2 ـ جرائم ضد الملكية : ولا ريب ان النظرية الاسلامية الخاصة بالعقوبات الجنائية تنظر الى الجرائم المتعلقة بالملكية نظرة خاصة وترتب عليها عقوبات صارمة ؛ لأن ضمان سلامة حقوق الناس من تعدي الاخرين يعتبر من أهم اسباب استقرار النظام الاجتماعي وتطوره الاقتصادي . ولاشك ان الاقرار باحكام اليد ودلالتها على الملكية ، تضع للمجتمع الانساني الحدود العامة لانتقال الملكية ، ودوران المال بين افراد النظام ____________ (1) المؤمنون : 13 ـ 14. (2) ( آرثر شوستاك ) و( كيري مكلوث ) . الاجهاض والرجال : الخسائر ، الدروس ، والحب . نيويورك : مطبعة العلوم الانسانية ، 1984 م.
( 65 ) الاجتماعي عيناً كان ذلك المال أو نقداً ، منقولاً كان أو غير منقول . ولولاها لاضطرب النظام الاقتصادي والاجتماعي ، وانعدم البيع والشراء الذي هو الاصل في سد حاجات الناس الاستهلاكية والكمالية . ولذلك فان اقرار الاسلام لهذا الاصل وربطه بالصدق العرفي ينسجم مع الطبيعة الفطرية للتعامل الاجتماعي وتنظيم سلوك الافراد.
وتنقسم الجرائم المتعلقة بالملكية الى قسمين :
القسم الاول : الانحرافات التي تؤدي الى سلب الملكية من مالكها قهراً وظلماً كالغصب ويتحقق بصدق الاستيلاء عرفاً على حق الغير . وقد شدد الاسلام على حرمة غصب اموال الناس . وحرم الصرف بالمال مطلقاً الا مع العلم بالاذن الشرعي ، لقوله تعالى : ( ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل ) (1) ، وعموم قوله (ص) : ( لايحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه ) (2) ، وقوله (ص) ايضاً : ( من غصب شبراً من الارض طوقه الله من سبع ارضين ) (3).
ان حرمة الغصب تتعدى من مجرد الاثم الى وجوب الرد على الغاصب وضمانه تلف المادة المغصوبة . فالغاصب ـ حسب النظرية الاسلامية ـ يتحمل مسؤولية كاملة في ارجاع المادة المغصوبة سليمةً من كل عيب ، بل يتعين عليه وجوب الرد فوراً ودون تأخير ؛ بينما لا يتحقق الضمان ولا الفورية في قانون العقوبات الرأسمالي الغربي (4). ____________ (1) البقرة : 188. (2) الكافي ج 7 ص 274. (3) كنز العمال ج 10 ص 639. (4) ( جاك جيبز ) . الجريمة ، العقاب ، والردع . نيويورك : السفاير ، 1975 م.
( 66 )
ولاشك ان المباشرة أو التسبيب أو اجتماعهما في تلف المغصوب توجب الضمان بأي حال من الاحوال ، باعتبار ان الخطابات الوضعية تشمل الجميع . وعليه فان الطفل والمجنون اذا اتلفا مال الغير ، تعين على وليهما دفع البدل ان كان لهما مالٌ ؛ والمسبب لتلف مال الغير يدفع للمالك بدل التالف من المثل والقيمة ؛ والمستولي على مال الغير بغير اذن ونحوه يدخل في عهدته ، وعليه مسؤولية تلفه اذا تلف . والنتيجة ان وجوب الضمان يحفظ اموال الافراد من الضياع والتلف ، ويصون الثروة الاجتماعية والانسانية من الهدر والتبذير.
القسم الثاني : السرقة وهي سلب مال الغير المودع في حرز سراً وفيها شروط . ولعل السرقة أشد من الغصب ، باعتبار ان انتهاك حرمة الشيء المسروق الذي اطمأن صاحبه على سلامته بالسر والحرز ، يعرض النظام الاجتماعي لمخاطر كبيرة فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي للمجتمع الاسلامي . وقد أوجب الشارع الحد فيها على السارق دون الغاصب ، كما ورد في قوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) (1).
