نقد النظام القضائي الغربي
ولاريب ان العبارات البراقة التي يصف بها مناصرة والفكرة الرأسمالية ، النظام القضائي الغربي وخصوصاً الامريكي ويوسمونه بالعدالة والنزاهة والقوة في الحكم بين المتخاصمين واحقاق الحق ، ما هي الا عبارات يراد منها ايهام الناس بتكامل ذلك النظام القضائي حقيقة وواقعاً ، وخداعهم بان قضاءً عظيماً ـ كالقضاء الامريكي ـ لابد وان يكون وليد حضارة عظيمة ، كالحضارة الرأسمالية الغربية.
ولكن نظرة منصفة سريعة تبين لنا ان ذلك النظام القضائي بعيد عن التكامل والعدالة المزعومة . ولتوضيح القصد من قولنا هذا لابد من تبيين المؤخذات التي نؤاخذها على النظام القضائي الغربي وخصوصاً الامريكي في الموارد الآتية :
اولاً : يمنح النظام القضائي الغربي النائب العام صلاحية اختيار وانتقاء الجرائم يرى في ملاحقتها مصلحة اجتماعية (1) . بمعنى ان للنائب العام سلطة اهمال جرائم معينة بحجة ان كشفها للرأي العام ، وملاحقة المجرمين المتورطين في وقائعها ليس من المصلحة الاجتماعية . وهذا شرخ ____________ (1) ( جوزيف سكوت ) و( ترافيس هيرشي ) . قضايا مشيرة للجدل في الجريمة والعدالة . كاليفورنيا : سيك ، 1988 م.
( 273 ) خطير في العدالة القضائية . فاذا كان ادعاء النظام القضائي بان الانتقاء يرشح الجرائم الخطيرة ويوصلها الى اروقة المحاكم ، فمن الذي يعين ـ ودون مصلحة شخصية ـ حدود الجرائم الخطيرة عن غيرها ؟ واذا كان النظام القضائي لا يستطيع معالجة جميع الجرائم ، فاين العدالة في التمييز بين ضحايا الجرائم الصغيرة وضحايا الجرائم الكبيرة بدعوى ان النائب العام هو اعرف بالمصلحة الاجتماعية من غيره ؟ وهل هناك جرائم صالحة للمحاكمة واخرى غير صالحة ؟ أليس الانحراف اصلاً من الاصول الاجرامية التي تستحق عقوبة رادعة للجاني حتى يعيش المجتمع الانساني في امان وثقة بأن الحق سوف يرد حتماً فيما اذا اغتصب ؟
ثانياً : ان منصب النائب العام في النظام الرأسمالي ـ الذي يمثل الدولة في الاعتقال ، والاستجواب ، والمحاكمة ، واصدار العقوبة ـ يشغل من قبل فرد يعينه رئيس الجهاز التنفيذي على مستوى المحاكم الفيدرالية ، او يشغل عن طريق الانتخاب من قبل الناخبين على مستوى المحاكم المحلية (1) . وليس هناك من سبب يدعو النظام الغربي الى تعيين ضابط من ضباط المحكمة وهو النائب العام على المستوى الفيدرالي ، وانتخابه على المستوى المحلي ، الا تثبيت سلطة الطبقة الرأسمالية الحاكمة ، وذلك بمنح السلطة الفيدرالية قوة قضائية اعظم من قوة السلطة المحلية ؛ والا لو كان المقياس العدالة القضائية فلماذا لا يتم انتخاب النائب العام الفيدرالي ايضاً كما تم انتخاب النائب العام ____________ (1) ( جيمس كالفي ) و( سوسان كو لمان ) . القوانين الامريكية والانظمة التشريعية . نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1989 م.
( 274 ) المحلي ؟
ثالثاً : ويقف محامي الدفاع في القضية الجنائية الخطيرة موقفاً متناقضاً (1) . ففي حالة تمثيله المتهم في العملية القضائية ، فانه ينظر اولاً الى مساندة النظام القضائي حتى لو اوقعت تلك المساندة ضرراً على موكله . واذا كان المتهم جانياً في الواقع فكيف يحق له مساندة ذلك المتهم ، والدفاع عن قضيته ضد المجني عليه ؟ أليس هذا مناقضاً لمفهوم العدالة الجنائية ؟ واذا كان محامي الدفاع يعلم علم اليقين ان الشاهد الواقف الى جانب الجاني يشهد شهادة كاذبة ، فهل يحق لمحامي الدفاع ان يجد في اقناع المحكمة بتصديق تلك الشهادة ؟ بمعنى ان محامي الدفاع لو كان يعلم يقيناً ان موكله ارتكب الجريمة المتهم بها ، ولكن وقائع الحادث والشهود لا تنهض بمرافعة عادلة ، فهل من العدالة ان يقوم محامي الدفاع بالدفاع عن الجاني ، وانقاذ رقبته من سيف العدالة ؟
رابعاً : اقناع محامي الدفاع للمتهم ، بشتى الوسائل النفسية على الاقرار بالذنب . وهذه المساومة التي يحاول النائب العام ـ بالتعاون مع محامي الدفاع ـ ايقاع المتهم في شراكها قبل اجراء المحاكمة ، تتناقض مع ابسط مفاهيم العدالة القانونية ، وتعتبر من اكبر المظالم التي تدين النظام القضائي الرأسمالي في الولايات المتحدة (2) . فيعتبر اقرار المتهم بالذنب ـ حتى لو كان ____________ (1) ( جارلس سلبرمان ) . العنف الجنائي والعدالة الجنائية . نيويورك : راندوم هاوس ، 1978 م. (2) ( جوزيف سكوت ) و( ترافيس هيرشي ) . قضايا مثيرة للجدل في الجريمة والعدالة . كاليفورنيا : سيك ، 1988 م.
