بسم الله الرحمن الرحيم
نساء في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
كان عصر الظلام ، وإن كان لها عصر النور ، وكان عصر الجهل ، وإن كانت فيه أعرف ما تكون . كان عصر الوحشية البغضية ولكنها كانت مثالاً للإنسانية الكاملة . فهي عقيلة خيرة شباب عصره عبدالله بن عبد المطلب ، ومن الذي ينكر عبدالله أو ينكر من فضله شيئاً ، وهو حلم عذارى قريش ومرمى آمال الفتيات ، وقد تخيرها هي دون سواها لتكون له زوجاً ولنسله اُماً ، فمن أجدر من آمنة بنت وهب وهي المتحدرة من أعرق الأسر ، والمتقلبة في أعز أحضان ، أن تحتل هذه المكانة الفذة .
نعم كانت صاحبتنا هذه هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب ، وقد جلست إلى ظل شجرة وارفة الظلال لتستعيد ذكرى أيام عذاب وسويعات هناء وصفاء ، وتنصت إلى صدى الزمن
( 244 ) الفائت ، وهو يتردد في أعماقها كأروع ما يكون الصدى ، وتستمد من ذكرى حبيبها الغائب رصيداً من الشجاعة يساعدها على مر الفراق ، فأنى لها الآن بذلك الزوج البار الذي فارقته مرغمة وفارقها مرغماً أيضاً ، وما أحوجها إليه في أيامها هذه التي توشك أن تستقبل فيها قادماً جديداً ووليداً عزيزاً . . . ما أحوجها إلى ذلك الحبيب الغائب ليهدهدها بحنانه ويشاركها آمالها وأمانيها وينتظر معها ابنهما البكر ، فها هي تكاد تستمع إلى دقات قلب جنينها الغالي وهي سعيدة لذلك لولا سحابة من ألم ظللت سعادتها لبعد الأب الحبيب ولكنها تعود لتقول عسى أن يكون اللقاء قريباً ، وهي تأمل أن يصلها خبر قدوم الغائب المنتظر في غضون هذه الأيام .
فعبدالله كما لا تشك آمنة لحظة سوف لا يألو جهداً في الإسراع بالرجوع ، وسوف يبذل كل محاولة ممكنة لإنجاز مهمته في أسرع وقت ، وقد خلف وراءه في مكة زوجة عروساً تحمل له في أحشائها جنيناً وتضم له في قلبها حباً وحنيناً ، ولهذا فلا تشك آمنة في رغبة زوجها بالأبوة السريعة وفي أنه لن يماطل في سفره ولن يتقاعد عن اللحوق بأهله سريعاً مهما طاب له المقام في الخارج ،
( 245 ) فهي لا تنسى أبداً ساعة إذ أقبل إليها مودعاً ، وقد أوشكت القافلة على المسير .
وهي لا تنسى أبداً أيضاً تلك الخطوط العريضة الواضحة من الحب والعطف ، وهي مرسومة على وجهه المشرق المضيء ، ولا تنسى أبداً كيف أنه مكث معها ، وكأنه لا يريد أن ينصرف ، أو كأنه لا يتمكن من الإنصراف حتى انتزعه إخوته من أمامها انتزاعاً ، وهم يهونون عليه مدة البعد ، ويمزحون معه ويتضاحكون وهي لا تنسى أيضاً كيف أنه كان يلتفت نحوها ، وهو سائر إلى حيث تنتظره العير .
وفي كل لفتة من لفتاته كانت تقرأ معنى من معاني الحب حين يلتهب ، ويشد إنساناً إلى إنسان . كان زوجها المسافر يحس بأنه مخلف وراءه شيئاً لم يسبق لغيره من المسافرين أن خلف مثله . . .
وكان يشعر أن آمنة وهي تحمل له جنينه الغالي ، قد بدت لعينيه في تلك اللمحات داخل إطار من نور مقدس ، ووسط هالة من الإشعاع السماوي ، ولكنه كان مضطراً إلى السفر فسافر وهو على أمل لقاء قريب .
( 246 )
وهكذا تستمر آمنة بنت وهب سارحة مع أفكارها وأحلامها ، وتستمر أفكارها وأحلامها معها أيضاً ، عنيفة بها مرة ، ورفيقة بها اخرى حتى تنتزعها من انطلاقتها الحلمية .
تلك أصوات غريبة وصلت إلى سمعها من صحن الدار ، وحركة غير طبيعية أخذت تدب في أرجاء البيت فتهتز لهذه الظاهرة الجديدة لحظة ، ويخامرها قليل من أمل وتساورها لمحة من رجاء .
ماذا لو كان الحبيب الغائب قد عاد هو ومن صحبه من الإخوان ، وماذا لو كان ما تسمع رجع صدى قدومهم على غير ميعاد .
ماذا لو كان عبدالله قد اختصر المدة ورجع إلى أهله وإليها ، وإلى جنينها الحبيب ، ثم تنهض متعجلة وهي بين اليأس والرجاء وتذهب متلهفة الخطى وقلبها يكاد يسبقها في المسير ، وتذهب لتسأل عن الخبر اليقين ، وتلقى سؤالها بصوت كأنه حشرجة روح . . .
ماذا هل قدم عبدالله ! ؟ . .