ونستلهم من كتب السيرة والتاريخ عدالة النظرية الاسلامية في معاقبة المنحرفين . فقد روي ان امرأة من طبقة الاشراف سرقت ، فتشفع لدى رسول الله (ص) أحد الصحابة ، فقام (ص) وخطب في الناس خطبة قوية قصيرة ، معلناً فيها مبدأ مساواة جميع الافراد امام الشريعة والقانون : ( ايها الناس ، انما ضل من قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه ، ____________ (1) المائدة : 38.
( 67 ) واذا سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمدٌ يدها ) (1) .
ولابد للسارق ـ بموجب الشريعة الاسلامية ـ من اعادة المادة المسروقة ( الغرم ) حيث لا يسقط عنه بحال من الاحوال حتى مع اقامة الحد . وهذا الضمان لا تلتزم به النظرية الغربية . فاذا صرف السارق المال المسروق في المجتمع الرأسمالي فانه يعاقب بالسجن ولا يجبر على رد ما سرقه الى صاحبه (2).
ولايحد السارق الا بتوفر الشروط الشرعية ، وهي البلوغ والعقل ، لقاعدة ( رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ) (3) ، والاختيار (4)، وارتفاع الشبهة (5) ، وكون المال المسروق في حرز (6) ، وان تبلغ قيمة المسروق نصاب القطع وهو ربع دينار ذهب (7) . بمعنى ان المضطر الجائع لايقطع اذا سرق ما يسد رمقه ورمق عائلته . بل ان وجود الشبهة تدرأ تنفيذ الحد لقاعدة ( ادرأوا الحدود بالشبهات ) (8) . واذا تمت السرقة في مكان عام غير مقفل لا يقطع ايضاً ، لأن القطع مختص بكون المال المسروق موضوع في حرز أو نحوه . ومن المسلم به ____________ (1) البخاري ـ كتاب الحدود باب 12. (2) ( اليوت كيري ) . مواجهة الجريمة : التحدي الامريكي . نيويورك : بانثيون ، 1986 م. (3) سفينة البحار ج 1 ص 530. (4) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 43. (5) المقنع للشيخ الصدوق ص 147. (6) تفسير العياشي ج 1 ص 319. (7) المقنع للصدوق ص 150. (8) المصدر السابق ص 147.
( 68 ) ان الفرد المسروق اذا طلب عدم معاقبة السارق بالحد ، يترك السارق دون قطع ، لأن عقوبة السرقة متعلقة بالحقوق المالية للناس وليست من حقوق الله.
وطريقة القطع ـ المراد منها تأديب المنحرفين وردعهم عن ارتكاب الجريمة ـ لاتجعل الفرد المذنب معاقاً عن العمل الانتاجي . فالاصل في القطع ، هو الاصابع الاربع فقط من اليد اليمنى للمنحرف ، فتترك له الراحة والابهام . وهذا لا يعتبر تعطيلأً لانتاجية الفرد ، بل ان للفرد الحق بعد توبته الدخول في الحقل الانتاجي الاجتماعي ليكون عضواً نافعاً في مجتمعه الانساني ، علماً بأن عنصر ابداع الانسان في العمل والبناء يعتمد على الابهام وراحة اليد بالاصل . وفكرة القطع تناقض تماماً فلسفة نظام العقوبات الغربي التي جعلت السجن محور العقوبات ، مما سبب انخفاضاً في الانتاج واستهلاكاً لموارد وثروات المجتمع ، لأن السجين معطل عن الانتاج الاجتماعي بالاكراه (1).
