خصائص النظام السياسي الاسلامي
ولسنا هنا في مقام تحليل اسباب نشوء النظام السياسي في المجتمع الانساني ، حسب نظريات علم نشوء الانسان ( الانثروبولوجي ) . ولكننا نجمل القول حول نشوء الدولة ونقول ان الرسالات السماوية هي التي حددت نظام الدولة بجهازها الاداري لحفظ حقوق الافراد الاجتماعية ضد الظلم والتسلط والاستبداد . وليس غريباً ان نلاحظ ان منهاج الرسالات السماوية كان يعبر عن تحدي الأنظمة السياسية المستبدة بحقوق الافراد في المجتمع الانساني ؛ لأن اطروحة الانبياء (ع) تتلخص بنظرية اساسية تقول ان تحرير الانسان من قيوده الاجتماعية التي فرضها عليه انسان آخر ، سيجعله حراً في عبادة الخالق عز وجل . فاذا ضمنت حرية الانسان من الاغلال والقيود الاجتماعية الظالمة ، ضمنت عبادته لله جل وعلا . وعلى ذلك سار الانبياء (ع) في المناداة بتنظيم شؤون الاجتماع الانساني ، حتى يستطيع الفرد التعبد بكل حرية ودون قيد أو خوف.
ولاشك ان وجود الدولة يعتبر عنصراً اساسياً في تحقيق العدالة الاجتماعية التي نادى بها الاسلام ؛ فهي تشرف على توزيع الخيرات ، وتخطط لمستقبل البلاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، وتقيم علاقاتها مع الدول الاخرى حتى يتحقق العدل الاجتماعي في جميع اقطار الارض.
( 236 )
فتشابك مصالح الافراد على الساحة الاجتماعية يستلزم انشاء القوانين التي تنظم حياتهم وتحفظ مصالحهم ؛ وعلى ضوء ذلك يتولى الفقيه الاعلم تطبيق القوانين الجنائية السمتمدة من الشريعة الاسلامية ، وهي التي تتعلق بمعاقبة المنحرفين، كالقصاص والدية التعزير ونحوها . اما القوانين المدنية ـ وهي التي تتعلق بحفظ حقوق الافراد والجماعة والدفاع عنها ـ فيشرف عليها الفقيه اشرافاً عاماً ، ولكن يرجع في اصدارها الى أهل الاختصاص في الحكومة والموكلين في مجلس الشورى . فحق التعليم ثابت لكل الافراد في المجتمع الاسلامي ، لكن تعيين المدرسين وتحديد مؤهلاتهم ، وبناء المدارس وتحديد صلاحياتها لاستقبال الطلبة ، ووضع المناهج الدراسية وتحديد محتواها العلمي ، يرجع الى مجلس الشورى ووزارة المعارف او التربية لاستصدار القوانين اللازمة لتنفيذها.
وكذلك الامر في توزيع الخيرات ؛ فالدولة من خلال استثمارها الموارد الطبيعية تستطيع سد حاجات افرادها الغذائية والصحية والسكنية ، ورفع مستوى الناس في كل النواحي التي يتطلبها الاجتماع الانساني بل ان فائض موارد الدولة يمكن ان يصرف على تشجيع طلب العلم ، والبحوث العلمية التجريبية التي تنفع الانسان وتقربه من معرفة اسرار الكون والخلق ، حتى يستطيع عبادة خالقة العظيم عن طريق العلم والوعي الادراك . فالدولة الاسلامية يجب ان تكون الدولة الرائدة بين دول العالم بخصوص قيادة الابحاث التجريبية التي توصل الى معرفة الله سبحانه ، ومنفعة البشرية.
