ضحية المجتمع
أختاه ..
دعيني احدثك اليوم عن واحدة من أخواتنا المسلمات ، وهي صديقة حميمة لي كانت تجمعني وإياها صلة وثيقة تتعدى القرابة والصداقة ! ولهذا فقد عرفتها عن قرب وعن قرب جداً فرأيتها مثال الفتاة الطيبة الطاهرة فضميرها ناق كالبلور ، وفؤادها خال من كل عوامل الحقد والخداع ، وفكرها صاف كصفاء صفحة السماء ، وروحها عذبة رقراقة كالزهرة المتفتحة في الأكمام ! لم تكن تظن بأحد السوء ولم تكن تضمر سوء تجاه احد . وأكاد اتمكن ان اقول أنها لم تكن تعرف الحقد والبغضاء بمعناها الصحيح ! كانت تخدعها البسمة وتسحرها الكلمة العذبة . وتتملكها عبارة واحدة محببة كانت تثق بكل رفيقاتها ثقتها من نفسها تماماً ! هي وفية مخلصة تبذل يد المعونة لكل محتاجة من اخواتها المسلمات . كانت تنتهز الفرصة للمشاركة بأعمال الخير في نطاقها الخاص وعلى القدر الذي تستطيعه . كانت متواضعة في سلوكها
( 143 ) وتصرفاتها وان تكن في الواقع جديرة بكل تكبر واستعلاء إذا كان التكبر والاستعلاء دليلا على سمو المكانة . أو أصالة المنبت . فإن لها من أصالة المنبت ما تتمكن أن تباهي به النجم في السماء ! كانت تعطي من نفسها اكثر مما تأخذ بكثير ، فهي وبدافع من غريزتها الطاهرة كانت تشعر أن الحب شيء مقدس لا يساوم عليه ولا يقابل بمثيل . كانت تحسن حباً بالاحسان واشباعاً لرغبتها في مساعدة الغير وثقة منها أنها بهذا ستكون الرابحة في الدارين ... وعلى كل حال فقد كانت فتاة مثالية قل ان رأيت لها مثيلاً في بنات حواء ! . ثم حدث أن ابتعدت عنها مدة من الزمان لم أتمكن ابانها من مطالعتها ومراجعتها . ثم عدت ولقيتها مرة ثانية وكانت قد بلغت في شبابها قمة القدوة وريعانها شباب ناضج وعقل مكتمل ورأي مستقيم نعم رأيتها غير التي عرفت من قبل ! وقد طالعني منها أول ما طالعني منظارها القاتم الذي أصبحت لا ترى الدنيا إلا من ورائه . ثم عرفت منها أنها وفي هذه المرحلة الدقيقة الحساسة من العمر قد اكتشفت في مجتمعها نواح كانت تجهلها منه . وأطلعت على مفاهيم خاطئة لم تكن تخطر لها على بال . وقد تعرفت إلى كل هذا عن طريق غير مباشر فهي ما سمحت لنفسها يوماً ان تنزل عن أفقها العالي ولكن وعلى أي حال عرفت كيف يقابل الوفاء بالخيانة والحب بالحقد والنصح بالخديعة واكتشفت كيف أن المفاهيم الخيرة تنعكس في نظر المجتمع إلى مفاهيم عدائية ! وكيف
( 144 ) تنعكس المثل وتقابل بالنقيض ! فهي لم تستشعر في يوم من الأيام أن هناك فيمن حولها من يفرق بين المحسن والمسيء في كل ظرف وحين خلافاً لما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام ( لا تجعل المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فان في ذلك تزهدا لأهل الاحسان بالاحسان وتحريضاً لأهل الاساءة على الأساءة ) وهكذا ولهذه النواحي وأشباهها اخذت تتبرم بالحياة وتسعى إلى العزلة والانفراد وترأب بعواطفها وألطافها على أن تضع الأشياء في غير موضعها اللائق بها . وقد تبدل لهذا سلوكها وتغيرت طباعها وفقدت تلك الراحة النفسية التي كانت تتمتع بها من قبل ! وعلى هذا الوضع رأيتها كما قدمت فما رأيك بالله عليك يا أختاه ؟ أليست هذه المسكينة ضحية من ضحايانا نحن بنات حواء ؟ نحن اللواتي لا نفتأ نشيع في المجتمع روح النفرة والبغضاء . والحسد والصدأ لا يطيب لنا السمر إلا بأكل لحوم أخواتنا بالغيبة . ولا نسمع كلمة عن أحداهن إلا وحسبنا لها سبعين حساباً كل واحد أسوأ من الثاني ! فإلى متى وحتى متى نبقى سائرات في هذا الطريق الشائك المعوج ؟ أما آن لنا أن نستفيق من سباتنا فنعقم نفوسنا ونطهر سريرتنا ؟ أما آن لنا ان نثبت بأن المرأة المسلمة يمكن ان تكون قدوة لغيرها من النساء وانها متبوعة لا تابعة . أما آن لنا ان نميز الخبيث من الطيب والعمل الصالح من العمل الفاسد حتى لا نخسر أرواح فتياتنا الطاهرة ونحافظ على سريرتهن النقية . وأخيراً فلا يخفى أني أنا أيضاً واحدة
( 145 ) من بنات حواء مثلي كمثلهن وعلى هذا فلا مؤاخذة من اخواتي ولا عتاب . ثم سألت صاحبتي هذه قائلة : هل ندمت يا عزيزتي على ما قدمت يداك من احسان وما وهبه قلبك من حب ؟ وهنا شعرت أن صراعاً عنيفاً قام بين عقلها وعاطفتها وكنت آمل ان يتغلب العقل فترد عليّ ( لا ) . ولكنها وكأني بها لم تتمكن من مقاومة أي من الدافعين فسكتت ولم ترد عليّ فأجبت أنا بدلاً عنها فقلت : قولي لا يا عزيزتي فان عمل الخير في نفسه شيء جميل ، وصفاء النفس بذاته شعور مريح ، فلا تأسفي على شيء منهما ويكفيك سعادة أنك تطالعين صفحات ماضيك فترينها بيضاء ناصعة خالصة من كل شوب فقولي : أني لست نادمة يحفظ الله لك أجر ما فعلت فتربحي بذلك الربح الكثير ، لا تندمي يا صاحبتي ولا تيأسي فما زالت الدنيا في خير ، ولا يزال هناك من يحفظ الجميل ويقدر الفضل ، ولهذا فأني أرجوك بل ألح عليك أن لا تدفعك الخيبة من المجتمع إلى الحقد عليه. يجرنك الفشل في عمل الخير إلى الزهد فيه ، بل اسمتري على السير في طريقك الواضح ، وحاولي ان ترفعي عن عنينك هذه الغشاوة القاتمة لتعودي كعهدي بك فتاة طيبة رقيقة مرهفة ، حلقي في سماء الكمال ولا تهبطي إلى حضيض النقص ، فان اهم ما ينقص من المرأة ويحط من مكانتها هو الحقد والظن السوء ، فلا تحقدي وتظني بأحد السوء احملي اختك على سبعين محمل خير ، وسوف ترين راحتك النفسية ، وقد عادت إليك كأروع
( 146 ) ما تكون !! وهكذا رأيت أن أحدثها أشباه هذه الأحاديث ولم أفارقها إلا وأنا على ثقة أنها سوف تكون في مستقبلها كماضيها ، ولكن ما يدريني ولعل لبنات حواء الاخريات تأثيراً معاكساً يعود بها القهقرى مرة أخرى عصمها الله وحرسها منهن . ولا بد ان أراجعها مرة ثالثة إن آجلاً او عاجلاً إن شاء الله .
|