( 275 ) المتهم بريئاً ـ انتصاراً لمحامي الدفاع في اروقة المحكمة . بل ان الاقرار بالذنب غالباً ما يصمم وينظم من قبل محامي الدفاع ، بحيث يكون مناسباً لمتطلبات النائب العام ومتناسباً مع المصلحة الاجتماعية ! ولاجل ذلك يستخدم محامي الدفاع شتى الاساليب النفسية لا نتزاع الاقرار بالذنب من المتهم ، مستعملا الاساليب العالطفية السايكولوجية لكسر صمود المتهم ، الى ان يضمن امضاءه على لائحة الاقرار بالذنب عن طريق الايحاء بان العقوبة ستخفف الى ادنى قدر يسمح به القانون . واذا كان المتهم جانياً في الواقع ، وكانت الافادات والشهادات تثبت قيامه بارتكاب الجناية ، فما معنى تخفيف عقوبته مقابل اقراره بالذنب . أليس هذا ظلماً واجحافاً بحق الضحية ؟ واذا كان المتهم بريئاً في واقع الامر ، ولكن الافادات والشهادات لا تثبت براءته ولا تجريمه ، أليس من الظلم اقناعه او اكراهه بالاقرار بالذنب مقابل تخفيف العقوبة الصادرة بحقه ؟ واذا كان المتهم البريء يقبل المساومة على الاقرار بالذنب ـ لانه يخشى صرامة العقوبة الصادرة بحقه فيما اذا جرت المحاكمة ـ أليس هذا شرخاً في عدالة النظام الرأسمالي ؟ واذا كان المفترض في محامي الدفاع نزاهته وتفانية في الدفاع عن موكله ، فكيف يفسر النظام القضائي الرأسمالي لهث ذلك المحامي وراء اقناع موكله بالاقرار بالذنب ـ بريئاً كان او جانياً ـ أليس هذا مناقضاً لادعاءات النظام بأحقية المتهم في التمثيل القانوني العادل ؟ بل ما معنى التمثيل القانوني اذا كان لايصب في مصلحة المتهم البريء ؟ وما معنى التمثيل القانوني اذا كان يصب في مصلحة الجاني ضد المجني عليه ؟
( 276 )
خامساً : ان النظام القضائي الرأسمالي في الولايات المتحدة لا يطلب من القاضي ان يكون حقوقياً او قانونياً او حتى حاملاً لاية شهادة جامعية (1) ؛ لان الذي يقوم بتحضير مستلزمات القضية الجنائية هو النائب العام مستعيناً بجهاز الشرطة والاستخبارات . اما الذي يحكم في القضية الجنائية فهم اعضاء هيئة المحلفين بالاجماع . وما على الحاكم الا قراءة الحكم الصادر بصورة شفهية . بمعنى ان الحاكم او القاضي الرأسمالي هو مجرد اداري يشرف على سير المحاكمة الجنائية وصياغة ألفاظ الحكم ، ولا يستطيع بحضور هيئة المحلفين ان ينشئ حكماً ضد المتهم ، بل له ـ فقط ـ تحديد العقوبة او تعليقها . والاصل في النظام القضائي الغربي ان المحكمة جهاز اداري يفصل بين الخصومات على اساس النظر الشخصي لأعضاء هيئة المحلفين ، او النظر الشخصي للحاكم (2) دون الاخذ بنظر الاعتبار درجة علمية هؤلاء الافراد بالقضايا القانونية والادارية . وهذه هفوة خطيرة اخرى في عدالة النظام القضائي الرأسمالي في الولايات المتحدة.
