متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الحلقة السادسة
الكتاب : الباحثة عن الحقيقة    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات
، قلت :
ولكنني لم أكن اتصور هذا يا استاذ فقد كنت أحسب ان العالم الديني هو اخف الناس مؤنة وأنعمهم عيشاً وأقلهم مسؤولية ، فابتسم الاستاذ ابتسامة جريحة وقال :


( 43 )

وهذا مما يؤسف له يا ولدي لأن هذا التصور كفيل بايجاد هوة بين العالم الديني والشاب المثقف ، بينما نجد أن كلا منهما محتاج للثاني في سبيل اكمال رسالته في الحياة ، ولعل المستقبل يكشف لك ما تجهله من هذا الباب ؟ قلت :
نعم أرجو ذلك من صميم قلبي ، قال الاستاذ :
ومن أجل أن لا نخسر الاستفادة من هذه الأيام اليكما هذا الكتاب لتقرآ فيه . ثم قدم لنا كتاب ـ الدين ـ لمحمد عبد الله دراز وكتاب ـ نشأة الدين ـ لعلي النشار .


( 44 )


( 45 )

مرت الأيام بطيئة وثقيلة ونحن بين اللهفة لأن نسمع عن الأستاذ من جديد ، وبين الخوف أن يسبقنا الوقت قبل تكامل خطتنا بالشكل المطلوب وحاولنا خلال تلك الأيام ان نقرأ الكتاب الذي أعطاه الاستاذ لنا وفي اليوم الذي يسبق موعدنا مع الاستاذ استلمت رسالة تهديد جديدة من باسم وكانت عبارتها أقسى من الرسالة الأولى ، ولا انكر بأنها ارقتني في ليلتي تلك وخشيت أن تكون لها عواقب وخيمة حقيقية ، وفي الصباح وعندما لقيت سندس في الجامعة جبنت عن اخبارها بأمر الرسالة خشية ان يقلقها ذلك كما أقلقتني سيما وقد وجدتها متلهفة الى موعدنا عصر ذلك اليوم ، وقد عادت الى وضعها الطبيعي من الناحية النفسية فخمنت أن كآبتها السابقة كانت وليدة حالة طارئة وليس لها أي ارتباط مع تهديد باسم ، إذن فلماذا أثير أمامها ما يكدرها ولماذا ألون أفكارها بهذه الظلال القاتمة ، وحان العصر فذهبنا الى بيت الأستاذ ، ولكن فوجئنا اذا وجدناه منحرف الصحة طريح


( 46 )

الفراش ، فجلسنا دقائق ثم رأينا أن علينا أن ننصرف لكي لا نثقل عليه ولكنه أبي علينا ذلك وقال : انه على استعداد للحديث ، فقلت له باننا لا نرضى أن تكون فائدتنا على حساب صحته ، فابتسم قائلاً :
ان صحتي هي من أجل فائدتكم يا ولدي ، قال هذا ثم اعتدل في جلسته وبدأ بالحديث قائلاً :
لقد انتهى بنا الحديث في جلستنا السابقة الى ذكر ترابط الموجودات ووحدتها وشعور الإنسان تجاه احساسه بهذا الترابط وبهذه الوحدة ، فاعلما يا ولدي أن الإنسان عندما يحس انه جزء لا يتجزأ من هذا الوجود الرحب ، نعم جزء قد شد الى الأجزاء الباقية كما شدت الاجزاء الباقية اليه ، هذا الشعور ، شعوره بالانسجام الكامل مع ما حوله يجعله يستشعر السعادة نتيجة احساسه بأنه مسنود من قوة هائلة هيأت له كل هذه الاسباب وشدته الى جميع هذه الموجودات كما شدت جميع هذه الموجودات اليه ، ولهذا فهو لن يشعر بالغربة ولن يحس الضيعة والوحدة ما دام قد عرف حقيقة وأسباب الاتحاد في المخلوقات التي حوله ، وعلى العكس منه ذلك الذي لا يعلم لماذا جاء ؟ ولماذا هو موجود ؟ وما هي أبعاد علاقته مع هذا الوجود الواسع الذي لا يكاد يساوي هو ذرة من ذراته ، انه عندما يعلم مثلا ان هذه الشمس الهائلة


