ب ـ النظام الفكري لطبقة الاقوياء :
ولاشك ان النظام الفكري والثقافي لأي مجتمع هو النظام الفكري الذي تتبناه الطبقة الحاكمة . فطبقة العمال الحاكمة في المجتمع الشيوعي ____________ (1) يونس : 88. (2) الاسراء : 6. (3) التوبة : 69. (4) القصص : 76.
( 46 ) المندثر ـ مثلاً ـ تفرض ـ بكل قوة ـ الفكر الذي تتبناه وتؤمن به . وعندها ، يصبح الفكر الشيوعي هو الفكر المسيطر على الساحة الفكرية في المجتمع . والفكر الذي تؤمن به النظرية الرأسمالية يسيطر على كل توجهات المجتمع الرأسمالي . وهكذا ترى ان الافكار تابعة للحكام ، كما ان الاحكام تابعة للاسماء في المصطلح الاصولي . ويشير القرآن الكريم الى هذا المفهوم ايضاً عندما يتعرض لممارسات فرعون في اقناع الافراد بأنه هو الاله الذي ينبغي ان يعبد : ( وقال فرعون يا ايها الملأ ما علمت لكم من إلهٍ غيري ) (1) ، ( وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الاسباب ) (2) ، فهو المستخف المستهتر بالقيم السماوية : ( قال فرعون وما رب العالمين ) (3) ، ( قال فرعون ما اريكم الا ما أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد ) (4) ، وهو الذي يبث الرعب في قلوب الناس : ( على خوفٍ من فرعون وملأهم أن يفتنهم ) (5) ، وهو الذي يمتلك القوة والارادة الطاغوتية : ( وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم ) (6) ، ( قال فرعون آمنتم به قبل ان إذن لكم ) (7) ، وهو الذي يؤمر فيطاع : ( فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ) (8) ، ( فأتبعهم فرعون ____________ (1) القصص : 38. (2) غافر : 36. (3) الشعراء : 23. (4) غافر : 29. (5) يونس : 83. (6) يونس : 79. (7) الاعراف : 123. (8) طه : 60.
( 47 ) بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ) (1) ، ( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ) (2) ، وهو الذي طغى واستعلى في الارض : ( وان فرعون لعالٍ في الارض وانه لمن المسرفين ) (3) ، ( اذهبا الى فرعون انه طغى ) (4) ، ( وأضل فرعون قومه وما هدى ) (5).
ولاشك ان احفاد فرعون اليوم يمارسون طرقاً فكرية تؤدي الى نتائج تشابه ما أدت اليه سياسة فرعون ، وهي السيطرة على الحكم والنظام الاجتماعي بالقوة . وأقرب مثال على ذلك هو سياسة النظام الرأسمالي الغربي ؛ فان أخطر فكرة يرهبها ذلك النظام هي فكرة ( العدالة الاجتماعية ) ؛ ولذلك فاننا لا نتحسس لصدى هذه الكلمة في الساحة الاعلامية أو الفكرية أو السياسية الرأسمالية . بل يحاول ذلك النظام بكل جهد استبدال كلمتي ( العدالة الاجتماعية ) بـ ( الحلم الامريكي ) . والحلم الامريكي فكرة مزيفة تحاول الايحاء لأفراد النظام الاجتماعي بأن جمع الثروة الاجتماعية وتراكمها مبني ـ حسب الفكرة الرأسمالية ـ على أساس الجهد والعمل (6) . ولكنها تتناسى بأن الثروة العينية الموجودة في المجتمع لما كانت محدودة بحدود توفر النقد المتداول ، أصبح تحقيق ( الحلم الامريكي ) اداةً لحرمان بقية الافراد الذين يعيشون على نفس الأرض الاجتماعية ؛ لأن أية زيادة مالية في دخل ____________ (1) طه : 78. (2) الشعراء : 53. (3) يونس : 83. (4) طه : 43. (5) طه : 79. (6) ( كريستوفر جنكز ) وآخرون . من الذي يسبق ؟ العوامل الحاسمة في النجاح الاقتصادي في امريكا . نيويورك : الكتب الاساسية ، 1979 م.
( 48 ) طبقة اجتماعية معينة يؤدي الى اختلال اقتصادي واجتماعي ونقيصة في الطبقات الاجتماعية الاخرى.
