الولاية الشرعية للفقيه الجامع للشرائط |
الكتاب :
النظرية الإجتماعية في القرآن الكريم | القسم :
مكتبة الثقافة العامة
|
|
الولاية الشرعية للفقيه الجامع للشرائط
ولما كانت الولاية مرتبطة بالخالق عز وجل ، فانه يمكن تقسيمها الى قسمين :
1 ـ الولاية التكوينية : وهي ولاية الله سبحانه وتعالى بالاصالة على الافراد والاشياء في الخلق والتكوين ، بمعنى امتثال المخلوقات والاشياء جميعاً لامره ، بدليل النص المجيد : ( انما أمره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون ) (1) ، و( ألا الى الله تصير الامور ) (2) ، و( هنالك الولاية الله ) (3) . وقد يفوض الانبياء (ع) من قبله عز وجل ببعض شؤون الولاية التكوينية ، كما قدر ذلك لسليمان (ع) : ( فسخرنا له الريح تجري بأمره ) (4) ، وعيسى (ع) كما ورد في القرآن الكريم على لسانه (ع) : ( اني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً باذن الله وابرئ الاكمه والابرص وأحيي الموتى باذن الله ) (5) . ولكن الاصل حتماً ان الولاية المطلقة لله عز وجل.
2 ـ الولاية التشريعية : وفيها يحق تصرف الولي في شؤون المتولى عليه ____________ (1) يس : 82. (2) الشورى : 53. (3) الكهف : 44. (4) ص : 36. (5) آل عمران : 49.
( 217 ) رعاية لمصلحته في المال والنفس ـ وهي ولاية مقيدة بالاذن الالهي او اذن المعصوم ـ وهي ولاية الرسول (ص) ، وولاية الامام (ع) ، وولاية الفقيه المجتهد الجامع للشرائط.
ولاشك ان وجوب طاعة النبي (ص) في الاحكام الشرعية : ( اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم ) (1) ، وفي الرئاسة التنفيذية : ( انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (2) ، وفي الولاية على المال والنفس : ( النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم ) (3) ، تعتبر من اروع الامثلة للولاية التشريعية بمفهومها القيادي الواسع . فهي لاتختص بتبليغ الاحكام الشرعية الشخصية او ممارسة القضاء فحسب بل تمثل قيادة الرسول (ص) للدولة الاسلامية بكل مؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.
اما الفقيه ـ وهو الذي يبذل وسعه لتحصيل الظن بالحكم ـ فله طريقان في سبيل تحقيق ذلك ؛ هما : الدليل والاصل . وظنية الطريق تؤدي الى العلم بالحكم الشرعي ، وهي لا تنافي قطعية الحكم المستفاد من دليله الاجتهادي المحصور بالكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل . وعند عدم وجود الدليل يرجع الفقيه الى اصل من الاصول الاربعة وهي : البراءة ، والاستصحاب ، والتخيير ، والاحتياط. ____________ (1) النساء : 59. (2) المائدة : 55. (3) الاحزاب : 6.
( 218 )
وولاية الفقيه في زمن الغيبة حتمية لابد منها ، لاسباب منها ؛ اولاً : ان هذه الولاية هي امتدادد لولاية الله عز وجل : ( هناك الولاية لله ) (1) والنبي (ص) : ( النبي اولى بالمؤمنين من أنفسهم ) (2) ، والائمة (ع) : ( وأولي الامر منكم ) (3) . وثانياً : لان للفقيه حق استنباط الحكم الشرعي في الاحكام الثانوية فضلاً عن الاحكام الاولية لادارة شؤون الافراد في النظام الاجتماعي . وهذه الادارة لابد من تحققها لضمان استقرار المجتمع ؛ فيستحيل ان يمارس المجتمع حياته الطبيعية ما لم يتدخل حكم الله في تثبيت اركان النظام الاجتماعي على المستويين الفردي والاجتماعي.