( 247 )
فهي تشعر أن هناك واردين جدداً ، وهي تحس أن الدار ليست على هدوئها الاعتيادي ، ولكنها لا ترى عبدالله . وكانت تتوقع أن تبصر به قبل السؤال ، ولكنها حينما لم تر عبدالله ، وحينما وثقت من قدوم المسافرين الذين صحبوا زوجها في السفر انبعثت آهاتها كلمات سألت فيها عن عبدالله ، وتسمع الجواب وهي لا تكاد تفهم منه إلا القليل فقد أذهلتها الصدمة ، وشلت حواسها المحنة التي شعرت بها قبل أن تسمعها وعرفتها بدون أن تخبر بواقعها وكان الجواب . . لا لم يجئ عبدالله ولكنهم الآخرون ، فتعود تسأل وهي لا تعلم أنها تسأل وتستفهم وهي في غنى عن الاستفهام . إذن فأين عبدالله وما الذي قعد به عن متابعتهم في السير . . . فيقال لها : أنه مريض وقد أفاء إلى قوم في منتصف الطريق يستضيفونه حتى يقوى على السفر وهي تسمع الجواب وتفهم منه غير الذي قيل فتنطلق روحها من فمها إلى كلمات مرة وتقول :
آه من لي بعبدالله ومن لوليدي بأبيه . وهكذا تتلاشى أحلام آمنة وينهار صرح أمانيها فنراها وقد تسربلت بأبراد العزاء بعد أن انطفأت شعلة السعادة المتوهجة في صباها الريان فهي رابضة بعيداً عن اللذات والرفيقات . .
( 248 ) منصرفة عن الدنيا وما فيها من مباهج . . عاكفة على آلامها الممضة ، منطوية تحت سماء الحزن القاتم وفي إطار من الآلم المرير . . فهي لا تحيى إلا للذكرى ولا تعيش إلا على حطام السعادة المفقودة بعد أن افترقت عن رفيق دربها السعيد ، وأصبحت وهي الزهرة الناظرة رهينة الثكل الممض والحزن القاتل . فآمنة كادت بعد فجيعتها بعدالله أن تزهد في الحياة فما عادت تشعر للحياة معنى وهي خلو من عبدالله ، وعبدالله كان لها الحياة الروحية بكل معاني الحياة ، ولكن بارقة من أمل وشعور لا إرادي أخذ يشدها للحياة التي أنكرتها ، وأخذ يشعرها بوجودها حية مع الأحياء ، ويذكرها أنها لم تمت يوم مات عبدالله ، فقد أخذت تشعر أن عليها تجاه عبدالله واجباً يجب عليها أن تؤديه ، وأن في أحشائها وديعة لفقيدها الغالي ، لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تنساها ، أو تتناساها . وأحست أن رسالتها بالنسبة لعبدالله لم تنته بعد ، فما دام طفله معها فهي مسؤولة أن تعيش ، ولهذا فقد أقامت على لوعة مريعة وألم ليس فوقه ألم ، وما أكثر ما كانت تسترجع ذكرى أيامها مع الزوج الغالي وأيامها قبل أن يدخل حياتها وتدخل حياته ، وكيف أنه اختارها هي دون سواها مع كثرة
( 249 ) الإغراء الذي أحيط به من فتيات قريش ، ولهذا فما أكثر ما حسدت عليه وما أكثر ما اعتزت به وفرحت فلم يكن عبدالله بن عبد المطلب بالعريس الهين ، فهو غصن بني هاشم ، ومنار فتيان قريش فماذا لو لم يفرق الموت بينهما ، وماذا لو تركهما يتذوقان الهناء ، ولو إلى مدة قصيرة ، وماذا لو أمهله الموت حتى يرى وليده العزيز ، وماذا لو رحم الموت هذا الجنين الذي سوف يستقبل الدنيا أو تستقبله الدنيا ، وهو يتيم وحيد ، وهي لا تزال تذكر ساعة الوداع ولا تنسى وصايا عبدالله لها أن تحافظ على جنينها ما وسعها الحفاظ ، ولكن أين هو الآن وقد آن للعزيز المنتظر أن تبصر عينه نور الحياة ، وفعلا فقد استقبلت الدنيا محمد بن عبدالله وهوم يتيم يكفله جده وتحضنه اُمه الثاكلة آمنة بنت وهب ، وهي المرأة الأولى في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم تمضي الأيام تتبعها الأسابيع والشهور وآمنة عاكفة على وليدها الغالي تفديه بالنفس والنفيس حتى بلغ السن الذي يتحتم به عليها أن تدفع به إلى المراضع ؛ فقد كان المفهوم السائد في ذلك العصر أن الطفل الذي ينمو في البادية ويترعرع في جوها الطلق يكون أشد عوداً ، وأقوى
( 250 ) عزيمة من الطفل الحضري ، وعلى هذه القاعدة المتبعة دفعت به اُمه إلى حليمة السعدية ، وهكذا أصبحت حليمة المرأة الثانية في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد رجعت حليمة وزوجها إلى أحياء بني سعد ، وهي تحمل معها طفلاً يتيماً لم تتمكن أن تحصل على غيره في الوقت الذي حصلت فيه باقي المرضعات على أطفال أغنياء استلمتهم من أيدي أبويهم محملين بالزاد والمال الوفير . . .
