نقد فكرة ( العدالة الاجتماعية ) في النظريات الغربية |
الكتاب :
النظرية الإجتماعية في القرآن الكريم | القسم :
مكتبة الثقافة العامة
|
|
نقد فكرة ( العدالة الاجتماعية ) في النظريات الغربية
وتتنافس على الساحة الفكرية الاجتماعية في اوربا وامريكا ، اربع مدارس نظرية في تفسير معنى العدالة الاجتماعية ؛ وهي المدرسة التوفيقية ، والمدرسة الماركسية ، والمدرسة التلفيقية ، ومدرسة ( ماكس وبر ) . فالمدرسة التوفيقية بروادها الثلاثة ( اميلي ديركهايم ) ، و( هربرت سپنسر ) ، و( تاركوت بارسنس ) تؤمن بكل قوة بأن انعدام العدالة الاجتماعية الناتج من فوراق اجور العمل والمكافآت الاجتماعية يساعد بشكل حتمي على ثبات واستقرار النظام الاجتماعي (1) ؛ لأن ارتباط الدور الاجتماعي الذي يقوم به الفرد بالمكافأة المالية التي يستحقها هو الذي يحرك الطاقات الابداعية في النظام الاجتماعي . وقد فندنا آراء هذه المدرسة عندما درسنا موضوع الاجر والمكافأة في بداية هذا الفصل.
ولكن المدرسة الماركسية اصرت على ان انعدام العدالة الاجتماعية ماهو الا نتيجة حتمية للصراع الطبقي الدائر على الساحة الاقتصادية (2) . فتراكم الثروة عند افراد الطبقة الرأسمالية هو الذي ساهم في تصميم شكل القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يسيطر بها هؤلاء على مصير ____________ (1) ( دبليو بكلي ) . « انعدام العدالة الاجتماعية والنظرية التوفيقية في التفاضل الاجتماعي » . مقالة علمية في ( المجلة النقدية الامريكية لعلم الاجتماع ) ، عدد 23 ، 1958 م . ص 369 ـ 375. (2) ( كارل ماركس ) . المخطوطات الاقتصادية والسياسية لعام 1844 م . نيويورك : الناشرون الدوليون ، 1964 م.
( 39 ) الطبقات الاجتماعية الاخرى . الا ان الفشل الذي منيت به الفكرة الماركسية في الاجابة على الاسئلة المطروحة أفقدها الكثير من الانصار . فقد عجزت النظرية عن التنبؤ بظهور طبقة وسطى في المجتمع الرأسمالي . وان افراد هذه الطبقة لا يعملون بالضرورة ضمن توجه الطبقة الرأسمالية وخدمة مصالحها . فأساتذة الجامعات ، والعاملون في الحقول الطبية من بحوث وتطبيب وتمريض أو العاملون في خدمات النقل يعملون اما على اساس الدخل الشخصي أو على اساس كونهم موظفين لشركات كبيرة مملوكة من قبل افراد عديدين عن طريق الاسهم والسندات . وحتى ان ملكية وسائل الانتاج التي تتحدث عنها النظرية المراكسية فانها وان كانت موجودة في عالم اليوم ، الا ان العديد من هذه المؤسسات الصناعية الكبيرة تقع تحت ملكية الألوف من اصحاب الأسهم والسندات وتدار من قبل موظفين يتقاضون اجوراً معينة على جهدهم وعملهم ؛ وفي نهاية المطاف توزع أرباح هذه المؤسسات على الأسهم ومالكيها بالتساوي . فتراكم الثروة في هذه المؤسسات اذن يختلف اليوم عما كان عليه الوضع الاقتصادي في القرن التاسع عشر.
والمدرسة التلفيقية التي حاولت الجمع بين حسنات المدرستين التوفيقية والماركسية لم تتوفق في طرح منهج مقنع جديد لمشكلة انعدام العدالة وسوء توزيع الثروة الاجتماعية (1) . فقد آمنت هذه المدرسة بفكرة المدرسة التوفيقية القائلة بأن حاجات المجتمع الاساسية من الخبرات لابد ____________ (1) ( جيرهارد لينسكي ) . السلطة والامتيازات : نظرية في انعدام العدالة الاجتماعية . نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1966 م.