( 47 )

بكل ما فيها من عظمة وشموخ انما هي مسخرة للحفاظ على مصلحته ، وهو عندما يعرف أن هذا الثبات الدائم في مستوى حرارتها البالغ ( اثني عشر الف درجة فهرنهايت ) انما كان من أجل الحفاظ على الحياة التي يحياها هو وسط هذا الكوكب الحي ، وهو عندما يجد ان هذا البعد الذي يفصل أرضه عن الشمس والذي يقدر بما يقرب من ( 000 ، 000 ، 39 ) ميلا ، لم ولن يدخل عليه أي زيادة أو نقصان حرصاً على سلامة حياة كرته الأرضية التي يعيش عليها لأنه لو نقص هذا البعد بمقدار النصف لاحترق جميع ما على هذه الأرض من شجر أو مدر ، ولو تصاعد هذا الفاصل الذي بين الشمس والأرض فصار ضعف ما عليه الان لكانت البرودة التي تنتج عن ذلك كفيلة بالقضاء على الحياة في الأرض ، أنه حينما يعرف هذا يشعر بالسعادة لتحسس أهمية وجوده في الحياة ، وكذلك حينما يجد أن هذه الأرض التي تدور حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة ، ان دورتها العظيمة هذه انما صممت خصيصاً بشكل يمكنه من الحياة ، لأنه لو فرض أن هذه السرعة كانت قد انخفضت الى مائتي ميل في الساعة لكان معنى ذلك هو أن يطول الليل ويطول النهار عشر مرات بالنسبة لما هو عليه الآن ، فما الذي كان ينتج عن ذلك ؟


( 48 )

الناتج هو ان تحرق حرارة الشمس كل شيء فوق سطح الأرض ، حتى ولو تبقى شيء لم يحترق فإن برودة الليل الطويلة كفيلة بالقضاء عليه اذن فإن توقيت حركة الأرض وتحديد زمان دورتها ما نظم بهذا الشكل الا من اجل الإنسان ، فما هو شعور الإنسان تجاه معرفته لجميع مقدمات الحياة الجبارة التي وضعت من أجله ؟
ثم ، البحار ، هذه البحار التي تملأ ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، لو حدث وكانت أعمق مما هي عليه الان ولو بضعة أقدام فماذا كان سيحدث ؟
لا نجذب ثاني أوكسيد الكاربون والأوكسجين نتيجة امتصاص الماء لهما ، وماذا يعني انجذاب ثاني أوكسيد الكاربون والاوكسجين ؟
أنه يعني الاختناق للأنسان والحيوان ، اذن فان هذه البحار الجبارة حدد عمقها من أجله هو ومن أجل سلامة وجوده في الحياة ، ثم هذه الأرض التي يعيش عليها الانسان ولا يكاد يحس بها سوى أنها أرض حجرية أو ترابية صلبة ولكنه عندما يدرس أبعادها ويتابع خطوطها الجغرافية يأخذه العجب لسعتها وقوة تحملها لما يرسو عليها من جبال شامخات وهضاب راكنات ولصمودها أمام جميع ما أمتلأت به رقعتها من ماء البحار والانهار ، ثم ماذا ؟ لا شيء سوى ان ينصرف عن هذا التفكير الى سواه وقد امتلأت نفسه بالهيبة والاعظام ، فكيف به اذا علم


( 49 )