فالاحكام الاولية تشمل التكاليف المستخرجة من مصادر التشريع الاربعة : الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، العقل . وهذه هي الاحكام الثابتة على نطاق التشريع . والاحكام الثانوية ـ وتشمل الفتاوى والاحكام التي تستند على اساس المصلحة والمفسدة وتختص بالمباحات الاولية ـ هي الاحكام المتحركة المتغيرة بتغير الظروف الاجتماعية العرفية . ويطلق على الاحكام الثانوية ايضاً الاحكام الموضوعية ، لانها من الاحكام التي تكون موضوعاً لحكم شرعي ، كعلاقة الفرد بالشؤون الفنية كالزراعة والصناعة والحرب ونحوها أو الشؤون الشخصية كقضايا الزواج ونحوها ؛ فلابد للفقيه فيها من التشاور مع المتخصصين أو مع المبتلين بمواضيع هذه الاحكام. ____________ (1) الكهف : 44. (2) الاحزاب : 6. (3) النساء : 59.
( 219 )
فدور الفقيه في التشريع ـ اذن ـ هو الكشف عن التشريعات الثابتة للوصول الى الواقع الموضوعي للحكم والافتاء به ، وملء منطقة الفراغ التشريعي التي لحقت عصر النبي (ص) . ويثبت عن ولاية الفقيه الشرعية للمجتهد : الافتاء ، والقضاء ، والتصرف في أموال الناس وأنفسهم ، وهو يعكس بشكل صريح اساس الحكومة في النظام الاجتماعي.
أولاً : ولاية الافتاء . وهي ثابتة حتماً للفقيه للنص القرآني الشريف : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون ) (1) ، والنص الآخر : ( فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ) (2) ، والرواية الواردة عن الامام صاحب العصر (ع) في توقيعه لاسحاق بن يعقوب : ( واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا ، فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله ) (3) ، والرواية الاخرى الواردة عنه (ع) : ( من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه ) (4) . وهي ثابتة له لأنها من ضرورات الدين وتجب عليه كفاية لأن له ملكة الترجيح وقوة الاستنباط من مظان الاحكام الشرعية من ادلتها التفصيلية . ولاشك ان التقليد واجب على كل الافراد الذين لم يصلوا درجة الاجتهاد في الفقه والاصول لدليل الاجماع اولاً ، وبقاء التكليف في ذمة المكلف ثانياً . فلا يجوز لبقية الافراد في النظام ____________ (1) التوبة : 122. (2) النحل : 43. (3) الغيبة للشيخ الطوسي ص 198. (4) الاحتجاج للطبرسي ص 163.
( 220 ) الاجتماعي ـ حسب فقه الامامية ـ تعطيل ادوارهم الاجتماعية ، بل عليهم الاجتهاد في تعيين الفقيه الذي يقلدونه ، بخصوص الحياة والأعلمية والعدالة.
ثانياً : ولاية القضاء والمرافعات . وهي للمجتهد ايضاً ، فيوجب الاسلام على الرعية الترافع اليهم وقبول أحكامهم . ويدل على ثبوتها اطلاق الآية الشريفة : ( واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ) (1) . وهو لاشك يدل على الحكم في مورد القضاء الشرعي ؛ وقوله تعالى : ( فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ) (2) دليل آخر على ثبوتها ايضاً . وكذلك يدل على ثبوتها الروايات المتضافرة عن أهل البيت (ع) ؛ ومنها مشهورة ابي خديجة عن الامام الصادق (ع) : ( اياكم اذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الاخذ والعطاء ان تحاكموا الى أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا ، فاني قد جعلته عليكم قاضياً ، واياكم ان يخاصم بعضكم بعضاً الى السلطان الجائر ) (3) . ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة عن الامام الصادق (ع) ايضاً بعد ان نهى عن التحاكم الى السلطان الظالم وقضاة الجور ، وجه اصحابه الى رجل منهم : ( قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فاني قد جعلته عليكم حاكماً فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فانما استخف بحكم الله ____________ (1) النساء : 58. (2) النساء : 59. (3) التهذيب ج 6 ص 303.
( 221 ) وعلينا رد ، والراد علينا كالراد على الله ) (1).
ثالثاً : ولاية اجراء الحدود والتعزيرات . وتثبت لقاعدة : ( عمل الحاكم بعلمه في حقوق الله ) ، لرواية حفص بن غياث عند سؤال الامام الصادق (ع) : من يقيم الحدود : السلطان أو القاضي ؟ فقال (ع) : ( اقامة الحدود الى من اليه الحكم ) (2).
