وكأن هذه الكلمات قد حققت لي بعض الراحة لأنني توهمت أنها سوف تكون شفيعتي لديها ، وانها كفيلة بمسح الشوائب التي خالطت فكرها عني ، ولهذا فقد تمكنت من نوم متقطع وبكرت في الذهاب الى الجامعة على أمل أن أوصل رسالتي اليها بأسرع وقت ، وفعلا فقد وجدتها تسير وسط مجموعة من الطالبات فأعطيت الرسالة لأحد المساعدين وطلبت منه أن يوصلها لها ولم تمض دقائق حتى عاد المساعد وهو يحمل بيده الرسالة قائلاً :
لقد رفضت ان تستلمها ، فعرفت انها خمنت ان تكون الرسالة مني ، والعجيب انني لم احس تجاهها بأي غيظ فقد كنت أعتقد بأنها معذورة وان لديها ما يدفعها الى هذا الموقف ، وهذا ما كان يحيرني بالأمر ، ولم أعد ظهر ذلك اليوم الى البيت ، فقد كان لدي ما يدعوني الى البقاء في الكلية ولهذا فقد توجهت من هناك رأسا الى بيت الاستاذ ، وعندما وصلت الى هناك وجدت سندس تقف أمام الباب تنتظر الأذن بالدخول ، ففهمت من ذلك بأنها قد أخذت موعداً من الاستاذ كما اخذت انا موعداً منه ، فتقدمت نحوها محييا فردت بشيء من البرود واللامبالاة ولا حظت ان الهزال والاصفرار قد بدا واضحاً عليها وان هالة زرقاء تحيط بعينيها
( 69 ) وتحكي عن ساعات طويلة من السهر فمددت نحوها يدي وانا اقول :
هل انت سندس حقا ام انني في حلم ؟ فأ طرقت ولم تجب ، فاردفت قائلاً :
لطيف ان يشدنا حبل واحد نحو هذا البيت ، وفي هذا دليل جديد على اتحاد وجودينا ، فرفعت رأسها ونظرت اليّ نفس نظرتها الحزينة العميقة ثم قالت :
صحيح ان طبيعة الحبل الذي يشدنا الى هذا البيت واحد ولكن لم يعد في هذا دليل على اتحاد وجودينا يا فؤاد ...
فطار لبي لهذه الكلمات الرصينة الحزينة وقلت في صوت جريج :
أرجوك ان ترحميني يا سندس فأنا لا أعرف الحياة بدونك ولا أعترف بوجودي منفصلاً عن وجودك ، أنت لي الحياة برمتها ، لماذا تقولين هذا وأنت نفسك لا تعترفين به ؟ فهزت رأسها بأسف وقالت :
سواء اعترفت ام لم اعترف فانه هو الواقع الذي يجب أن يعاش ، فقلت في توسل :
لماذا ؟ لماذا يا سندس ؟ بماذا أسأت اليك يا ترى ؟ صارحيني بكل ما لديك يا حبيبتي فأنا لا أكاد أفهم شيئاً يا
( 70 ) سندس ، وهنا عادت تنظر اليّ بعمق وحزن أيضاً ثم قالت :
انت لا تريد أن تفهم شيئاً يا فؤاد ، قلت :
كلا بل انني اريد وأقسم لك بأنني على استعداد لأن اسمع منك كل شيء ، فهزت رأسها في انكار ثم قالت :
ليس هذا وقت الحديث فإن لدي موعد مع الاستاذ في الساعة الرابعة ، قلت وأنا ايضاً لدي نفس الموعد ، قالت :
طيب اذن دعنا نتناسى مشاكلنا الشخصية لنتمكن من الاستفادة ، قالت هذا وطرقت الباب ، وسرعان ما فتح لنا فدخلنا الى الاستاذ .