ان هذه الارض التي بهرته بعظمتها وصمود قشرتها قد صممت قشرتها خصيصا بشكل يلائم مصلحته هو ، فهو محتاج الى نسبة معينة من الاوكسجين الموجود في الهواء فلو كانت قشرة الأرض أكثر سمكا بمقدار عشرة أقدام مثلا لانعدم الاوكسجين من الهواء إذ ان القشرة الارضية كانت ستمصه كله ، ومثلا آخر ، عندما يرفع الأنسان رأسه إلى أعلى ماذا سوف يرى ؟
لا شيء سوى الغلاف الهوائي الذي يحيط بالارض فتسحره الزرقة الهادئة التي يعكسها هذا الغلاف في النهار وتبهره الروعة المنيرة التي تبرز من خلال الكواكب في الليل فكيف به لو علم أن كثافة هذا الغلاف الهوائي حددت طبقاً لمصلحته هو كأنسان يراد له أن يعيش فلو كان الغلاف الهوائي للأرض ألطف مما هو عليه الآن لا حرقت النيازك كل يوم غلاف الارض الخارجي ، ولسقطت على مختلف بقاع الارض واحرقتها لان هذه النيازك تواصل رحلتها بسرعة اربعين ميلا في الثانية ولهذا ومن نتائج هذه السرعة الهائلة سوف يحترق كل شيء يمكن احتراقة على الارض حتى تصبح الارض هشيما في وقت ليس ببعيد ... والهواء ونسب أجزاء الهواء المحددة التي لا تختلف بأي حال من الأحول لو علم الانسان ان هذه الاجزاء انما وزعت بهذه النسب الثابتة من اجله هو ومن اجل البقاء عليه وكذلك لو نظر الى هذا القمر المنير في عليائه وعرف ان بعده وقربه انما جاء لمصلحة الانسان ، لمصلحته هو فان بعد القمر عن الارض يبلغ حوالي (240 ) ألف ميل وهذا هو الحد المناسب للأبقاء على الحياة الطبيعية فوق الكرة الارضية وذلك لما يعرف من تأثيره على حركة المد في الماء ولكن لو فرضنا أن هذا


( 50 )

البعد كان بمقدار (50) ألف ميل مثلا لتصاعدت نسبة المد ، تصاعدا هائلا بشكل يغمر فيه الماء الدنيا كلها ، والهواء ، وما تحمله النسب التي فيه من أوكسجين ، ونيتروجين ، وثاني أوكسيد الكاربون ، ما تحمله هذه النسب الدقيقة من مصلحة لاستمرار حياة الانسان بشكل لو زادت فيه أو قلت لتعذرت الحياة ، وشيء اخر يقدمه الهواء للانسان ألا وهو هذا النور المنتشر في الكون نور الشمس المشرق الذي يغمرنا منذ الصباح حتى المساء وهذه الزرقة الساحرة التي نلاحظها في أعالىي الجو فلولا الهواء أو لولا جزئيات الهواء لرأينا الشمس كالقرص الأبيض في صحيفة سوداء لا أكثر ولا أقل ، ولكن اشعاع الشمس حينما يصطدم مع جزئيات الهواء تبعثره هذه الجزئيات وتشتته في الكون فينتشر على هذا الشكل الذي نراه . ثم كان من حكمة الخالق ان يكون للشمس موجات مختلفة الالوان وان يكون اللون الازرق منها أقصر موجة من الالوان الاخرى ، اذن فهو أكثر تشتتا بالهواء من الالوان الأخرى ، ومن أجل هذا ظهرت السماء لنا نهارا وفي الصحو زرقاء تبعث في النفس الراحة والاطمئنان ، .. لو علم الانسان هذا وعلم غير هذا مما أعد خصيصا لاستقباله وصيانة وجوده لعرف أنه جزء لا يتجزأ من هذا الكون الرحيب ... عند هذا سكت الاستاذ وكأنه يريد ان يرتاح قليلا بعد أن ظهر عليه التعب ، وعز علينا سكوته لاننا كنا نتابع ما يقول من حقائق طالما عرفناها من قل معرفة باهتة وقد أبرزها لنا داخل اطار جديد جذاب ولم تمض دقائق حتى عاد يتحدث من جديد قائلا :
والآن ، ألا ترون مدى انسجام هذا الواقع من فطرة


( 51 )