( 237 )
ويعتبر التخطيط لمستقبل البلاد ـ بطبيعة الحال ـ من أهم واجبات الدولة الاسلامية . ولعل حديثه (ص) مع الاعرابي عندما ترك ناقته ودخل المسجد متوكلاً على الله ، فقال له : ( اعقل وتوكل ) ، ووصية الامام علي (ع) لمالك الاشتر يقربان من فهمنا لمسألة تخطيط الدولة ، وتوجيه دفة النظام الاجتماعي نحو الكمال . فعقل الناقة أو ربطها نموذج مصغر للسيطرة على ذلك الحيوان والاطمئنان الى عدم فراره ، وهي قضية موضوعية على نطاق المستوى الفردي . اما على المستوى الجماعي العام ، فلابد من الاطمئنان الى سير السفينة الاجتماعية نحو هدف معلوم ضن تخطيط واضح مدروس . ولما كانت البلاد الاسلامية محاطة بالاعداء غالباً ، فان الدولة هي التي تخطط لمستقبل البلاد العسكري عن طريق التجنيد ، والتصنيع الحربي ، واختراع الاجهزة المتطورة للتفوق على العدو ، وارغامه على الخضوع للحق.
ولاشك ان العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة ، الذي نادى به ( توماس هوبس ) في القرن السابع عشر الميلادي ، وأكد فيه على ان الفرد يجب ان يقبل بالتضحية بحريته الاجتماعية مقابل تجنب الفوضى الاجتماعية (1) ، ليس مورد بحث في النظرية الاجتماعية الاسلامية لعدة اسباب منها : اولاً : ان الله سبحانه وتعالى أمر جميع المكلفين بطاعة الرسل (ع) ، كما ورد في قوله تعالى : ( وما ارسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله ... ) (2). ____________ (1) ( توماس هوبس ) . الدولة . نيويورك : مطبعة الفنون الليبرالية ، 1958 م . الطبعة الاولى عام 1598 م. (2) النساء : 64.
( 238 ) ولما كانت الرسل (ع) تنادي بانشاء الدولة القائمة على أسس العدالة الاجتماعية ، فان اطاعة قوانينها يعتبر الزاماً شرعياً لجميع المكلفين . فالقضية هنا ليست حرية الفرد مقابل نظام الجماعة ، بقدر ما هي طاعة الفرد المكلف لله تعالى ضمن نظام الجماعة ؛ وبالتالي الطاعة الجماعية للخالق عز وجل ضمن النظام الاجتماعي . ثانياً : ان للامة الاسلامية دوراً اساسياً في المشاركة السياسية ، وهذا هو معنى الاستخلاف الذي أوردته الآيات القرآنية الشريفة : ( واذ قال ربك للملائكة اني جاعلٌ في الارض خليفة ... ) (1) ، ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم ) (2) . وعلى ضوء ذلك فان العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة لا يتحقق ، لأن الفرد في النظام الاسلامي مكلف بالقيام بدور النيابة والاستخلاف في الارض من قبل الحاكم المطلق عز وجل ؛ بمعنى ان الفرد في المجتمع الاسلامي يشعر بأنه هو الدولة ، فكيف يعقد الفرد عقداً اجتماعياً بينه وبين نفسه . ثالثاً : ان رابطة الاخوة الانسانية بين الافراد في النظام الاسلامي تلغي أي عقد من العقود الاجتماعية السياسية ، لأن الاخوة في النظام الاجتماعي قضية تقتضيها الطبيعة الانسانية ذاتها ؛ فالمتآخون نسبياً أو سببياً أو عقائدياً يعيشون في موقع واحد ، ويأكلون من رغيف واحد ، ويستنشقون الهواء من جو واحد . ولا يفرض عليهم العقد الاجتماعي ذلك ، بل ان أحاسيسهم ودوافعهم ____________ (1) البقرة : 30. (2) النور : 55.
( 239 ) الذاتية هي التي تجرهم الى التكاتف والتآزر الاجتماعي.
ولذلك فان الدولة ضرورية للاجتماع الانساني ، لرعاية مصالح الافراد ، وحفظ حقوقهم الاجتماعية ضمن اطار الاخوة والعقيدة الدينية والايمان بالخالق عز وجل ، وصيانة حرية الانسان كما عبر عن ذلك قول أمير المؤمنين (ع) : ( لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً ) (1).