ومنذ أن ضمت ساعداها هذا اليتيم أحست أنه أصبح لها كل شيء وأحست أنها تود جادة أن تصبح له كل شيء أيضاً ، وما أن سافرت به حتى بدأت تتعشقه وتفنى فيه ولم يستقر بها المقام إلا وهي تشعر بأنها تحمل معها كنزاً ثميناً دونه الكنوز ، وعرفت بدافع من أعماقها بأنها هي الرابحة الحقيقية دون سواها من المرضعات ؛ وقد بدأت تلوح لها بوادر تؤيد عندها هذا الشعور فقد عمت البركة جميع الحي وتزايد الخير بالزاد والمال ، وقد أفضت بما تراه لزوجها ونبهته إلى بوادر الخير التي أخذت تلوح لهم .
فقال لها : عسى أن يكون لهذا الغلام شأن وأوصاها
( 251 ) بالعناية به والحرص عليه ؛ ولكن حليمة لم تكن تحتاج إلى أي توصية فقد ازدحمت في قلبها جميع عواطف الأمومة تجاه هذا الطفل الصغير ، وتفجر في فؤادها ينبوع من الحنان لا يمكن له أن ينفد أبداً . وقد كانت تقدمه على أولادها ، وتحله في أعلى منزلة من قلبها ورعايتها وبرها وكرمها . وقد اختلقت كثيراً من المعاذير والحجج لتتمكن من استبقائه عندها أكبر مدة ممكنة فما كانت تتمكن أن تنفصل عنه أو أن يفارق أحضانها ويبعد عن ساعديها ، فقد كان بالنسبة لها ينبوعاً للخير والبركة السعادة والهناء .
وكذلك كان محمد بن عبدالله أيضاً فهو يحبها ويركن إليها ويحترمها صغيراً وكبيراً ، ويحفظ لها جميلها بكل احترام ، وقد عاشرها سعيداً وفارقها غير قالٍ ، ولا عاتب ، وقد بقي يذكرها بالخير والاعزاز حتى بعد النبوة ، فقد كان صلوات الله عليه يناديها بيا اُمي ، وإذا أقبلت إليه أفسح لها مجلساً إلى جواره ، وقد يتفق أن يهوي على صدرها فيقبله وهو أكثر ما يكون براً بها وحدباً عليها . .
ثم يرجع محمد بن عبدالله إلى كنف اُمه وجده لكي يحظى برعاية الاُم في أوائل صباه ولكي ينشأ في ظل جده
( 252 ) وتوجيهاته . ولكن القدر سرعان ما يقف معه مرة اخرى لينتزع منه اُمه ، وهو لا يزال طفلاً طري العود . . يصحبها في سفرةٍ تقصد بها أخواله ومعهم وصيفتها الأمينة أم أيمن ؛ وفي وسط الطريق ، وبين أميال مترامية وصحراء لا متناهية يمد القدر يده لينتزع منه آخر ركيزة له في الحياة فتلحق العلة باُمه وينتزعها الموت من بين يديه .
ويعود محمد الصغير يتيماً مرة اخرى أو بعبارة اخرى يتيماً مرتين ولا تمهله يد الزمن حتى تفقده جده البار الذي كان يعوضه بحنانه عن حناه الأبوة وبعطفه عن عطف الأمومة . وعند هذا يكفله عمه أبو طالب ويفتح له بيته وقلبه ويفسح له في مكانه وحنانه .
وتكفله فاطمة بنت أسد زوجة عمه الكريمة كأحسن ما تكون الكفالة . تحله في المحل الرفيع من قلبها ورعايتها وتمد له يد العون والحدب بكل ما تستطيع .
وفاطمة هي المرأة الثالثة في حياة الرسول العظيم فلم تكن تحس أن محمداً يختلف بقليل أو كثير عن أولادها الباقين ، بل إنها كانت تحس بأن لمحمد شأناً يخوله أن يحتل الصدارة في قلبها ، وعواطفها ، وكانت
( 253 ) تتابعه بعينها وهو ينمو إلى الشباب الزاهر ، ثم يكتمل شبابه ويغدو رجلاً ملء السمع والبصر .
كانت ترى فيه حصناً ورصيداً روحياً لها في مستقبل أيامها وكانت تستمد من وجوده العزيمة والمضاء . ولشد ما كانت تعتز بأن تراه وهو يحتضن وليدها الغالي علي فهي فخورة بهذا الاحتضان الروحي ومتفائلة به خيراً .
فمحمد هو أول شخص ابتسم له ابنها علي بعد إذ خرجت به من الكعبة ، وهي تحمله بين ساعديها الحنونين ، فهي لا تنسى أبداً أن علياً ولد في الكعبة وفي أشرف بقعة فيها ، وها هو عليُّها العزيز ، وقد أخذ ينمو ويترعرع تحت رعاية وتوجيهات ابن عمه الصادق الأمين محمد بن عبدالله ومحمد رسول الله أيضاً بعد إذ غدا شاباً .
وفي أوج شبابه لم يكن لينسى لفاطمة بنت أسد حبها ولم يكن ليتنكر لحنانها مطلقاً ، فهو لها كولدها في كل أدوار حياته وفي كل أحواله ، وقد استخلص لنفسه ولدها علي بعد إذ عمت المجاعة في مكة .