سادساً : ان الكفالة المالية التي اقرها الدستور الامريكي في التعديل الثامن ، انما جاءت للتأكيد على ضمان اطلاق سراح المتهمين من افراد الطبقة الغنية لحين ورود موعد المحاكمة (3) . اما افراد الطبقة الفقيرة ، فليس لهم من يكفلهم ، لان اقرانهم وذويهم لا يملكون المال الكافي لدفع الكفالة المالية ، ____________ (1) ( ابراهام بلوبرغ ) . العدالة الجنائية : القضايا والسخرية . نيويورك : فيوبوينت ، 1979 م. (2) ( والترميرفي ) و( هيرمان بريشت ) . المحاكم ، القضاة ، والسياسة : مقدمة في الاجراءات القضائية . نيويورك : راندوم هاوس ، 1986 م. (3) ( ماكلين فليمنك ) . ثمن العدالة الواقعية التامة . نيويورك : الكتب الاساسية ، 1974 م.
( 277 ) فيبقى المتهمون في السجون فترة غير قصيرة ، ينقطعون فيها عن الانتاج وإعاشة انفسهم وعوائلهم . والكفالة المالية اسلوب آخر من اساليب التمييز بين الفقراء والاغنياء ؛ لان المال هنا يستثمر كخط احمر يفصل بين الحرية والانعتاق ، والعبودية والتقييد . فالثري يخرج حراً مزاولاً عمله الانتاجي حتى يحين موعد المحاكمة ، والفقير يخسر عمله وحريته حتى يحين وقت المحاكمة . واذا كان النظام القضائي الرأسمالي يزعم بعدالة نظامه ، فاين هي العدالة بين الافراد في استخدام المال في كفالة المتهمين ؟
سابعاً : ان اختيار هيئة المحلفين من دفاتر الضريبة ، دون النظر لعلمهم بالقضاء والحكم (1) ، لايزال محل نقد شديد . فكيف يستطيع اثنا عشر فرداً من عامة الناس الحكم على قضية جنائية تتعلق بالقتل او الغصب او السرقة ؟ بل كيف يجلس هؤلاء عملياً ـ وقد يكون بعضهم لا يعرف القراءة ولا الكتابة ـ مجلس القاضي في الحكم بين المتخاصمين ، ويصدرون قراراتهم بتجريم المتهم او باعلان تبرئته ؟ اما الشروط التي تحدد انتقاء هؤلاء فهي لا تتعدى في الواقع الملكية الخاصة والقدرة العقلية العامة على الفهم الخارجي (2) ، وهل هذه الشروط العامة تنهض الى مقام القضاء الرفيع ؟ بل كيف يطمئن الفرد اذا اتهم وقدم الى المحاكمة بعدالة حكم هيئة المحلفين ، التي يستند عليها القاضي في اصدار العقوبة بحق المتهم ؟ وبالتالي من يضمن ____________ (1) ( لويد واينرب ) . التنكر للعدالة : الاجراءات الجنائية في الولايات المتحدة . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1979 م. (2) ( جون جينثر ) . هيئة المحلفين في امريكا . واشنطن : حقائق على الملف ، 1988 م.
( 278 ) عدالة النظام القضائي بخصوص معاقبة الجاني وتعويض المجني عليه ؟
ثامناً : ان نظام العقوبات غير المحددة التي اقترحها اصلاحيو القرن الثامن عشر الميلادي امثال ( اينوخ ويانز ) و( زبلون بروكوي ) وادعوا فيها ان عقوبة السجن ينبغي ان تصمم لمقابلة حاجة الجاني المرضية والنفسية والشخصية (1) ، بعيد كل البعد عن نظام العدالة القضائية . فكيف يستطيع قضاة النظام الرأسمالي تحقيق العدالة بين فردين ارتكبا نفس الجناية ، ولكن احدهما عوقب بالسجن لمدة سنة واحدة ، والآخر بالسجن لمدة عشر سنوات ؟ ومن الذي يحدد حاجة الجناة الشخصية للعقوبة ؟ ثم الا يعد اعطاء حق القضاء للطب النفساني ظلماً واجحافاً بالجاني والمجني عليه ؟ ثم الا يعد عدم معاقبة الجاني معاقبة صارمة اضعافاً لقوة النظام القضائي وقدرته على مكافحة الاجرام والانحراف ؟ اضف الى ذلك ان هذا النظام الاصلاحي المزعوم يسلب حق العقوبة من النظام القضائي ، ويضعها بيد نظام آخر كالنظام الطبي النفساني ، على افتراض ان علم النفس هو الذي يحدد حاجة الجاني للعقوبة ، وهو اصلاح ينافي ـ بالتأكيد ـ كل معاني العدالة الاجتماعية والقضائية.
وفي الختام ، فان اهتمامنا بدارسة ونقد الانظمة القضائية والاجتماعية الغربية ونحوها يعطينا فرصة عظيمة لاكتشاف النظرية القرآنية والاهتمام ببلورتها ومعرفة مواطن الكمال في بنائها العلوي . ولاشك ان النظرية الاجتماعية الاسلامية التي لاحظنا ملامحها في كتاب الله الخالد هي اكمل النظريات الاجتماعية وادقها على وجه الارض. ____________ (1) ( بيتر كونراد ) و( جوزيف شنايدر ) . الانحراف والتطبيب . سانت لويس : موزبي ، 1980 م.
|