والدولة في الاسلام ، لا ترعى مصالح الطبقة الغنية ضد الطبقة الفقيرة ، كما تزعم نظرية الصراع الاجتماعي (2) ؛ بل ان ارسال الانبياء والرسل (ع) كان يهدف اساساً الى تحقيق العدالة الاجتماعية بين الافراد ، ودعوتهم الى عبادة الخالق دون سواه . وكيف يقف الانبياء (ع) ضد الفقراء ، كما تزعم نظرية الصراع ، وهم الذين تحدوا النظام الاجتماعي المتمثل بالطبقة الثرية الظالمة ، ونادوا بضرورة تطبيق العدالة الاجتماعية ؟ وهل وقف نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد ( عليهم أفضل الصلاة ولاسلام ) ضد الفقراء أم ضد طواغيت وظلمة عصرهم ؟ أو ليست المراحل التي مرت بها البشرية من العبودية ، الى الاقطاع ، الى الرأسمالية ، الى الاشتراكية ، وديكتاتورية البروليتاريا من صنع الانسان نفسه وظلمة لاخيه الانسان ؟ بل هل استبعد نبي من انبياء الله فرداً من الافراد ؟ او ليست الاديان كلها دعوات بل صرخات مدوية لتحرير الانسان من العبودية والرق والاستعباد ؟ أو لم يستخدم الاسلام نظام تحرير الرقاب في الكفارات ____________ (1) نهج البلاغة ص 401. (2) ( راندال كولينز ) . علم اجتماع الصراع : نحو علم توضيحي . نيويورك : الاكاديمية ، 1974 م.
( 240 ) كوسيلة لتحرير الجنس البشري من العبودية والرق ، ويجعل العبودية المطلقة لله وحده ؟
وهكذا نلاحظ ضعف مقالة نظرية الصراع في نشوء الدولة الانسانية . وتفترق النظرية الاسلامية في نشوء الدولة والنظام السياسي ايضاً عن النظرية التوفيقية ونظرية الصراع في فكرة عدالة الدولة . ففي حين نلاحظ ايمان نظرية الصراع بان الدولة انما انشئت اساساً لحماية الطبقة الرأسمالية الغنية في المجتمع (1) ، وايمان النظرية التوفيقية بأن الدولة ضرورية لحفظ النظام الاجتماعي بغض النظر عن عدالتها او ظلمها (2) ؛ تنهض النظرية الاسلامية بكل قوة معلنة بوضوح ان عدالة الدولة تعتبر من اهم العناصر الاساسية في حفظ النظام الاجتماعي . فلولا عدالة الدولة في توزيع الخيرات ، وحفظ أمن الافراد ، واشباع حقوقهم المشروعة ، لما قام هؤلاء الافراد بدورهم الانساني في التكاتف والتآزر ، والانعتاق من عبودية الانسان لعبودية الخالق عز وجل . وهذا الفارق على درجة كبيرة من الاهمية ، لان وجود الدولة الظالمة لا يضمن تحقيق العدالة والمساواة لجميع الافراد في النظام الاجتماعي . واذا غابت العدالة عن الساحة الاجتماعية ، اصبح المجتمع غابة متوحشة يفترص فيها القوي الضعيف وينهب الظالم فيها اموال المظلوم ؛ وبذلك تضيع الحقوق وتنتهك الحرمات . واشارة الى ____________ (1) ( ماير زالد ) و( جون مكارثي ) . ديناميكية الحركات الاجتماعية . كامبردج ، ماساشوستس : اديسون ـ ويسلي ، 1978 م. (2) ( تالكوت بارسنس ) . النظام الاجتماعي . جيلنكو ، الينوي : المطبعة الحرة ، 1951م.
( 241 ) ذلك رفع الاسلام اروع شعاراته الاجتماعية الخالدة ، الا وهو تحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع الافراد دون النظر الى طبقة الفرد ، او منشأه ، او لونه كما اشار الى ذلك قوله تعالى : ( يا أيها الناس ، انا خلقناكم من ذكر وانثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، ان اكرمكم عند الله اتقاكم ) (1).