وكان عمه أبو طالب كثير العيال مرهقاً بتكاليف
( 254 ) العيش ، وكان رسول الله قد استقل في ذلك الحين ببيته ومع زوجه خديجة ومنذ أن فتح لابن عمه بيته وقلبه لم يفترق عنه يوماً واحداً في كل الظروف والملابسات .
وكانت فاطمة بنت أسد ترى هذا الامتزاج العاطفي بين ابنها وابن عمه فتسر له ، وتفرح فيه فهي تكبر محمداً وتعجب فيه وتعتمد عليه ، وتركن إليه ، وكان الاثنان يحلانها محل الأم لا فرق بين ابنها وابن عمه .
فقد جاء في الروايات أن الإمام علي بن أبي طالب لما أخبر رسول الله بوفاة اُمه قال : إن اُمي قد توفيت يا رسول الله ، فيرد عليه رسول الله بل اُمي أيضاً يا علي . . وناهيك عما تحمل هذه الكلمة من تسلية للابن الفاقد اُمه ، وما تعطي للاُمة من دروس في الوفاء والإخلاص ، وحفظ الجميل ، وقد أعطاها ثوبه المبارك لتلف به مع كفنها كي يكون لها ستراً ومعاذاً ، وجلس على قبرها بعد أن انفض الجمع ، وأخذ يدعو لها ويسأل الله أن يجزيها عنه خيراً ويستعيد في فكره أيامها معه ، إذ هو طفل صغير ، وحنانها عليه حينما كان يتيماً وحيداً ، ورعايتها له وهو شاب فتي . وأخيراً قام عن قبرها وهو حزين كئيب .
( 255 )
فقد كانت هي المرأة الثالثة التي دخلت في حياته صلوات الله عليه والتي نشأ في ظلال عواطفها إلى حين استقر به المطاف عند قرينته خديجة بنت خويلد .
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وقد كانت سيدة نساء عصرها كمالاً وجمالاً ومكانة ، وكرامة ، فهي سليلة دوحة ثابتة الفروع ، وفرع شجرة عميقة الجذور ، وقد عرفت بين قومها بسمو الروح وعلو الهمة وقوة الشخصية ، وثبات الفكرة وصواب الرأي ، وقد كانت مع كل هذه الثروات المعنوية والأدبية ثرية في مالها أيضاً ، وقد كانت تفتش عمن تستودعه المال ليتاجر لها به على أن يكون أميناً صادقاً مخلصاً . فهي جادة في طلب ضالتها من بين شباب قريش وشيوخها ، وبما أنها امرأة لا تتاح لها المراقبة الدقيقة كانت تحتاج إلى صاحب ثقة تتمكن أن تودعه مطمئنة مرتاحة .
ومحمد بن عبدالله كان يفتش بدوره أيضاً عمن يدفع له مالاً يتاجر له به . فهو وإن كان فتى قريش الأول ومحط أنظارهم جميعاً ، ولكنه لم يكن ليستغني عما يحتاج إليه غيره من رجال قريش . ويسمع كما يسمع غيره أن خديجة بنت خوليد تفتش عمن يتاجر لها بمالها فيتقدم إليها عارضاً عليها استعداه للقيام بهذه المهمة .
وخديجة بنت خويلد تلاقي عرضه بالقبول بل بالرضاء ، والاطمئنان فهي تعرف محمد بن عبدالله وتعرف عنه الكثير أيضاً ، ولم يكن في مكة من لا يعرف محمداً الصادق الأمين .
فخديجة راضية لهذه الشركة ومتفائلة بها خيراً وتدفع له أموالها ، وهي واثقة من أنها قد سلمتها ليد أمينة حريصة على أداء الأمانة ، ولذلك فقد أخلدت إلى راحة نفسية عميقة وظلت تنتظر رجوع محمد بن عبدالله وغلامها ميسرة الذي أرسلته مع محمد ، ورجع محمد ورجع معه ميسرة .
وكان صلوات الله عليه يحمل لها معه الريح الزاكي الوفير وتخلد خديجة بنت خويلد إلى غلامها ميسرة تسأله عمن رافق في السفر وتلحف عليه أن يشرح لها كل ما وجده منه وما رآه عليه ، وهي على شبه يقين من أن غلامها سيقص عليها من أمر رفيقه عجباً ، وغلامها مندفع يعدد لها مناقب محمد ، ويصف لها حركاته وسكناته والإعجاز في
( 257 ) سلوكه ، وأسلوبه وكل شيء فيه ، وهي منصتة له بقلبها وفكرها وبكل جارحة فيها تستزيده ولا تنكر من حديثه شيئاً ، ولا تستغرب منه خبراً ، فهي قد عرفت أن محمداً بن عبدالله رجل لا كالرجال وقد سمعت عنه ما جعلها على يقين من أن له في مستقبلة شأناً سماوياً .
وخديجة في ذلك الحين امرأة في نهاية العقد الرابع من عمرها ، وكانت قد تزوجت ومات عنها زوجها ، وهي في ريعان الشباب .
