متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
اطروحة الكتاب
الكتاب : النظرية الإجتماعية في القرآن الكريم    |    القسم : مكتبة الثقافة العامة

اطروحة الكتاب

ان رسالة عظيمة كالرسالة الاسلامية لابد وان تكون وليدة مصدر مطلق ينظم شؤون الكون ، والانسان ، والنظام الاجتماعي الذي يعيش تحت ظلاله مجموع الافراد . ولاشك ان القرآن المجيد ـ وهو كتاب الرسالة الالهية الخالد ـ يقدم لنا ملامح رائدة لمنهج النظام الاجتماعي الاسلامي ، ويعرض علينا نظرية رائعة لتنظيم مجتمعنا الاسلامي على ارقى طراز في العدالة الاجتماعية ، ومعالجة الانحراف الاجتماعي ، ورسم السياسة الصحية والتعليمية والعائلية والقضائية والسياسية للدولة الاسلامية.
فقد آمنت النظرية القرآنية ـ بالاصل ـ بعدالة توزيع الثروة الاجتماعية ـ مهما كان حجمها ـ بين الافراد . وحتى ان اختلاف ادوار الافراد ودرجات نفعهم الاجتماعي لايقدم تبريراً مقنعاً لانعدام العدالة الاجتماعية ، كما حاولت النظرية التوفيقية بريادة ( اميلي ديركهايم ) او نظرية ( ماكس وبر ) اقناعنا بذلك . بل ان تفاوت قابليات الافراد في التحصيل ، وتحرك الثروة العينية والقيمية في المجتمع ينتج اختلافاً في درجات العيش ضمن الطبقة الواحدة فحسب ، ولا يتطلب تعداداً للطبقات الاجتماعية كما تؤكد النظريات الاجتماعية الغربية.
ولعل اهم ما يميز النظرية القرآنية في علاج الفوارق بين الطبقات الاجتماعية هو ايمانها الجازم بان للفقراء حقاً في اموال الاغنياء . وهذا الحق ينبع من قاعدة اصالة اشباع حاجات الافراد الاساسية من الطعام واللباس والسكن التي آمنت بها النظرية الاسلامية ، وحاولت تطبيقها عبر الضرائب الثابتة الواجبة على الثروة الحيوانية والمعدنية والنقدية . وبالاجمال ، فان الاسلام خصص اكثر من ربع الثروة الاجتماعية لمساعدة الفقراء والمساهمة في المشاريع والخدمات الاجتماعية التي ترفع من مستواهم وتمنحهم فرصاً حقيقية للعمل والانتاج ؛ في حين ان مخصصات الدول الصناعية الغربية لمعالجة الفقر لا تتجاوز اثنين بالمائة من اجمالي الدخل السنوي للانظمة الرأسمالية.
وعلى صعيد الانحراف الاجتماعي ، فان النظرية القرآنية تقدم علاجاً رائعاً لمشكلة الانحراف عن العرف الاجتماعي والارتكاز العقلائي الذي آمن به الافراد في المجتمع الاسلامي . فعن طريق المشاركة الجماعية في دفع ثمن الجريمة بواسطة ( العاقلة ) في حالة الخطأ او ( ولي الامر ) في حالة قصور الجاني ، وعن طريق المساواة التامة بين جميع الافراد امام القضاء والشريعة ، وعن طريق العقوبة التنفيذية الصارمة ضد المنحرفين كالقصاص والدية والتعزير ، يتم استئصال جذور الانحراف في المجتمع الانساني ؛ لان الاصل في العقوبة الشرعية هو الردع وليس الانتقام .


( 14 )