3 ـ الجرائم الخلقية : ولما كانت رسالة الاسلام العظيمة اجتماعية المنشأ ـ فتتعامل مع الفرد والمجتمع ضمن الاطار الاخلاقي المرسوم لها من قبل السماء ـ اصبح تعاملها الشديد مع الجرائم والانحرافات الخلقية امراً حتمياً ؛ لأن القاعدة الاخلاقية هي الاصل في ضمان سلامة اجهزة النظام الاجتماعي وتكاملها لبناء المجتمع الانساني السعيد . وهذا الاطار الاخلاقي الذي نادت به الشريعة وتبنته على امتداد تاريخها الحافل بالوقائع والاحداث ، ____________ (1) ( جاك جيبز ) . العرف ، الانحراف ، والسيطرة الاجتماعية . نيويورك : السفاير ، 1981 م.
( 69 ) هو الذي حفظ المجتمع الاسلامي من الانحرافات التي يعيشها المجتمع الغربي وهو في أوج تقدمه المدني والاقتصادي (1) . وأهم الجرائم والانحرافات الاخلاقية التي يواجهها النظام الاجتماعي هي الانحرافات الجنسية كالزنا واللواط والمساحقة والقيادة ، والانحرافات السلوكية كالقذف وشرب الخمر ، والانحرافات العقائدية كالارتداد.
والاصل في العقوبات الاخلاقية القرآنية لردع المنحرفين هو التشديد والحسم ، فتتعين عقوبة القتل في الزنا بذات محرم نسباً ، وفي الاغتصاب الجنسي ونحوها ؛ والرجم في الزانية المحصنة والزاني المحصن ؛ والجلد على الزاني والزانية غير المحصنين ؛ والجلد والرجم معاً في الشيخ والشيخة المحصنين الزانيين ؛ والجلد والتغريب والجز في البكر الزاني الذي تزوج ولم يدخل . ومع ان هذا التفصيل يستند الى السنة الشريفة الا ان دليل تحريم الزنا ظاهر في النص القرآني الشريف : ( ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا ) (2) ، وقوله تعالى في وصف المؤمنين : ( ولايزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاماً ) (3) ، ( الزاني لا ينكح الا زانيةً أو مشركةً والزانية لا ينكحها الا زانٍ أو مشركٌ وحرم ذلك على المؤمنين ) (4) ، ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ان كنتم ____________ (1) ( جاك جيبز ) . العرف ، الانحراف ، والسيطرة الاجتماعية . نيويورك : السفاير ، 1981 م.
( 70 ) تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (1).
ويحد اللوطي بالقتل ضرباً بالسيف أو حرقاً بالنار أو الالقاء من شاهق ، أو هدم الجدار عليه . وهذا اللون من الانحراف من أخطر مراتب الانحرافات الجنسية ؛ ومعناه اللغوي : اللصوق ، وسمي لواطاً نسبة الى قوم لوط الذين ادانهم القرآن الكريم بالقول : ( اذ قال لهم اخوهم لوط الا تتقون . اني لكم رسول امين فاتقوا الله واطيعون ، وما اسألكم عليه من أجر ان اجري الا على رب العالمين ، اتأتون الذكران من العالمين ، وتذرون ما خلق لكم ربكم من ازواجكم بل انتم قوم عادون ) (2) ، ( أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل ) (3) ، وقد شدد التحريم فيه ، كما ورد في قول رسول الله (ص) : ( من جامع غلاماً جاء جنباً يوم القيامة ، لا ينقيه ماء الدنيا ، وغضب الله عليه ، ولعنه واعد له جهنم وساءت مصيرا ) (4).
وفي السحق مائة جلدة ، وقيل ان « اصحاب الرس كانت نساؤهم سحاقات » (5) ، وهو « اشارة الى قوله تعالى : ( وعاداً وثمود واصحاب الرس ) (6) » (7) . وفي القيادة ـ وهو الجمع بين فردين على الحرام ـ خمسٌ وسبعون جلدة ، وفي القذف والسكر ثمانون جلدة ، لقوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين ____________ (1) النور : 2. (2) الشعراء : 161 ـ 166. (3) العنكبوت : 29. (4) الكافي ج 2 ص 70. (5) مجمع البيان ج 19 ص 107. (6) الفرقان : 38. (7) تفسير القمي ص 465.
