات هو من أجل التعرّف على كيفية تسخير طاقاتها في سبيل المجموع، مثله مثل تحليل أي جسم إلى عناصره الرئيسية لمعرفة حقيقته وجوهره كمقدمة للاستفادة منه. ويجب أن تترافق مع ذلك قناعة عند كل إنسان بأنّه من المستحيل عليه أن يحلّ مشكلاته بمعزل عن الجماعة، ومع تجاوز الواقع التاريخي والاجتماعي، والحضاري عامة في مجتمعه.
فالأخلاق السليمة هي التي تكون جزءاً من قيم لأجل المجموع، لأن (القيم الأخلاقية الصحيحة ينبغي أن تعتبر بمثابة طموح إلى الوجود الإنساني الكامل، ولا يُسوَّغ لها أن تغفل امتداد جذر هذا الوجود إلى المجالات الحيوية والتاريخيّة والاجتماعية).
وهنا يجب أن نتذكر أن انتقال القيم المنطلقة من المجال الحيوي للإنسان، ومن واقع مجتمعه وحضارته، إلى حيّز التطبيق، أو السعي إلى جعلها تسود المجتمع كلّه، لا يكود إلاّ في حال وجودها راسخة في ذات الإنسان، فتربية الإنسان تربية وفق قيم خلقية صحيحة هي الضمان لصلاح المجتمع وسيادة النزعة الإنسانية فيه. فلا مكان لقيم أخلاقية إذا لم تكن مطبوعة في قناعات الأفراد، ومتحكمة في وجدانهم وفكرهم. فالإنسان هو حامل رسالة الإصلاح، وهو هدفها.
نصل من ذلك إلى الضرورة التي تحكم تلازم القيم الخلقية مع الإنسان، وحاجة الإنسان الدائمة إلى هذه القيم، فبواسطتها تتحقّق إنسانيته، وعبر الشخص تنتقل القيم الخلقية إلى حيّز التأثير الواسع. وهكذا نرى أن القيم الخلقية (ترجع إلى الشخص على اعتباره موضوع السلوك الأخلاقي، وحامل القيم الأخلاقية، وهي ترجع إلى الشخص أيضاً على اعتبار أنه محمول السلوك، ونقطة انتهائه. فالشخص هو موضوع الفعل ومحموله معاً).
تأسيساً على ما تقدّم تتضح لنا أكثر فأكثر أهمية الإنسان في إرساء القيم، وسيادة الفضيلة في المجتمعات، وهنا يحقّ لنا ان نوجّه السؤال إلى أصحاب النظرة المادّيّة، الذين يعدّون الإنسان واحداً من قوى الإنتاج وأدواته، كيف يمكن أن تصلحوا المجتمع مع إلغاء دور إنسانية الإنسان؟ وما هو البديل عن الرادع الخلقي المنبعث من داخل الإنسان؟ وكيف تمنعون التجاوزات من الأفراد على بعضهم، وكذلك الجماعات والدول، إذا ما فقدوا سمة الالتزام بالأخلاق الخيّرة؟.
إن الأخلاق، على ضوء هذه التساؤلات، ضرورة للفرد وللمجتمع، وقانونها هو الأكثر فعلاً في ضبط حركة الفرد وحركة الجماعة حيال الآخرين، لأن الالتزام بأوامره والامتناع عن نواهيه أمر اختياري إرادي، وما يلتزم به الإنسان أو المجموعة عن اختيار يكون وليد القناعة، وبالتالي تكون له صفة الفاعلية والاستمرار.
إن القانون الخلقي الذي يشكّل قوة معنوية في ذات الفرد يطلق عليها اسم (الضمير)، وهو معيار الخير والشرّ الذي نصف به كلّ عمل يصدر عن الفرد أو عن الجماعة، وإذا تعطّل دور هذا القانون تزول صفة الأخلاق الخيّرة عن ي فعل، وهذا ما يقود إلى الاعتراف بأن (الضمير الأخلاقي هو ذلك التأثير الذي تمارسه الذات الإرادية على مجموع المحتوى العقلي بحيث تستطيع أن تتحكّم في نشاطه، فتبيح أو تمنع، وتيسّر أو تقيّد كل حرة تصدر عن الاندفاع التلقائي).
إن عملية التنظيم للاهتمامات والحاجات هي مسألة خاصة بالإنسان، لأنه ميِّز بالعقل الذي يجعله قادراً على ضبط سلوكه، وتقنين صرف طاقاته، وتلبية رغباته. وبمقدار ما يتمكّن المرء من عمليات الضبط والتنظيم تتسامى قيمه، وتتحقّق إنسانيته مما يجلب الخير له ولمجتمعه. والإنسان صاحب القدرة على الضبط والتنظيم، هو القائد الأساسي لعمليات التطوير بحكم استخلافه في الأرض.