خديجة بنت خويلد ـ وقد أثرت عليها شخصية محمد بن عبدالله ، واستولت على أفكارها وأمانيها روحه السامية بكل ما فيها من معاني الكمال ـ تود من صميم قلبها أن تقرن به حياتها الثمينة ، وأن تكون له كأروع ما تكون الزوجة الوفية المخلصة .
نعم خديجة بنت خويلد الغنية بمالها وجمالها وعزها ، ومجدها تبعث إلى محمد بن عبدالله الصادق الأمين وتطلب إليه الزواج حباً في شخصه ، وتفانياً في روحه ونفسه .
وقد كان صلوات الله عليه في ذلك الحين شاباً في
( 258 ) أواسط العقد الثالث من عمره المبارك وهو يتمتع بكل معاني الكمال من الجمال والعزة الكرامة وسمو المكانة وعلو الرتبة وقوة الشخصية وقد كان يتمكن بسهولة أن يخطب له أي فتاة من فتيات قريش مهما علت بشأنها وجمالها .
فهو منار شباب قريش والمقدم عليهم في كل مضمار ، ولكنه بدافع خفي وجد نفسه يندفع إلى خديجة بنت خويلد السيدة التي تكبره بخمسة عشر سنة متجرداً عن العواطف الشهوانية ، والأهواء المادية مترفعاً عن كل ما يصبو إليه غيره من متعة جسدية ، وغايات رخيصة .
فهو كان يرى في الزواج شركة روحية مقدسة لا تطغو عليها المادة ولا تتحكم فيها النزعات الحيوانية .
فالزواج في نظر الرسول الأعظم امتزاج روحين ، ووحدة هدف ، وغاية وتعانق قلبين طاهرين قبل أن يكون صلة جسدية . .
ومن أجدر من خديجة بنت خويلد بأن تحتل في قلب محمد وفي حياته مكان الصدارة ، وفعلاً فقد دخلت خديجة في حياة رجلها الخالد كإمرأة أربعة ، ولكنها لم
( 259 ) تدخل في حياته وهو محمد بن عبدالله فحسب ، بل وهو رسول الله وخاتم أنبيائه أيضاً .
وهكذا كانا مفترقين ثم جمعهما القدر السماوي دون أن يشعرا ليضم ثروة خديجة إلى دعوة محمد ؛ وما أحوج الدعوة إلى رصيد تسلك به الطريق ، وقد وجد كل منهما ضالته المنشودة في قرينه وصفيه ، فخديجة بنت خوليد ربيبة الترف والدلال والمتقلبة في أحضان النعمة والثراء ، تفنى في رجلها الحبيب الفقير وتتعرف في كل لحظة على معنى من معانيه ، يزيدها فناءً فيه ويحبب إليها ذلك الفناء .
ومحمد بن عبدالله أحسن رجال قريش شكلاً وأعرقهم أصلاً وأصدقهم لساناً وأقواهم جناناً وأذيعهم صيتاً وأعلاهم درجة وهو في الخامسة والعشرين من عمره الشريف يخلص لزوجته الوفية خديجة وهي في الأربعين من عمرها المبارك . يخلص لها خلوص الزوج الواثق ويركن إلى حنانها وعطفها ركون الابن إلى اُمه .
وخديجة هي رابعة امرأة دخلت في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن أتراه كان نسي النساء الثلاث اللاتي تقدمنها . .
( 260 )
أتراه قد أهمل ذكرهن أو تجاهل وجودهن في حياته الماضية ؟
كلا ؛ فإن محمداً بن عبدالله لم يكن من النمط الذي ينسى من أحبوه ، أو يتجاهل ذكر من لم يتجاهلوه .
وما أكثر ما كان يسرح مع أفكاره في ساعات عزلته ، ويرجع بها إلى الوراء إلى أيام حداثته ، وصباه الأول ، من عهد اُمه آمنة إلى مرضعته حليمة ، إلى زوجة عمه الكريمة فاطمة بنت أسد ، ويقف معهن عند كل لمحة حب ، أو لفتة عطف ، ويدعو لهن بالرحمة والغفران . وكان يرى حياته الماضية ، وكأنها شريط يتتابع ويتلاحق أمام عينيه بكل ما يحمل هذا الشريط من إكرام وآمال ومحن ، ومصاعب .
ثم يعود ليستقر بأفكاره عند واقعه الحالي ، ويركز على خديجة هذه السيدة الطاهرة التي يحس بها كقوة خفية تشد ظهره ، وتسند كيانه ، وكأنه كان يعلم أنها سوف تقف معه ، إذ لا واقف غيرها ، وتصدقه حين لا مصدق سواها . وتمضي السنون تتلاحق ، والأحداث تتابع ومحمد بن عبدالله هو وخديجة بنت خويلد يشقان
( 261 ) طريقهما معاً في الحياة وقد ظللتهما سماء الحب وأحاطتهما يد الاخلاص والوفاء .
وكان صلوات الله عليه كثيراً ما يعتكف الساعات الطوال في غار حراء ، يعتزل بها الدنيا بروحه وفكره ، وجسده ، ويروح يسبح في ملكوت السماوات .