( 40 ) ان تشغل بالادوار التي يتطلبها ذك المجتمع . وبسبب ملء تلك الحاجات الاجتماعية بالادوار المختلفة ، فقد اختلفت قيمة المكافآت الاجتماعية للعمال والخبراء . وآمنت في نفس الوقت بفكرة المدرسة الماركسية الزاعمة بحتمية الصراح الاجتماعي للمحافظة على ديناميكية المجتمع الانساني باعتبار ان توفر الخيرات بشكل يفيض عن حاجة المجتمع سيؤدي حتماً الى التنافس والصراع الاجتماعي . ولكن هذه المدرسة وقعت في خطأ فادح ، وهو ان زيادة الثروة في المجتمع ، لا تكون بالضرورة عاملاً من عوامل نشر الاجتماعية حرمان الاجتماعي ، فزيادة الثروة وحسن وعدالة توزيعها تؤدي الى رخاء اجتماعي يساهم في رفع الحيف عن المظلومين والمحرومين ؛ لأن العدالة الاجتماعية ترتبط في الاصل بنظام يساهم في توزيع عادل للثروة ، ولا يرتبط بالزيادة المالية نفسها.
ولم يمنع اعجاب الطبقة العاملة والمثقفة الاوروبية في القرن التاسع عشر بأفكار ( كارل ماركس ) ، من تكثيف الجهود العلمية لمناقشتها ونقدها ، والتشكيك بسلامة أسسها الفكرية ؛ وكان من رواد هؤلاء الذين انتقدوا نظرية ( كارل ماركس ) في تحليل العلاقات الاجتماعية على ضوء الصراع الطبقي : العالم الاجتماعي الالماني ( ماكس وبر ) ؛ حيث قدم خلال نقده لافكار ( كارل ماركس ) نظرية جديدة مناقضة تماماً للنظرية الماركسية ، وتتلخص نظرية ( ماركس وبر ) بالقول بأن فكرة نشوء الطبقات الاجتماعية لا تحصل نتيجة الصراع الطبقي ، بل تحصل نتيجة تداخل عوامل ثلاثة ؛ وهي : الاول : العامل الاقتصادي ، والثاني : العامل السياسي ، والثالث :
( 41 ) العامل الاجتماعي ؛ أو بمعنى آخر : الثروة ، والقوة ، والمنزلة الاجتماعية (1) . فاذا أردنا معرفة الطبقة الاجتماعية لمعلم المدرسة مثلاً ، فما علينا الا ان نحسب ثروته المالية ، ونلاحظ قوته السياسية ، ونلمس منزلته الاجتماعية ، ثم نحكم من خلال هذه العوامل الثلاثة على موقعه في الطبقات الاجتماعية . ولكن ( ماكس وبر ) وقع في خطأ واضح وهو ان هذه العوامل الثلاثة متشابكة في الطبقة العليا في المجتمع ، ومستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض في الطبقتين الوسطى والفقيرة . فعالم الدين الورع مثلاً غني في النفس ( المنزلة الاجتماعية ) ، فقير في المال ( العامل الاقتصادي ) ، حكيم في القيادة ( العامل السياسي ) . فأين تقع مرتبته في الطبقات الاجتماعية ؛ الطبقة العليا ، ام الوسطى ، أم الفقيرة ؟ ثم الا يمتلك افراد الطبقة الرأسمالية الثروة والقوة السياسية والمنزلة الاجتماعية بينما يمتلك الفقير احياناً المنزلة الاجتماعية ولكنه لا يمتلك الثروة ؟ فأين موقعه في هذه النظرية ؟ هذه الاسئلة لا تجيب عليها نظرية ( ماكس وبر ) لانها تنظر لطبقات النظام الاجتماعي من منظار الطبقة العليا فقط . و( ماكس وبر ) لم يعط تحليلاً صحيحاً أو علاجاً نافعاً لمشكلة انعدام العدالة الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي . ولو كان صادقاً في تحليله لنظر الى جوهر المشكلة الاجتماعية وهي مشكلة توزيع الثروات بين الافراد ، وما يصاحب ذلك التوزيع غير العادل من تراكمٍ للثروة وتركيزٍ للقوة السياسية والاقتصادية في طرف معين ، وما يتبعه من تحكم وسيطرة تؤدي الى انعدام العدالة بين الافراد في النظام الاجتماعي.
