الاضطراب العقلي
وبطبيعة الحال ، فان فهم معنى الاضطراب العقلي مهم للغاية في ادراك ابعاد الانحراف ، باعبتاره عجزاً في قابلية الفرد على التمييز بين الحقيقة والخيال . فالمضطرب عقلياً ينتهك العرف الاجتماعي من خلال تصرفاته التي يختلط فيها الوهم بالحقيقة ، والسراب بالواقع ، والخوف بالامان ، والافكار المجزئة التي لا يجمعها رابط بالافكار الطبيعية المتصل بعضها بالآخر . ولذلك فان أكثر الاضطرابات العقلية انتشاراً هي الاضطرابات الناشئة عن انفصام شخصية الفرد مع الحقيقة والواقع الخارجي . ويربط علماء الطب هذه الاضطرابات باختلال الهرمونات في الجسم الانساني وما يصاحب ذلك من اضطرابات نفسية وتفاعلات عاطفية تنتهي بالانسان الى فهم الواقع فهماً مغايراً لفهم بقية الافراد (1) . ومنهم من يعتبر الاضطراب العقلي أو الجنون وسيلة ناقصة لدى الفرد للتعامل مع العالم الخارجي (2) . فالمضطربون عقلياً يفشلون في التعامل مع اجواء المجتمع المحيطة بهم ، فيلجأون في النهاية الى التعامل مع انفسهم وندبها على عدم فهم الواقع . فتراهم يتحدثون معها على مرأى من الملأ ، ويضحكون ____________ (1) ( وليام كوكرهام ) . علم اجتماع الاضطراب العقلي . انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1981 م. (2) ( وليام ايتون ) . علم اجتماع الاضطرابات العقلية . نيويورك : بريكر ، 1980 م.
( 89 ) ويتبسمون لطرائف لم يلتفت اليها الآخرون ، وهم بذلك يحيدون عن العرف الاجتماعي فيوصمون بالجنون.
ولذلك فان وصم الطبقة الحاكمة ـ على مر التاريخ ـ للانبياء والرسل (ع) بالاضطراب العقلي كان من أهم الاساليب التي استخدمت لربط الجنون بالانحراف ، وبالنتيجة إبعاد الافراد عن الايمان بالعقائد التي حملها الرسل والانبياء (ع) اليهم . وقد ورد الى ما يشير الى ذلك في الكتاب المجيد : ( وقالوا يا ايها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) (1) ، ( ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ) (2) ، ( ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ) (3) ، ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ) (4).
ولكن الجنون الحقيقي ما هو الا وليد الحاجة الانسانية التي لم يشبعها النظام الاجتماعي . فالفقر هو من أهم عوامل نشوء الاضطراب العقل في المجتمعات التي تحكمها انظمة ظالمة . والفقر ليس حاجة مادية فحسب ، بل حاجة نفسية ايضاً ؛ لانه يمس كرامة الانسان ، ويحط من قدره ، ويشعره بظلم النظام الاجتماعي . وهذه العوامل مجتمعة تساهم في رسم شكل الانحراف وتحدد مسيرته.
ولاشك ان من مصلحة النظام السياسي الظالم وصم الفقراء بالاضطرابات العقلية ؛ لأن في ذلك عزلاً لهم عن الساحة السياسية ، ____________ (1) الحجر : 6. (2) الصافات : 36. (3) الدخان : 14. (4) الذاريات : 52.
( 90 ) وبالتالي حرمانهم من الخيرات الاقتصادية التي ينبغي ان ينعم بها افراد المجتمع كلياً بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية . فالمضطرب عقلياً ، لا يستطيع المشاركة في نشاطات المجتمع السياسية والاجتماعية فضلاً عن قيادة الافراد . وهذا الإبعاد المقصود للفقراء عن الساحة السياسية ، يعطي الطبقة الرأسمالية الظالمة فرصة عظيمة في السيطرة على شؤون النظام الاجتماعي وتحطيم المعارضة السياسية الحقيقية.
|