وما أكثر ما كانت تستبطئه خديجة وتفتقد قدومه في وقته المعين ، فتذهب بنفسها غير واثقة من أن تنيب عنها خادمه أو ترسل دونها رسولاً . تذهب لتفتش عنه في الأماكن التي تعلم أنه يزورها دائماً ، وخصوصاً غار حراء . . فقد كان هو الخلوة المفضلة لدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد كانت خديجة تحمل له بيدها الطعام والماء ولا تذهب إلا للإطمئنان على سلامته ، فقد كانت تشجعه على هذا الاعتكاف لثقتها من أن وراء هذه الخلوات رسالة مقدسة سوف يحملها بعلها الغالي .
ولذلك فلم تكن تتبرم لغيابه أو تعتب عليه وكانت تشعر بروحها وهي تذهب معه أينما ذهب ، فهي معتكفة معه في الغار ، وهي سارحة وإياه في البراري والقفار ،
( 262 ) فإن فاتها أن تسايره جسمياً فإنها لم تكن لتفارقه روحياً ، وفكرياً .
وكانت تتابع حركاته وسكناته بعينها الساهرة الحنون وهي رفيقة به عطوفة عليه . .
وفي أحد الأيام يدخل على خديجة زوجها المصطفى بعد أن كان قد أمضى في غار حراء الساعات الطوال ، فتنشط لاستقباله هاشة باشة ولكنها تنكر منه حاله ولونه وتنكر منه ما يبدو عليه من ضعف وإعياء ، فهو شاحب اللون مجلل بالعرق ، ويطلب إليها أن تدثره ، وهو يرتعد . فتدثره خديجة وهي ملحاحة في التعرف إلى ما يخامره ، فلم تعهد بمحمد ضعفاً ، ولم يصدف لها أن رأت الاضطراب بادياً عليه كما تراه الآن وهي تعلم أن زوجها الحبيب لا يضعف ، ولا يتخاذل لأي سبب مهما كان مؤثراً ومهما كان صعباً . ولذلك فهي تسأله في إصرار وإلحاح وهو يتهرب من الجواب ويماطل في الرد ، ولكن خديجة الزوجة وخديجة الرفيقة والصديقة تأبى إلا أن تتعرف إلى حاله ، وتفهم السبب كيما لا تتأخر عن موقفها الطبيعي في السير معه في كل مضمار ، وإلى كل غاية .
( 263 )
وأخيراً يخبرها الرسول بما سمع ويشرح لها ما أحس ويقص عليها خبر الروح الذي فاجأه في غار حراء وقال له : إقرأ فيجيبه ما أنا بقارىء فيكررها عليه ثلاثاً ، ويرد الجواب نفسه ثلاثاً أيضاً فيقول ، الروح :
( إقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الانسان من علق * إقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الانسان ما لم يعلم ) صدق الله العظيم .
وهنا تسأله خديجة وهي في نشوة روحية نشطة : ألم تسأله من أنت ، ألم تسأله عن إسمه ؟ فيجيبها صلوات الله عليه قائلاً : سمعته يقول : أنا جبرئيل جئت أبلغك رسالة ربك ، ثم يردف ، وكأنه يريد أن يبث خديجة ما يحس وأن يشاركها بإفكارها .
قال : لقد خشيت على نفسي .
فتجيبه رضوان الله عليها باندفاع وحماس .
كلا والله ، ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، وتصدق الحديث ، وتؤدي الأمانة .
( 264 )
بهذه الكلمات البليغة الحكيمة ردت خديجة على زوجها مشجعة مصدقة ، وكلها اطمئنان إلى صدق محمد بن عبدالله ، ثم ينزل عليه الوحي ليأمره بأن ينذر وأن يبلغ ويدعو إلى رسالة السماء ، وينهض رسول الله لكي ينذر وتنهض خديجة أيضاً تهب معه بكل طاقاتها وإمكانياتها المعنوية ، والعاطفية ، والمادية .
ومضت تواكب سيره المبارك في كل مضمار ، وعندما خرج ليصلي في المسجد لأول مرة ، وخرج معه ابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام ، كانت خديجة ثالثهما في الصلاة لم تقعد بها خيفة ولم يثنها عن اندفاعها الإسلامي تردد أو شك فهي تعرف محمداً كما لا يعرفه غيرها من الناس ، وتثق فيه ثقة مطلقة .
وهذه إحدى نواحي الإعجاز في النبي ، فإن أكثر عباقرة التاريخ كانوا يعانون الأمرين من تصرفات زوجاتهم ، وعدم تصديقهن بعبقريتهم ، فإن الإنسان الاعتيادي مهما كان عبقرياً فذاً لا يمكن له أن يخلو من نقص ، ونقاط ضعف إذا فرض فأمكن له أن يخفيها عن
( 265 ) كل أحد لا يمكن له أن يخفيها عن زوجته التي هي أقرب الناس إليه ، ولكن بالنسبة إلى رسول الله وزوجته خديجة انقلبت هذه القاعدة فأصبحت الزوجة أول مصدقة ومؤيدة لأنه صلوات الله عليه كان فوق مستوى غيره من الرجال مهما كانوا عباقرة وأفذاذاً ، فكلما كان الشخص قريباً منه كان أكثر حباً له ، وأكثر عقيدة ، وأرسخ إيماناً برسالته ، ودعوته .