ولاشك ان النظرية القرآنية في العقوبات تتفوق على النظريات الاجتماعي الغربية المعاصرة ـ كنظرية ( الانتقال الانحرافي ) لـ ( أدوين سوذرلاند ) ، ونظرية ( القهر الاجتماعي ) لـ ( أميلي ديركهايم ) ، ونظرية ( الضبط الاجتماعي ) لـ ( أميلي ديركيهايم ) ايضاً ، ونظرية ( الالصاق الاجتماعي ) لـ ( هاورد بيكر ) ـ باشتمالها على تفاصيل دقيقة في اوصاف الانحراف ، وصفات المنحرف ، والتمييز بين حقوق الفرد وحقوق الله ( وهي مطابقة لحقوق الجماعة ) ، وتعويض الضحية او متعلقيها تعويضاً مالياً يسد حاجاتهم الاساسية التي حرموا من اشباعها بفقدان المعيل ، ووجوب الرد على الغاصب وضمانه تلف المادة المغصوبة ، ووجوب اعادة المادة المسروقة ( الغرم ) حيث لا يسقط عنه بحال من الاحوال حتى مع اقامة الحد . ولاشك ان ( السجن ) ـ في النظرية القرآنية ـ لايحمل عقوبة رادعة ، في حين ان النظريات الاجتماعية الغربية جعلت ( السجن ) المصدر الرئيسي والساحة الحقيقية لمعالجة الانحراف . الا ان فشل السجون بتقويم المنحرفين وضع النظريات الاجتماعية الغربية في موضع حرج للغاية ، فحاولت استبدال عقوبة ( السجن ) بعقوبة ( تعليق الحكم ) بشرط ان يجد المجرم عملاً يرتزق منه ، وان لا يرتكب جريمة جديدة خلال فترة التعليق . وهو تراجع واضح في نظام العقوبات الغربي.
وعلى صعيد السياسة التعليمية ، فان النظرية القرآنية تعتبر الحقيقة العلمية اليقينية شيئاً قطعياً لا يمكن انكارها ؛ وما التعليم الا طريق يوصلنا الى ادراك تلك الحقيقة العلمية ، واستخدامها لتيسير حياتنا الفردية والاجتماعية . ولاشك ان الاصل العقلائي في تعلم العلوم الاجتماعية والتجريبية والدينية هو بناء النظام الاجتماعي وبناء الفرد بشكل يجعله مرتبطاً بالخالق سبحانه وتعالى اولاً ، وقادراً على تأدية التكاليف الشرعية ثانياً ، وقادراً على اشباع حاجاته الاساسية ثالثاً . ومع ان ( المدرسة العامة ) ـ التي تهتم بتعليم جميع الافراد دون استثناء ـ قد نشأت مع ظهور الدولة الحديثة ، الا ان هناك الكثير من الادلة الشرعية الاسلامية التي أكدت على التعليم الجماعي لكل الافراد ـ منذ الصغر ـ في الدولة الاسلامية . فالطفل يعتبر قاصراً وعلى وليه الاهتمام بمصلحته العلمية ومستقبله الاجتماعي ؛ بل ان من مسؤوليات ولي أمر الأمة بناء الدولة الاسلامية ، وما التعليم الا تهيئة مقدمات بناء الدولة من خلال بناء الافراد علمياً وثقافياً قبل البلوغ ؛ أضف الى ذلك ان العلم يقرب المكلف من خالقه عز وجل ، ويجعله من اكثر الافراد تطبيقاً للاحكام الشرعية ، ومن اقوى الافراد فهماً لدور الدين في النظام الاجتماعي . ولاشك ان المساواة العامة بين الافراد ، والعدالة الاجتماعية التي جاء بها الاسلام ، تعتبران دعماً حقيقياً للمساواة في نظام التعليم العام .
وعلى صعيد السياسية الطبية ، فلما كانت الصحة الجسدية والنفسية للافراد مرتبطة بالانتاج الاجتماعي ، فان تدخل الدولة لمعالجة الامراض أصبح امراً حتمياً


( 15 )

لأنه من الضروريات . ودور الدولة هذا ينبع من اهتمامها الشرعي بالفرد والجماعة ، وينبع ايضاً من اهتمام ولي الامر الفقيه بمصلحة من يتولاهم من الافراد . ولاشك ان النظرية القرآنية قدمت ثلاثة مشاريع متوازية لتكامل النظام الصحي للفرد والجماعة ؛ اولها : النظام الوقائي ، وهو النظام الذي يعالج الحالة المرضية قبل وقوعها عن طريق تنظيم دخول المواد الغذائية الى جسم الانسان . وثانيها : النظام الغذائي ، وهو النظام الذي يبعث في الافراد كل ألوان الطاقة والنشاط والتفكير . وثالثها : النظام العلاجي ، وهو النظام التجريبي الذي لابد ان يستخدمه الفرد في الحالات المرضية الاستثنائية ، وقد جاء التأكيد الشرعي عليه من باب احترام القرآن الكريم للحياة الانسانية المتمثل في قوله تعالى : ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ) المائدة : 32.
ولاشك ان الاسلام يضمن معيشة المريض وعائلته ضماناً مالياً الى حد الشفاء والرجوع الى الساحة الانتاجية . ولاشك ان اتفاق الفقهاء على ان الطبيب يضمن ما اتلف بعلاجه ضمن شروط معينة ، يعكس تكامل الفكرة الاسلامية حول السياسة الطبية في النظام الاجتماعي الاسلامي.
وعلى صعيد السياسة العائلية ، فان النظرية القرآنية تتناول دور العائلة في تعويض الخسارة البشرية للمجتمع الناتجة بسبب الموت ، وضبط وتهذيب السلوك الجنسي ، وحماية الافراد وتربيتهم واشباع حاجاتهم العاطفية ، وتنميتهم للاختلاط والتفاعل الاجتماعي لا حقاً ؛ بل ان القرآن الكريم اعتبر ( الاسرة ) محطة استقرار لعالم متحرك تنتقل من خلاله ممتلكات الجيل السابق للجيل اللاحق عن طريق الأرث والوصية الشرعية ، ومحطة لفحص وتثبيت انساب الافراد عن طريق اعلان المحرمات النسبية والسببية الناتجة عن الزواج وجواز الاقرار بالنسب . فالعائلة ـ اذن ـ تساهم في خلق الفرد الاجتماعي الصالح للعلم والانتاج ، المشارك في بناء النظام الاقتصادي والسياسي للمجتمع الاسلامي . وبذلك فان الاسلام يعارض نظرية ( الصراع الاجتماعي ) التي آمنت بأن المؤسسة العائلية هي اول مؤسسة اضطهادية يختبرها الفرد في حياته الاجتماعية ، ويعارض النظرية التوفيقية التي ساندت العائلة الرأسمالية واعتبرتها من انجح التشكيلات الاجتماعية على الرغم من ظاهرة العنف والاضطراب التي تمزق تلك العائلة الرأسمالية اليوم.
وعلى صعيد النظام السياسي ، فان النظرية القرآنية أولت ( الولاية الشرعية ) في المجتمع الاسلامي أهمية خاصة ؛ لان الولاية لازمة بالبديهة ، بل ان السؤال الذي اختلف حوله المسلمون بعد وفاة النبي (ص) لم يكن في اصل الخلافة ، وانما كان في موضوع الخلافة والمواصفات التي يجب ان يتحلى بها الخليفة الذي يتحمل مسؤولية الولاية الشرعية والاشراف على تنظيم شؤون الافراد في المجتمع الاسلامي