رابعاً : ولاية التصرف باموال اليتامى . للنص القرآني المجيد : ( ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن ) (3) ، اولاً . ولأن الصغير ممنوع من التصرف في ماله ، ثانياً . وللروايات المتعددة المحمولة على جواز التصرف بأموال اليتامى ، ثالثاً.
خامساً : ولاية التصرف بأموال المجانين والسفهاء ، لقوله تعالى : ( ولاتؤتوا السفهاء اموالكم ) (4) ، ( فان آنستم منهم رشداً فادفعوا اليهم أموالهم ) (5).
وهناك ولايات اخرى كولاية التصرف بأموال الغيب وولاية انكحة الصغار والمجانين والسفهاء ، وولاية التصرف بأموال الامام من نصف الخمس ، والمال المجهول مالكه ، ومال من لا وارث له ، وما ثبت مباشرة الامام له من امور الرعية كطلاق المفقود زوجها بعد الفحص والتبين ، وبيع ____________ (1) من لايحضره الفقيه ج 3 ص 5. (2) التهذيب ج 6 ص 314. (3) الانعام : 152. (4) النساء : 5. (5) النساء : 6.
( 222 ) مال المفلس ، وكل فعل لابد من ايقاعه للأدلة اللبية والشرعية ، كعزل الأوصياء ، والتصرف في الاوقاف العامة.
وولاية الفقيه للدولة والنظام الاجتماعي هي امتداد لولايته في الاموال والنفوس . فاذا كانت للفقيه الجامع للشرائط صلاحية التصرف بالنفوس ، واصدار فتوى بالجهاد لحفظ النظام الاسلامي ، والحكم بالقصاص والدية والقضاء ، وصلاحية التصرف باموال القاصرين ، والاموال المجهولة المالك ، كان الاولى وجوب بسط يده لحفظ النظام الاسلامي عن طريق الولاية الشرعية على السلطات الثلاث القضائية والشوروية والتنفيذية . ويؤكد هذا الرأي العديد من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) ؛ منها : سؤال زرارة عن سبب تفوق الولاية على بقية أركان الاسلام مثل الصوم والصلاة والحج والزكاة ، فيجيبه ( لأنها مفتاحهن ) ؛ بمعنى ان حماية النظام الاسلامي لحرية الأفراد بممارسة واجباتهم التعبدية هو مفتاح اقامة اركان الاسلام بكل جوانبها العبادية والروحية والاجتماعية والسياسية ؛ ويدل على ذلك ايضاً قول الامام أمير المؤمنين (ع) : ( واما ما فرضه الله عز وجل من الفرائض في كتابه ، فدعائم الاسلام ، وهي خمس دعائم ، وعلى هذه الفرائض بني الاسلام . فجعل سبحانه وتعالى لكل فريضة من هذه الفرائض اربعة حدود : لايسع احداً جهلها . اولها الصلاة ، ثم الزكاة ، ثم الصيام ، ثم الحج ، ثم الولاية وهي خاتمتها ، والحافظة لجميع الفرائض والسنن ) (1). ____________ (1) رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى ص 77.
( 223 )
وهل يعقل ان يأمر المولى عز وجل بولاية الاسرة ويترك ولاية الأمة على غاربها ؟ واذا كانت ولاية الآباء والاجداد والأوصياء والازواج والموالي والوكلاء منحصرة فيما ثبتت الولاية فيه شرعاً ، فان ولاية الفقيه الأعلم على الامة تتحقق باعبتاره أمين الرسل ، والحاكم ، والقاضي ، والحجة من قبلهم ، وان على يده مجاري الامور والاحكام ، وانه الكافل لأيتام الامة ، وانه ولي من لا ولي له ، وانه حصن الاسلام ، ومثل الانبياء بمنزلتهم ، والمتصرف بأموال اليتامى والمجانين والسفهاء ، والمتصرف بمال المجهول مالكه ، وان على يده تقام الحدود والتعزيرات ، والقضاء ، والمرافعات . وفردٌ بهذه المواصفات القيادية وهذه الصلاحيات الواسعة ، لابد وان يكون قائداً للامة ونظامها الاجتماعي بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ واوصاف.
|