فقد كانت عواطفه الإنسانية عامة شاملة لكل نواحي الحياة سيان في علاقاته الداخلية ، أو الخارجية . حتى أنه كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه قام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه .
وإذا لقيه أحد فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده .
وكان أشد حياء من العذراء في خدرها .
وكان أصبر الناس على أقذار الناس .
كان عطوفاً على كل ضعيف باراً بكل مسكين ما ضرب أحداً وما نهر خادماً قط .
( 266 )
وقد روي عن أنس أنه قال : خدمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ، ولا قال لي لشيء صنعته لم صنعته ، ولا لشيء تركته لم تركته .
وحتى زيد بن حارثة الذي خطف من أهله وهو صغير ثم اهتدى إليه أبوه واهتدى هو إلى أبيه على لهفة الشوق بعد اليأس من اللقاء ، فلما خُيّر بين الرجعة إلى أبيه وبين البقاء مع الرسول اختار البقاء مع السيد عن الرجعة إلى الوالد ؛ وشق عليه أن يفارق ذلك الرصيد العامر بالعطف والحنان ؛ والذي غمره بحبه ومواساته ، إذ هو ضعيف شريد لا يرى ذويه ، ولا يدري من هم ذووه .
وحتى مولاه ثوبان ، والمولى في أغلب الأحوال يكون كارهاً لمولاه حاقداً عليه قالياً له نظراً لما يحسه من تقدم سيده عليه ومالكيته له ، ولكن ثوبان نحل وظهر عليه الحزن في ليله ونهاره فلما سأله صلوات الله عليه عن سبب ذلك قال : قرب منيتي وخوفي من فراقك لأنك في الجنة سوف تكون في درجات الأنبياء فلا أستطيع أن أراك .
ولهذا نزلت الآية الكريمة التي تبشر المؤمنين المخلصين بصحبة الأنبياء الصالحين ، ( ومن يطع الله والرسول فإولئك مع
( 267 ) الذين أنهم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ) النساء | 69 .
هذه نواحٍ تكشف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما هو إنسان كامل حتى في نظر زوجته ومولاه ومرافقه ، هؤلاء الذين تنكشف لهم على الخصوص أخفى نواحي النقص ، وأدق نقاط الضعف .
هكذا كان صلوات الله عليه في نبوته وقبلها .
هكذا كان في محيطه الضيق ، وفي محيطه الواسع .
ولهذا ولكونه الرجل الكامل والإنسان الكامل ، بعثه الله بالنبوة ، وحمله ثقل أقدس رسالة بعثت للناس .
وهكذا بعث محمد الرجل الأول والإنسان الأول ليكون النبي الأول . وكانت خديجة من ورائه تساند وتعاضد . فما أكثر ما امتحنت وإياه ، وما أكثر ما شدد عليهما الكفار وتهددت حياتهما بالخطر ، وما أكثر ما رجع إليها الرسول وهو مصاب بجروح ورضوض من قبل الأعداء ولم تكن لتزيدها هذه الأحوال إلا صموداً ولم تكن لتهبها إلا قوة وعزيمة وثبات إرادة .
فقد نفذ نور الإسلام إلى الأعماق من روحها وفكرها فاستنارت بنوره واهتدت بهداه ومن خصائص الإسلام
( 268 ) ومميزاته بوصفه عقيدة ثورية تتسق مع الفطرة والعقل وتغمر الوجود الإنساني كله أنه إذا استقر في قلب ، وأي قلب كان ، فتح أمامه أبواباً للتضحية والفداء . فما أكثر النساء المسلمات اللاتي قدمن الضحايا من الآباء والأبناء وهن أكثر ما يكن ثباتاً وقوة . بل وكن يستهن بالموت من أجل القضية الإسلامية أمثال أم عمار بن ياسر التي صمدت على كلمة الإسلام أمام كل الوسائل الوحشية التي اتخذت لتعذيبها والتنكيل بإبنها وزوجها ، وكان رسول الله يمر عليهم وهم يعذبون فتطفر الدموع من عينيه ويبشرهم بالجنة نزلاً . وكثير غيرها من النساء المسلمات اللاتي اعتنقن الإسلام في أحرج أدواره وأشدها ولكن المجال لا يتسع لنا لذكرهن جميعاً ولعلنا سوف نلتفت إلى هذه الناحية من حياة المرأة المسلمة في رسالة خاصة تبين مواكبة المرأة للإسلام وأثرها في الدعوة الإسلامية .
فقد كانت المرأة المسلمة تذهب إلى ساحات الجهاد لتشجع إخوتها وأولادها على خوض غمار الحرب وهي معهم تطبب وتداوي وتسقي العطشى وتعين المصاب . ولا يزيدها فقد الأولاد والأخوة والأعمام إلا حرصاً على الإسلام وتفانياً فيه .
( 269 )
وقد كانت المرأة المسلمة تسمع بأذنيها نعي أعزائها وأحبائها وهي لهفانة في الوقت نفسه للإطمئنان على سلامة رسول الله . وعلى هذا فلا عجب إذاً إذا كانت خديجة زوجة الرسول أول مصدقة به وأقوى ساعد لديه . والواقع أنني حينما أراجع سير النساء المسلمات في صدر الإسلام وأقرأ تضحياتهن ومواقفهن أكاد أسأل جادةً هل نحن مسلمات حقاً .