وبعد ان اثبتنا فشل هذه النظريات في معالجة انعدام العدالة ____________ (1) ( ماكس وبر ) . الاقتصاد والمجتمع . نيويورك : بدمنستر ، 1968 م . الطبعة الاولى عام 1922 م.
( 42 ) الاجتماعية نرجع الى النظرية القرآنية في تثبيت صرح العدالة الاجتماعية في المجتمع الاسلامي ، فقد تعامل القرآن الكريم مع قضية توزيع الثروة الاجتماعية على عدة محاور :
الاول : المحور التعبدي ، حيث يتضح من دراسة الاحكام الشرعية الخاصة بالزكاة المالية وزكاة الفطر والخمس والانفال والاضاحي والكفارات والصدقات المستحبة ، ان الانفاق يعتبر من صميم الاعمال التعبدية التي يجازى على تأديتها المكلف أو يعاقب على مخالفته لها : ( مثل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، والله يضاعف لمن يشاء ، والله واسع عليم ) (1) ، ( يا أيها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم من قبل ان يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) (2).
الثاني : العامل الاخلاقي ، الذي يعتبر المال مجرد وسيلة من وسائل نفع النظام الاجتماعي واشباع حاجات الافراد الاساسية ، فيوصي ـ مثلاً ـ برد المال المأخوذ حرامأً الى صاحبه ، أو صرفه على الفقراء اذا عجز عن معرفة مالكه ، ويوصي أيضاً بمساعدة الافراد الذين ركبتهم الديون ، بستديدها من بيت المال ، ونحو ذلك ، فيقول عز وجل : ( انما الصدقات للفقراء والمساكين ، والعاملين عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، وفي الرقاب ، والغارمين ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، فريضة من الله والله عليم حكيم ) (3). ____________ (1) البقرة : 261. (2) البقرة : 254. (3) التوبة : 60.
( 43 )
الثالث : عامل الاعتدال في حجم الضريبة المفروضة على اموال الاغنياء ، والتأكيد على كون الضريبة تخص الفائص من الارباح السنوية ؛ حيث تستثنى المؤونة ومصاريف العمل من النسبة المئوية لأموال الاغنياء . وفي الوقت ذاته يوصي الاسلام بالاعتدال في صرف الزكاة بالنسبة للفقراء ، فلايحق للفقير تبذير المال الذي يستلمه من الحقوق الشرعية ، بل لا يحق للافراد اطلاقاً الاسراف والتبذير : ( ولا تبذر تبذيرا ... ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين ) (1).
الرابع : ان كمية المال الوارد عن طريق الحقوق الشرعية ، تعتبر في الواقع كمية هائلة ؛ وتشديد الاسلام على صرف هذه الكمية الضخمة من المال على الفقراء والمساكين بالخصوص لإشباع حاجاتهم الاساسية في المأكل والملبس والمسكن ، يضعه على صدر الانظمة الاجتماعية التي تنجح في معالجة مشكلة الفقر معالجة حقيقية . وهذا الدور الاسلامي في معالجة المشكلة الاجتماعية مستندٌ على فهم حقيقة الانسان الداخلية في العطاء وحقيقة التكليف الشرعي للافراد في التعاون والتضامن الاجتماعي. ____________ (1) الاسراء : 26 ـ 27.
|