( 16 )

ولعل نضوج الفكرة الشرعية لولاية الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة يعتبر من اعظم الادلة على ضرورة اقامة الدولة الاسلامية وادارة شؤون الافراد على ضوء النظرية الفقهية . فيثبت عن ولاية الفقيه الشرعية للمجتهد : الافتاء ، والقضاء ، والجهاد ، والتصرف في اموال الناس وأنفسهم ، وكل فعل لابد من ايقاعه للادلة اللبية والشرعية كعزل الاوصياء والتصرف في الاوقاف العامة ونحوها ، وهو يعكس بشكل صريح اساس الحكومة في النظام الاجتماعي.
ولاشك ان وجود الدولة يعتبر عنصراً اساسياً في تحقيق العدالة الاجتماعية التي نادى بها الاسلام ؛ فهي التي تشرف على توزيع الخيرات ، وهي التي تخطط لمستقبل البلاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، وهي التي تقيم علاقاتها مع الدول الاخرى حتى يتحقق العدل الاجتماعي في جميع اقطار الارض.
وبطبيعة الحال ، فان العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة الذي جاء به ( توماس هوبس ) وطوره ( جان ـ جاك روسو ) يرفضه الاسلام باعتبار ان امتثال المكلف لطاعة الرسل (ع) وللانظمة الاجتماعية التي يقيمونها لا يمكن وصفه بالعقدية لانتفاء صفة العقد عنه . ويرفض الاسلام ـ ايضاً ـ فلسفة ( الدولة ) في النظريتين ( التوفيقية ) و( الصراع الاجتماعي ) ، باعتبار ان العدالة الاجتماعية ـ حسب النظرية الاسلامية ـ يجب ان تكون الاصل في انشاء تلك الدولة وليس الصراع الاجتماعي المزعوم.
وعلى صعيد النظام القضائي ، فان القضاء في النظرية القرآنية هو ميزان الحق ، ووسيلة رادعة وفعالة من وسائل حفظ النظام الاجتماعي ؛ لان منصة القضاء لاتمنح الا للعارف باحكام الله ، المجتهد العادل الامين الثقة الذي يستطيع استرجاع الحق المغصوب من الظالم ، او انزال القصاص العادل بالجاني ، او اجبار المعتدي على تعويض الضحية مالياً.
ولاشك ان الاسلام يرفض افكار ( اميلي ديركهايم ) الزاعمة بان الجريمة ضرورية لتماسك المجتمعات الانسانية بدعوى انها تعرف حدود السلوك المقبول ، لان الشريعة هي التي حددت ابعاد السلوك المقبول ولم تتركه لتصورات العرف الاجتماعي . ويرفض ـ ايضاً ـ حكم هيئة المحلفين باعتبار ان الحاكم الشرعي يجب ان يكون مجتهداً ، والا فما قيمة الجاهل باحكام القضاء حتى لو اقسم اليمين المغلظة على كونه عادلاً ، وأصبح عضواً في هيئة المحلفين.
ونستنبط ـ عبر دراسة الاطار الشامل للمؤسسات الاجتماعي على ضوء هدى القرآن المجيد ـ ان لهذا الكتاب السماوي العظيم دوراً عظيماً في انشاء نظرية اجتماعية الهية هي النظرية الاجتماعية القرآنية التي تتفوق ـ اليوم وفي كل وقت ـ على كل النظريات الاجتماعية على وجه الارض.

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net