هذا الإسلام هو الذي نوّر قلب خديجة بعد إذ انبثقت أنواره من غار حراء ومن بيتها هي بالذات . ولهذا فقد كانت خديجة ( رض ) جديرة بهذا الاندفاع الإسلامي وهي التي اصطفت محمداً لنفسها منذ زمن بعيد ، وبعد أن عرفت أنه صاحب رسالة مقدسة ، ولذلك فهي لم تفاجأ ولم تستغرب عند سماعها بخبر الوحي الذي نزل على زوجها في غار حراء . وقد قنعت من زوجها بكلمات قلائل سرعان ما صدقته بعدها وآزرته وهي أقوى ما تكون فكرة راسخة مركزة ، وإحساساً فياضاً صادقاً .
واستمرت خديجة أم المؤمنين تحيا بحياة الرسالة المحمدية وتستهين في سبيلها بكل المصاعب والمحن ، وقد بذلت في هذا الطريق كل ما تملك من مال حتى
( 270 ) أصبحت وهي الغنية الواسعة الثراء فقيرة لا تملك شيئاً ، وقد استنفدت بدعوتها رصيدها الضخم من المال ولم يبق منه حتى النزر القليل . فهي تطوي جوعاً إذا طوى النبي وتشبع إذ يشبع بالذي يشبع فيه ، وهذا يبين مدى التفاوت بينها وبين باقي أمهات المؤمنين . الفارق الذي جعل رسول الله يحن إليها إلى آخر يوم من حياته الشريفة .
فهي قد بذلت للإسلام كل ما تملك يوم كان الإسلام وحيداً . وصلت مع رسول الله يوم لا مصلية غيرها . بينما احتجت أمهات المؤمين الأخريات على النبي ، بعد أن عمت كلمة الإسلام جميع البقاع وطالبن بزيادة النفقة وتوسيع المعيشة عليهن ؛ ولم تثنهن نصائح النبي عن ذلك حتى أنه جاء في الروايات أن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه نساؤه فوجده حزيناً وعرف السبب في ذلك فقام على ابنته يريد أن يجأ عنقها لأنها آلمت الرسول واعترضت طريق دعوته بمطاليبها المادية حتى نزلت الآية الكريمة (1) التي خيرت نساء النبي بين متاع الحياة الدنيا وبين رسول الله ( ص ) فاخترن صحبة الرسول الأعظم بعد أن قطعت أمامهن السبل . وقد كانت خديجة صلوات الله ____________ (1) سورة الاحزاب آية 28 ـ 29 .
( 271 ) عليها لا تألو جهداً في بذل يد العون للدعوة الإسلامية بكل ما يسعها ذلك . وقد حدث مثلاً أن فرضت قريش على بني هاشم حصاراً في منطقة تسمى بمنطقة الشعب أو شعب « أبو طالب » وقد منعوا عنهم في هذا الحصار الماء والزاد ، وكان الموت جوعاً يهدد جميع بني هاشم لولا أموال خديجة فإنها كانت تبعث من يشتري لهم الطعام سراً وفي أغلى ثمن ، تستنصر وتستعين بأولاد إخوتها وأخواتها على ذلك ، وبذلك أمنت الغذاء لبني هاشم المحاصرين في الشعب .
فلهذا ولغيره من المواقف الفذة في تاريخ الإسلام احتلت رضوان الله عليها الصدارة في قلب النبي وفي حياته الشريفة .
وقد توفيت رضوان الله عليها في السنة الثالثة عشر للبعثة وقد حزن عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حزناً عظيماً وكانت وفاتها في عام وفاة عمه « أبو طالب » ، ولذلك فقد سمي ذلك العام بعام الحزن لحزنه على فقدها وفقد عمه « أبو طالب » . نعم توفيت خديجة المرأة الرابعة التي دخلت حياة النبي في أحرج أدوارها لم تخرج من حياته أبداً فقد خلفت له أغلى وأثمن ذكرى مقدسة ، وهي الصديقة
( 272 ) الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وقد جاء في بعض الروايات أنها خلفت للنبي أربع بنات هن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ( وسوف نناقش هذا الموضوع في محله إن شاء الله ) . وقد أصبحت الزهراء قطب الرحى في حياة أبيها العظيم حتى أنه كان يسميها بأم أبيها . وقد قامت منه مقام البنت والأم فهي تجهد أن تعوضه بحنانها عما افتقده بافتقاد أمها خديجة ، وهي تسعى أن تكون لرسالته كما كانت أمها من قبل . لم تمنعها حداثة السن عن التعرف إلى جميع مشاكل أبيها وآلامه مهما كانت المشاكل مهمة ومهما كانت الآلام هائلة . لم تضعف ولم تهن ولم تتردد أو تتراجع . وقد جاء في رواية عن ابن مسعود قال : بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل أيكم يقوم إلى سلى (1) جزور بني فلان فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم فأخذه . فلما سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضعه بين كتفيه ____________ (1) السلى : جمعها أسلاء ، جلدة يكون ضمنها الولد في بطن أمه إذا انقطع في البطن هلكت الأم والولد . يقال : « انقطع السّلى في البطن » أي ذهبت الحيلة وعظم الويل .
|