( 71 )
وبعد أن استقر بنا الجلوس قال :
أرجو ان تكونا قد استمتعتحا بقراءة الكتاب ؟ فشعرت بشيء من الخجل لأنني لم أكمل مطالعة الكتاب ، ومما أخجلني اكثر هو ان سندس أجابت ( ولأول مرة تجيبه بشكل مباشر ) ولكن بشيء من الاستحياء قائلة :
أما أنا فقد استمتعت به واستفدت منه كما انني سجلت بعض ملاحظاتي او استيضاحاتي عنه وعن الكتاب الأول وقد اتيت بالدفتر معي لتطلع عليه اذا سمحت ، قالت هذا وقدمت دفترا صغيراً على شكل دفتر المذكرات ، فظهر الارتياح على الاستاذ وأستلم الدفتر قائلاً :
ان هذه بادرة تبشر بالخير وسوف اطالع الدفتر بكل دقة وعناية ان شاء الله ، ثم التفت اليّ ينتظر جوابي عما سأل وكأنه قرأ الجواب مرسوما على صفحة وجهي فلم يشأ أن يجرجني ولهذا انصرف عني بسرعة وقال :
( 72 )
والأن فلنعد الى الحديث لقد سبق منا القول بأن الدين المطلوب هو الدين الذي يشتمل على خصائص انسجامه مع الفطرة ، وذكرنا لذلك أمثلة استخلصناها من العقيدة الإسلامية كالإيمان بالغيب ، والنظرة الوحدوية للكون ، ولقد قلنا أيضاً ان من شروط الدين المطلوب هو ملائمته للعقل لأن الدين هو اختياري لا سبيل للجبرية في ( لا اكراه في الدين ) لأنه عقيدة يجب ان ترتكز في الصميم الصميم من العقل والقلب ، وما لم يكن الدين عقيدة راسخة في الفكر والقلب فهو لا يعدو ان يكون طقوسا وعادات وأسلوب من أساليب الحياة ، اذن فهو اختياري للإنسان ولا يمكن أن يؤخذ عن طريق الجبر ، فإن الاجبار قد ينجح في سبيل التطبيق أما في سبيل اليقين والاعتقاد فلا فائدة للاجبار بل ان المطلوب هو الاقتناع واليقين ، وعن طريق الاقتناع واليقين ، يحصل الاختيار للدين الاصلح ثم وان حسن الاحتيار ومعرفة الاصلح ، وسبر أغوار كل حقيقة تعتمد على مدى تكامل الرشد وتصاعد الوعي لدى الإنسان ، وتصاعد الوعي ، وتكامل الرشد امران اختياريان للفرد ، إذن فإن الدين أمر اختياري يعتمد على العقل وينطلق منه ، والإسلام هو دين العقل ولا يوجد في احكامه وقوانينه ما يخالف قاعدة من قواعد العقل او يتنافر مع حقيقة من حقائق التصور الصحيح ، ولهذا فنحن نجده يتحدث الى
( 73 ) العقل ويدعو الى التدبر والتفكير ونبذ التقليد في العقيدة والتفكير كما جاء في الآيات المباركة التي تقول :
( قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغنى الأيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ).
( او لم ينظروا في ملكوت السماوات والارض وما خلق الله من شيء ).
( أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ) وغيرها كثير من الآيات .
هذا هو الاسلام في آياته المباركة يدفع الانسان الى التفكر والتعقل ثم يعطي للعقل حريته في الاختيار بعد ايضاح الحجة له وتقديم الدليل ...
وبما أن طريق الاقتناع يحتاج الى وضوح في البيان ، ورسوخ وجلاء في البرهان ، وحكمة متكاملة الجوانب في الاستدلال فقد جمع الإسلام كل هذه في رسالته التي قدمها للبشرية وهي القرآن ، ولهذا فنحن نتمكن ان نقول ان هذا هو مما اختصت به رسالة الإسلام دون سواها من الرسالات ، فإن كل دين في حاجة الى بيان لطبيعة الرسالة وإلى معجزة تؤكد او تدعم وجود الرسالة ، أما الإسلام فإن بنيان رسالته هو أولى معاجزه وأهمها فقد عجز عن مجاراته أكابر علماء اللغة وافذاذ اصحاب البيان بعد أن تحداهم القرآن وطلب منهم :
( 74 )
أولا : أن يأتوا بكتاب مثله ( قل لئن اجتمعت الجن والانس على أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) .
ثانياً : ولما عجزوا عن ذلك تحداهم بما هو اقل ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين ) .
ثالثاً : ثم وبعد أن عجزوا عن ذلك فبسورة مثل سورة ( وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتو بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله ان كنتم صادقين ) فلم يتمكنوا من مواجهة أي من هذه التحديات مع أنهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، وكذلك أن كل دين في حاجة ايضا الى رسالة ، والى برهان يستدل به على الرسالة ، والإسلام جمع هذين الامرين في رسالته التي هي ( القران ) فإن البراهين العلمية سواء منها الاجتماعية ، او الإقتصادية ، او الفلكية ، او ما يتعلق بجسم الإنسان كلها مجموعة ضمن هذه الرسالة فكم من الحقائق العلمية كشف العلم بعضها ولم يكشف البعض الآخر بعد قد ذكرها القرآن الكريم منذ اكثر من الف وثلاثمائة سنة على لسان رسول امي لا يعرف الكتابة والقراءة .