الإنسان الاجتماعية التي تأبى له الانعزال ثم ، ان ايجاد هذه الغرائز في نفس الإنسان ، ( غريزة الإيمان بالغيب وغريزة النظرة الوحدوية ) هذه الغرائز لم توجد بدون هدف فهما بوجودهما يشكلان السبب الرئيس الذي يقود الإنسان الى تتبع الحقائق واستقصاء الواقع ، فهذه الغريزة التي تدعو الى الإيمان بالغيب تفرض على الإنسان التطلع الى أسرار الغيب ومعرفة ما وراء الغيب ، وهذه الغريزة التي تفرض على الإنسان الرغبة في الشعور الوحدوي وتدعوه الى نبذ مشاعر العزلة هذه الغريزة تجره لأن يعرف ارتباطه مع الكون بكل أبعاد ذلك الارتباط ، وبما أن جميع ما في الكون قد وضع لأجله أليس من حقه أن يعرف الواضع والسبب في ذلك لكي يذكر فيشكر ؟ ثم أنها تدفعه بالضمن الى تتبع أبعاد هذا الاتحاد والتضامن ، ودراسة النظم التي قامت عليه تلك الأبعاد ، ثم أنه ايضا عندما يتعرف على دقة تلك النظم وانسجامها ، وترابطها يقف ليتساءل :
إذن فما دام ان لكل شيء نظام ، وما دام هذا الوجود الرحب بما فيه من ذرة صغيرة إلى نجمة كبيرة يخضع لنظام دقيق لا يتحول ولا يتبدل وما دام الإنسان هو افضل المخلوقات واجدرها بالوصول الى رحلة الكمال ، فهل من المعقول ان يترك الإنسان هو وحده دون جميع هذه المخلوقات بدون نظام ؟ هل يمكن أن تنظم حياة النملة والنحلة ولا


( 51 )

تنظيم حياة الإنسان ؟ وعندما يصل في افكاره الى هنا يعود ليتساءل قائلاً :
ولكن ما هو النظام الكامل الصالح لهذا الإنسان ؟
والأن هل لي ان اسألكما هل طالعتما الكتاب الذي اعطيتكما اياه ؟ فاجبناه بصوت واحد قائلين نعم لقد استقصيناه كله ، قال :
إذن هاكما هذا الكتاب فهو يعطيكما شرحا واسعا عما ذكرته لكما الأن ، ثم اعطانا كتابا جديداً وسكت لحظات قال بعدها :
لقد اعطيتكما يا ولدي صورة مختصرة عن هذا الجانب ، اما ما سبق ان ذكرته لكما من ضرورة ان يكون الدين الذي يؤخذ به ملائماً للفكر وغير منافر للعقل مهما تقدم به العلم والرقي فإن الإسلام هو الدين الوحيد الذي لا توجد فيه ثغرة واحدة يمكن أن ينفذ منها ما يمكن ادعاء منافرته للعقل ، ويمكننا ان نستدل على ذلك بعدة نقاط ، وكان صوت الاستاذ قد اخذ يتهدج وقد ضايقه نوبة من السعال لاحظت انه يحاول التغلب عليها للاسترسال بالحديث ، فشعرت بعطف بالغ نحوه ونسيت كل ما يدعوني للتعجل في انهاء الموضوع ، فبادرته قائلاً :
ارجوك ان ترتاح يا استاذ ، ان التعب يبدو واضحاً


( 52 )

عليك ، نحن على استعداد لأن ننتظر بضعة أيام حتى تشفى فابتسم بلطف وقال :
ولكنك كنت تتعجل الأمر قبل ايام ؟ قلت :
نعم أنني أرغب في التعجيل ولكن ليس على حساب صحتك يا استاذ ، قال :
ولكن دور الانفلونزا كما تعلم غير محدد الابعاد فكيف يمكنني ان احدد لكما موعداً قادماً يا ترى ؟ قلت :
أنني سوف امر عليك للاطمئنان على صحتك بعد يومين او ثلاثة ، قال :
إذن سوف نحدد الموعد حسب وضعي الصحي بعد ثلاثة أيام ان شاء الله ويمكنكما خلال هذه المدة مطالعة هذا الكتاب ثم قدم لنا كتابا باسم ـ قضية الالوهية ـ لعبد الكريم الخطيب .

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net