فالأخلاق ضرورة إنسانية اجتماعية، وقرينة وجود الإنسان وصلاح أمره. وهذه الضرورة دفعت الشاعر أحمد شوقي إلى اعتبار الأخلاق أساساً مهماً في حياة الأمم والشعوب حيث يقول:
وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت
|
|
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
|
والأخلاق مختصة بالجماعة البشرية دون سائر المخلوقات لأن (الإنسان بين كائنات الطبيعة جميعاً، أقدرها على مراقبة دوافعه، والعمل على قمعها، أو هو أحرص على تنظيم بواعثه، والاهتمام بإبدالها وإعلائها، وهذا هو السبب في أننا نقول عن الإنسان: إنه الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يستبدل بالنظام الحيوي للحاجات نظاماً خلقياً للقيم، والحق أن الإنسان هو: موجود القيم الذين لا يقنع دائماً بما هو كائن، بل يحاول، في كثير من الأحيان، تجاوز الواقع من أجل الاتجاه نحو ما ينبغي أن يكون).
وعلى هذا الأساس يكون علم الأخلاق علماً معيارياً ضرورياً للإنسان، مرتبطاً به، وهو ليس تقريراً لوقائع أو ظواهر، أو استسلاماً للأمر الواقع، وإنما يجب أن تتجاوز اهتمامات المرء فيه الواقع المعاش إلى المثل العليا التي ينبغي أن يسعى إليها، ويولّد حركة مجتمعية عامة باتجاهها.
إن حياة الإنسان يجب أن تكون سعياً إلى أهداف واضحة رائدها السموّ بالإنسان إلى مزيد من الإنسانية، واعتماد الفكر والعقل مع ضبط الحواس والأحاسيس والغريزة والعاطفة. إن الإنسان، بحكم تميّزه بالتعقّل والنطق، يستطيع أن (يكّون لنفسه فكرة عليا عن كلّ معين أو نمط خاص يحتذيه في سلوكه، ويسعى جاهداً في سبيل صبغ حياته بصبغة معينة من النظام أو التنسيق. وما كان الإنسان موجوداً أخلاقياً إلاّ لأنه كائن عاقل يملك من الفكر والإرادة ما يستطيع معه تجاوز مستوى الغريزة والتسامي إلى مستوى السلوك الأخلاقي الحر).
قبل اختتام البحث في هذه النقطة أريد أن أنبّه إلى مسألة هي: إذا كان الإنسان قد مُيّز بالعقل، فهذا لا يعني أنه سيكوّن نمطه الأخلاقي الكلّي من فراغ استناداً إلى هذا العقل بإطلاق العنان له، لأننا في هذه الحالة نقع في محظور وقع فيه أغلب الفلاسفة عندما حاولوا وضع فلسفة أخلاقية بالاعتماد على جانب واحد من جوانب الشخصية كاللذة، أو السعادة، أو الاعتدال... الخ. فالأمر عندنا لا يحتاج إلى هذه الإشكالية الفلسفية، لأن الله تعالى قد أكرمنا بشريعته العادلة وفيها تكامل القيم، ومنطلقات أي تفكير خلقي. وبالتالي أية فلسفة عملية تتعلّق بالأخلاق يجب أن تستنير بها، وأن لا يخرج العقل والفكر عن ضوابطها حتى لا يحلّق بعيداً في عالم الأسطورة، أو ينحدر في مهاوي مادّيّة قاتلة.
ولعل أهمية الأخلاق المنطلقة من المعتقد الديني، والملتزمة بضوابط الشريعة، تكمن في أنها تحمل بالنسبة للمؤمنين معنى الالتزام، وهذا أمر مهم لأن القواعد الأخلاقية تكون عديمة القيمة وعاجزة إذا فقدت ميزة الإلزام، فالالتزام من قبل الأفراد بقواعد الخلق السليم يحتاج إلى الإلزام الذي يشعر الفرد إزاءه بأنه محاسب على فعله، فلنفسه ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
استناداً إلى موضوعي الإلزام والالتزام وأهميتهما في الأخلاق نقول بأن الدين وحده يعدّ (أهم مصادر الإلزام الديني والخلقي معاً عند المؤمنين بالدين. فالدين، بما يتضمنه من معتقدات ومبادئ وأوامر ونواهٍ ورغائب وقيم ومثل عليا أو قواعد عامة للسلوك، يلعب بالتأكيد دوراً مهماً في حياة المؤمنين به ويكون مصدراً أساسياً من مصادر الإلزام الأخلاقي. ومما يميز القواعد الخلقية المستمدّة من الدين عن القواعد الخلقية المستمدّة من الذات والمجتمع هو عمومها وإطلاقها وإنسانيتها وقدسيتها وخلودها وبقاؤها عبر الأجيال. وهي تستمد قدسيتها من مصدرها الإلهي حيث إنها في النهاية ترجع إلى الوحي المنزل من عند الله).
إن الإنسان لا يمكنه البقاء، أو الاستقرار، خارج مجتمع بشري يكون عضواً فاعلاً فيه، وشؤون الأفراد والمجتمع لا تصلح وتستقيم دون وجود الوازع الخلقي ذي الضوابط الملزمة، وهذه الضرورة لا يمكن الحصول عليها بشكلها الراقي إلاّ من أخلاق مستمدة من التشريع الديني، وبذلك تكون الأخلاق الدينية دون سواها هي ركيزة صلاح الأفراد والجماعات، وأي فلسفات حليقة وضعية ستتحكم فيها الذاتية والأهواء، وستؤول بالمجتمع إلى الفوضى والانهيار.
|