( 71 ) جلدة ) (1) ، وقوله ايضاً : ( انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان ) (2) ، وللنص الوارد عن أمير المؤمنين (ع) : ( ان الرجل اذا شرب الخمر سكر ، واذا سكر هذى ، وان هذى افترى ، فاجلدوه حد المفتري ) (3).
ولاشك ان هذا التشديد في التعامل مع المنحرفين اخلاقياً منسجم مع النظرية الاخلاقية الاسلامية . فلابد من أجل بناء مجتمع متكامل نظيف يهتم بحقوق الاسرة وحقوق الافراد الذين يشكلون تركيبتها البشرية وحقوق النظام الاجتماعي ، من انزال أقصى العقوبات الجسدية بالذين يحاولون تمزيق ذلك النظام الاسري والاجتماعي عن طريق الانزلاق في الشهوات المحرمة وخلط الانساب . وبطبيعة الحال ، فان الاسلام لم يغفل حاجة الفرد المتعلقة بالجنس ، بل اشبعها ضمن ضوابط الزواج الشرعية والعرفية ، وجعل العقاب صارماً فيما وراء ذلك.
ومع التشديد المذكور في انزال العقاب بفعلية الانحراف ، هناك تشديد آخر في الشهادة على الجرائم الخلقية ، وخصوصاً الزنا واللواط والسحق وهو اربعة شهود ، وفي القيادة والقذف والسكر شاهدان . ففي ثبوت الزنا الموجب للحد رجماً أو جلداً ينبغي شهادة اربعة عدول يتواردون على الشهادة برؤية الواقعة رؤية دقيقة ، ولابد من اتفاقهم على المشهود به زماناً ومكاناً وفعلاً . واذا نقص عدد الشهود عن أربعة ، أو اختلفوا في ____________ (1) النور : 4. (2) المائدة : 90. (3) الكافي ج 7 ص 215.
( 72 ) التفصيل حد الشهود على القذف ثمانين جلدة ، وهذا مصداق قوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابداً واولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فان الله غفور رحيم ) (1) ، وقد ورد ان ثلاثة شهود شهدوا على رجل بالزنا ، فقال امير المؤمنين علي (ع) : اين الرابع ؟ قالوا : الآن يجيء ، فقال : ( حدوا الشهود ، فليس في الحدود نظر ساعة ) (2) . ولاشك ان هذا التشديد في دقة الشهادة وعدالة الشهود ، له ناحيتان ايجابيتان ؛ الاولى : ردع الافراد عن اتهام الآخرين بالزنا بمجرد الظن أو الشك . فلابد من اجتماع الاربعة على رؤية الواقعة بتفصيلاتها الدقيقة ، والا فستكون العقوبة من نصيبهم . الثانية : ان الذي يرتكب هذا الانحراف امام اربعة رجال دون ادنى حياء ، يستحق العقوبة الجسدية لانه عنصر افساد للنظام الاجتماعي ينبغي استئصاله دون رحمة.
وقد جعل الاسلام تطبيق الحدود آخر الحلول لمعالجة الجريمة والانحراف . فقد أمر الافراد اولاً بالستر والتوبة وسد الحاجات الغريزية بالطرق الشرعية . فاذا استتر المنحرف وتاب الى الله قبل قيام البينة فهو في ستر الله ولا يقام عليه الحد : ( الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فان الله غفور رحيم ) (3) ، ولكن اذا أقر على نفسه بالجرم أو ثبت عليه الجرم بالبينة اقيم عليه الحد . وقد ورد في الروايات ان الامام (ع) مسؤول عن تزويج ____________ (1) النور : 4 ـ 5. (2) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 24. (3) النور : 5.
( 73 ) الزانية بحيث يعصمها عن ارتكاب هذا الانحراف ؛ وهو دليل قوي على ان أهم اسباب انحراف الفرد هو الحاجة المالية أو الغريزية التي لا تسد الا عن طريق الزواج الشرعي.
|