4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي العام : ولما كان الاسلام يعكس جوهر العدالة الاجتماعية بين الافراد ، فان نظامه السياسي والقضائي والاقتصادي لابد وان يتحرك بكل قوة لمعاقبة المنحرفين الذين يحاولون العبث بمقدرات الافراد على الصعيد الاجتماعي . ولذلك فان الانحرافات التي يقوم بها هؤلاء الافراد ـ وتؤدي بقصد او دون قصد الى زعزعة النظام الاجتماعي ، كإرهاب الناس ، واحتكار اقواتهم ، وظلمهم ـ تعتبر جرائم تستحق نوعاً من العقوبات المنصوص عليها في الشريعة ؛ ومن امثلة هذه الجرائم : المحاربة.
فالمحاربة هي ارادة الافساد في الارض . والمحارب هو الذي يجهز سلاحه لإرعاب الناس ، ذكراً كان أم انثى ، قوياً كان أم ضعيفاً ، لعموم الآية في قوله تعالى : ( انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) (1).
ولاشك ان من أهم نتائج هذا التشريع هو استتباب الامن والسلام الاجتماعي في المجتمع الاسلامي . فليس لاولياء المقتول عن طريق المحاربة العفو عن المحارب ، بل ان على الامام قتله بأي شكل من الاشكال ، الا اذا تاب من تلقاء نفسه ؛ فعندئذ يسقط الحق العام ، لقوله تعالى : ( الا الذين ____________ (1) المائدة : 33.
( 74 ) تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم ) (1) وهذا الامن الاجتماعي الذي ينعم به المجتمع الاسلامي يعتبر من أهم مصادر استقرار النظام وتنشيط طاقات افراده الانتاجية.
ولاشك ان الدولة في الاسلام ينبغي ان تتمتع بأمان اقتصادي ومعاشي ينعم به جميع الافراد ؛ بل ان اي انتهاك لهذا الامان يجب ان يعامل بقوة اخلاقية وشرعية من قبل الحاكم الشرعي أو الدولة بمؤسساتها القضائية والتنفيذية . والاحتكار ـ وهو خزن المادة الغذائية الاساسية التي يحتاجها الافراد وقت الاضطرار من أجل رفع سعرها أو إضرار الدولة ـ يمثل هذا الانحراف الموجه ضد النظام الاجتماعي العام . الا ان الاسلام يتعامل مع هذا الانحراف الاقتصادي تعاملاً حاسماً ، فيجبر المحتكر على بيع المادة المحتكرة فوراً . وفي عهد الامام علي (ع) لمالك الاشتر اشارة الى ذلك : ( فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه فنكل به وعاقب في غير اسراف ) (2) . وهذا التشريع ـ اضافة الى تجنيبه الافراد للفوضى الاقتصادية والمعيشية ـ منسجم تماماً مع تطلعات الاسلام نحو العدالة الاجتماعية بين الافراد.
اما فيما يتعلق بظلم الحاكم ، فان المجتمع الانساني لما كان بحاجة مستمرة الى نظام اجتماعي مستقر ، وبحاجة ماسة الى مدير يدير هذا النظام ويرعى شؤونه المالية والقضائية والدفاعية والسياسية ، تعين ان تكون للقائد شروط ومواصفات موضوعية مستمدة من الشريعة نفسها . وقد جابه القرآن الكريم بكل قوةٍ النظام السياسي الظالم وأدان وجوده ____________ (1) المائدة : 34. (2) نهج البلاغة ص 615.
( 75 ) اللاشرعي بمختلف الاساليب ، وجعل فرعون مثلاً يعكس فساد جوهر الظلم السياسي : ( واذ نادى ربك موسى ان ائت القوم الظالمين قوم فرعون الا يتقون ) (1) ، ( ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً ) (2) ، ( وقد خاب من حمل ظلماً ) (3) ، ( انه لا يحب الظالمين ) (4) . وورد ما يشير الى وجوب الكفر بالحكومة التي لا تقضي بما انزل الله و تعمل في الناس بالجور والظلم والعدوان وسماها بالطاغوت ، فقال عز وجل : ( الم تر الى الذين يزعمون انهم آمنوا بما انزل اليك وما انزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا ان يكفروا به ) (5) . وفي خطبة الامام الحسين بن علي (ع) في الناس في ( منى ) تأكيد آخر على التصدي للظلم الاجتماعي : ( اعتبروا ايها الناس بما وعظ الله به اولياءه من سوء ثنائه على الاحبار اذ يقول : ( لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) (6) . وقال : ( لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) (7) . وانما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين اظهرهم المنكر والفساد فلا ينهون عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم ورهبة مما يحذرون والله يقول : ( فلا تخشوا ____________ (1) الشعراء : 10 ـ 11. (2) الفرقان : 19. (3) طه : 111. (4) الشورى : 40. (5) النساء : 60. (6) المائدة : 63. (7) المائدة : 78 ـ 79.
( 76 ) الناس واخشون ) (1) ، وقال : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (2) . فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها اذا أديت وأقيمت ، استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها ؛ وذلك ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء الى الاسلام مع رد الظالم ، ومخالفة الظلم ، وقسمة الفيء والغنائم ، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها ) (3).
واذا كان الاسلام دين العدالة الاجتماعية حقاً ـ وهو بالتأكيد كذلك ـ فان أول عدو يسعى لمحاربته ، هو نظام الظلم الاجتماعي والسياسي ضد الافراد . ولذلك ، فان قاعدة العدالة الاجتماعية المتمثلة باطار الحكم الاسلامي والدولة الاسلامية يجب ان تستمر حتماً ، حتى قيام الساعة ؛ ان كانت تحت أمر النبي (ص) أو الامام المعصوم (ع) أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط ( يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول ، واولي الامر منكم ) (4) . فلا مكان للحاكم الظالم في دنيا الاسلام ، دنيا العدالة الاجتماعية والحقوقية. ____________ (1) المائدة : 44. (2) التوبة : 71. (3) تحف العقول للحراني ص 237. (4) النساء : 59.
|