وكم من الافكار الاجتماعية التي دعا اليها الإسلام قبل اكثر من الف وثلاثمائة سنة قد توصل العلم اخيرا الى
( 75 ) ضرورة تطبيقها مثل اعلان حقوق الانسان ، ومحاربة الرق ، ووضع الحلول الإقتصادية التي تحول دون الاحتكار والاستغلال وغير ذلك مما تتمكنان من مراجعته مفصلاً في كتاب ـ الإنسان في القرآن ـ للعقاد و ـ التعصب والتسامح ـ للغزالي اذن ، فإن رسالة الإسلام قائمة بذاتها وهي تدل بنفسها على نفسها ويكون استقلالها هذا مستندا الى اسس قوية يرضاها العقل وتنسجم مع واقع طبيعة الإنسان لأنه ومن خلال نظمه يحفظ للإنسان كرامته وحريته في حسن الاختيار ، فلا يكبل افكاره بخيوط من الجهل ولا يخدر احاسيسه بحبوب من الشعور بالخطيئة والذنب والصغار ، ولا يملي عليه اطروحته مرتكزة على الجانب العبادي فقط متجاهلا حياته ومتطلباتها فيما عدا ذلك ، فهو يشمل بالتشريع مختلف النواحي ولا يهمل جانباً دون ان يضع له القواعد الصالحة لكل زمان ولكل فرد من الأفراد ويمكننا ان نقدم على ذلك دليلا صغيراً مستمداً من أسماء السور القرآنية ، فإن سور القرآن التي يبلغ عددها ( 114 ) سورة وقد تعددت اسماء بعض السور فكان لها اكثر من اسم واحد ونحن لو راجعنا هذه الاسماء التي لم توضع بدون هدف وغاية وقد وضعها رسول الإسلام بأمر من الله تبارك وتعالى ، لو راجعناها لوجدنا ان قسما من اسماء السور تشير الى الكائنات الطبيعية مثل البقرة ، الرعد ، النحل ، النمل ، العنكبوت ، الذر ، الشمس ، النجم ، القمر ، الدخان ، الحديد ، وغيرها مما
( 76 ) تندرج ضمن الموجودات الطبيعية ، ثم ان قسما من اسماء السور ايضاً تشير معانيها الى المواقف الإجتماعية والسياسية مثل الأحزاب ، والمؤمنون والشورى ، والنساء ، والصف وهذه الأسماء تدور حول اوضاع واشكال المجتمع ، والقسم الثالث من الأسماء هو ما يحمل معه اثارا تاريخية مثل آل عمران ، الانبياء ، يونس ، هود ، يوسف ، ابراهيم ، سبأ ، محمد ، الروم ، مريم ، نوح ، وهذه الأسماء كلها تدور حول التاريخ وابطاله واحداثه ، والقسم الرابع تشير الى المصير وما وراء العالم مثل القارعة ، والحاقة ، والواقعة اما القسم الخامس فهو ما يشير الى المسائل الإقتصادية مثل الانفال والانعام ، والمائدة ، اما السادس مثل عبس ، والهمزة ، والمطففين فهي تدور حول الأخلاق وقواعد السلوك ، والقسم السابع من الاقسام هو ما يدور حول العبادات كالحج ، والسجدة ، اذن ، فنحن نتمكن ان نتوصل الى هذه النتيجة وهي ان اسم ( 32 ) سورة وضع للكائنات والموجودات الطبيعية ، وان اسم ( 29 ) سورة وضع للعقيدة والمبدا الفكري واسم ( 27 ) سورة وضع للمجتمع بما فيه من اصناف اجتماعية وسياسية واسم ( 17 ) سورة وضعت للتاريخ وفلسفته واسم اربع سور وضع للاخلاق والسلوك ، واربعة ايضا للقضايا المادية والإقتصادية ثم سورتان فقط خصص اسمها للعبادات والشعائر الدينية ، وهذا مما يوضح لنا فكرة الشمول في رسالة الإسلام فهي حينما تريد أن تربط
( 77 ) الإنسان بالله لا تربطه عن طريق العبادة المحددة فقط ولكنها تربطه مع الله عن طريق مختلف أدوار حياته ووجوده حتى تستحيل العبادة من الجهاد في سبيل الله الى الإبتسامة في وجه الأخ المؤمن ، ونتمكن من هذا ايضاً ان نعرف ان هذا ايضاً هو مما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع حيث انها تجعل من جميع متطلبات الحياة الروحية منها والجسدية ، إذا أديت بالشكل الصحيح ، عبادة ، خلافاً للشرائع التي تجعل العبادة وقفاً على الجسد فقط ولهذا فهي لا تعدو ان تكون طقوس وعادات تنتهي بمجرد انتهاء ادوارها ولا تخلف أي أثر في حياة الفرد والمجتمع ولا تعنى بتربية الروح من قريب او بعيد وخلافاً ايضا للشرائع التي تجعلها من خصائص الروح وعلى حساب الجسد حيث يفرض على الجسد احكاماً صارمة قاسية من التعذيب والحرمان وفي احاديث قادمة نوضح ذلك اكثر ان شاء الله . وسكت الاستاذ فسكتنا لسكوته لحظات ثم طلبت منه موعدا جديدا فقال انه بعد يومين في تمام الساعة الرابعة من بعد الظهر ، فنهضت ونهضت سندس معي وودعنا الاستاذ وخرجنا شاكرين معجبين .
|