وعلى ضوء ما ذكرناه ، فان الطبقة الرأسمالية الغنية المتحكمة بشؤون النظام الاجتماعي تحاول ادانة الفقراء والمظلومين ووصمهم بالفشل الاقتصادي في جني الاموال ، فتزعم بأن الفقراء والمستضعفين لو كان لهم قدر من الذكاء والمهارة لما استغرقت رحلتهم من صحراء الاحلام الى شاطئ الواقع وقتاً طويلاً . وهذا الالصاق الفكري تستخدمه الطبقة الرأسمالية الحاكمة حتى تبقى متمسكة بمواقعها السياسية والاجتماعية القوية . وهذا الاسقاط النفسي بلوم الفقراء على فقرهم وتشجيعهم على الايمان بالحظ والمصير المكتوب ونحوها يخدم النظام الطبقي الرأسمالي لأنه يحاول تخدير الفقراء الى امد غير محدود . ولذلك ، فان أية حركة فكرية تحاول ايقاظ الغافلين من غفلتهم ونومهم تواجه بأقسى واعنف الوسائل.
والاسلام بكل ابعاده العبادية والاجتماعية ، خصوصاً فيما يتعلق بفكرة العدالة الاجتماعية ، يمثل هذه الحركة الموضوعية التي تحاول ايقاظ هؤلاء النائمين من نومهم العميق ، ولذلك فان محاربته تستدعي استخدام اقسى وسائل البطش والتنديد ؛ على عكس الديانات الاخرى التي تشجعها الانظمة الاجتماعية الظالمة ، كالهندوسية مثلاً التي تؤمن بأن روح الفرد المطيع تحل في اجسام افراد الطبقة العليا في المجتمع ، وروح العاصي لتعاليم الهندوسية تحل في اجسام افراد الطبقة الفقيرة (1) ؛ لأن الفقر ما هو الا عقابٌ للارواح العاصية ، فلا يستطيع حينئذ ان ينتقل الافراد من الطبقة الفقيرة ____________ (1) ( لويس رينو ) . الهندوسية . نيويورك : برازيلر ، 1962 م.
( 49 ) المحكومة الى الطبقة الثرية الحاكمة.
والنظام الكنسي النصراني في القرون الوسطى كان عونأً للنظام الاقطاعي السائد في اوروبا . فطا لما كان الملك مفوضاً من قبل الله سبحانه وتعالى بالتصرف بأرواح واموال واعراض الناس ، فان الجرائم المنسوبة للطبقة الحاكمة انما هي نتيجة طبيعية للارادة الالهية والعمل الرباني ، وليس للافراد دخل في تغييرها أو ادانتها ! اذن ليس غريباً ان نجد افراداً عاشوا آثار تلك الافكار مثل ( كارل ماركس ) وغيره آمنوا ـ بعد ان رأوا بأم أعينهم فظائع سلوك رجال الكنيسة ـ بأن الدين أفيون الشعوب . وليس هناك شك بأنهم كانوا يقصدون النصرانية الكنيسة في ذلك ، لأنهم رأوا آثار احكام بابوية القرون الوسطى الزاعمة بأن النظام الاجتماعي الظالم لا يجوز تغييره أو ادانته عن طريق الثورة والعنف ، لأن ذلك النظام ما هو الا تصميم الهي للبشرية المعذبة ! وحتى ان فكرة الاستعمار الاوربي للمناطق الآمنة في افريقيا وآسيا لنهب ثروات العالم الاسلامي في القرون الاربعة الاخيرة ، صورت من قبل الطبقة الرأسمالية على انها من أنبل قضايا الرجل البيض . وكان هدفها بالأصل ـ بزعمهم ـ رفع غائلة البدائية والمرض والفقر عن رجال المجتمعات المتخلفة ، ورفع علم الحضارة والتقدم في ثنايا تلك المجتمعات (1) . وربما اعتقد فقراء المجتمع الرأسمالي في الماضي ان ادعاءات الرجل الاوروبي الابيض فيما يتعلق بفقراء العالم صحيحة ؛ ولكن تبين لهم فيما بعد ان الذي استعبدهم لقرون طويلة لا يمكن ان يعدل مع افراد آخرين يختلفون عنه في الجنس واللغة والدين. ____________ (1) ( جوزيف كونراد ) . قلب الظلام . نيويورك : سانت مارتن ، 1989 م.
( 50 )
وعليه ، فان النظام الفكري للطبقة الحاكمة هو الذي يبقي الظلم الاجتماعي قائماً ، مع ان الطبقة الحاكمة قليلة العدد والطبقة المحكومة تمثل أغلبية أفراد النظام الاجتماعي ، ويأتي المال الذي يعكس منابع القوة الاجتماعية ليتوج سيطرة نظام الظلم الاجتماعي على كل مقدرات الحياة الانسانية.
|