وهذا النظرة العادلة تجاه الافراد ، تجعل الحكومة الاسلامية متميزة عن الحكومات الرأسمالية . فالاسلام يرفض الحكومة التسلطية ، وهي التي ترفض المعارضة العامة لسلطاتها جملة وتفصيلاً ؛ ومثالها حكومة الديكتاتور فرانكو في اسبانيا الرأسمالية . ويرفض الحكومة الاستبدادية ، وهي التي تحكم الافراد بالحديد والنار ، لتغيير نظرة الافراد تجاه المجتمع والحياة ؛ ومثالها حكومة ادولف هتلر في المانيا الرأسمالية . ويرفض الحكومة الديمقراطية القائمة نظرياً على اساس ان السلطة ملك للافراد جميعا ، وعملياً على تحكم الطبقة الرأسمالية الغنية بالنظام الاجتماعي ؛ ومثالها النظام الامريكي القائم اليوم . واذا كانت الديمقراطية التمثيلية فكرة رائعة ، كما يصورها دعاة الرأسمالية الحديثة ، فلماذا لم يمنح النظام السياسي الديمقراطي الامريكي في القرن التاسع عشر الميلادي الزنوج والنساء والهنود الحمر حق الانتخاب ؟ بمعنى اخر ، اذا كانت الديمقراطية التمثيلية قضية حقيقية ، بحيث تمثل آراء جميع الافراد ، فلماذا لا يحق للزنوج والنساء والهنود الحمر ، طرح آرائهم عبر انتخاب ممثليهم (2) ؟ هنا يصمت دعاة النظام الرأسمالي عن ____________ (1) الحجرات : 13. (2) ( هربرت هيمن ) . المشاركة الاجتماعية السياسية : دراسة في نفسية الشخصية السياسية . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1969 م.
( 242 ) الاجابة عن هذا السؤال معترفين بتناقض فكرتهم السياسية المبنية على تحقيق مصالح الطبقة الرأسمالية العليا فحسب ، دون النظر الى مصالح الطبقات الاجتماعية المحرومة.
اما النظام الاسلامي ، فهو يضمن على المستوى الشرعي تحقيق المساواة التامة ، ليس في توزيع الحقوق والخيرات فحسب ، بل في التوكيل السياسي ايضاً . فلا يعتبر منشأ الفرد او لون بشرته او جنسه عاملاً في توزيع الحقوق والواجبات ، كما ذكرنا ذلك سابقاً.
ومشاركة الامة الاسلامية في مقدرات النظام السياسي يساهم في توزيع القوة السياسية وانتشارها . ففي الانظمة الرأسمالية بانواعها الثلاثة الاستبدادية والتسلطية والديمقراطية تتركز القوة السياسية ضمن الطبقة الرأسمالية الحاكمة لاجيال عديدة (1) . اما في النظام الاسلامي ، فان الامة من خلال التوكيل والاختصاص ، وريادة المساجد ، وحضور صلاة الجمعة ، والعمل العبادي الجماعي تشارك في تنشيط العمل السياسي . وهي تلاحظ من خلال عينها الفاحصة عدم تركز القوة السياسية ضمن طبقة معينة . حتى ان المدار في ولاية الفقية في زمن الغيبة العلم ، وهو أمر يمكن الحصول عليه نظرياً من قبل اي فرد يبذل جهداً مضنياً لتحقيق ذلك الهدف . اما في النظام الرأسمالي فان الفرد لا يصل الى الكونغرس الا ان يكون غنياً ، ولا يصبح عالماً متميزاً الا ان يدخل جامعات الطبقة العليا التي لا يدخلها الا ____________ (1) ( دين جاروز ) . المشاركة الاجتماعية في السياسة . نيويورك : بريكر ، 1974 م.
( 243 ) الاغنياء (1) . وبذلك تضمن الطبقة الحاكمة سيطرتها على النواحي السياسية للدولة . اما في الاسلام ، فان لكل فرد فرصة متساوية تماماً للدخول في العمل السياسي والاجتماعي دون الاهتمام بالناحية المالية او الطبقية. ____________ (1) ( الن ستانلي رنشون ) . المشاركة الاجتماعية السياسية : النظرية والتطبيق . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1977 م.
|