، قلت :
نعم فكلنا اذان صاغية ، قال :
لقد سبق ان عرفنا حاجة الإنسان الى الدين ، وعرفنا اوصاف الدين الذي هو صالح للأنسان في كل مجال من مجالات الحياة وكيف انه ينبغي ان يكون منسجما مع الفطرة ، وملائماً للعقل ، ومحتوياً على القيم التي تنشئ الإنسان الصالح وتمكنه من تقديم المثل الاعلى اي وسيلة الإيضاح ، ثم قلنا ايضاً ان الإسلام هو الدين الذي يتكفل بكل هذا وان اطروحته التي املاها الله تبارك وتعالى عن طريق النبوة تحتوي في مضمونها على كل متطلبات النفس الإنسانية مع انسجام كامل لمطاليبها ، فالإيمان بالغيب مثلا ، وهو مما يدعو اليه الدين ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما انزل اليك
( 37 ) وما انزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون ) هذا الإيمان بالغيب نجده منسجما تمام الانسجام مع الفطرة الإنسانية ، فالإنسان وأي انسان على اختلاف ميوله وافكاره ومعتقداته يشعر دائماً وابداً بأن هناك قوة خارج حدود ما يسمع ويرى ، وهو وبدون أن يقصد يركن الى هذا الشعور ويطمئن اليه ويلوذ به عند الشدائد والمحن ، ومثله . ذلك المسافر الذي يركب طائرة تحلق به على ارتفاع عال جداً ثم وفجأة يعلن الطيار عن عطب قد اصاب الطائرة وانه عجز عن اصلاحها ولهذا فهي مهددة بالسقوط بين لحظة ولحظة ، وعلى الركاب ان يستعدوا لشد احزمة النجاة ، محاولة الهبوط من باب الطوارئ ، عند ذلك يتوجه كل الى ما يتمكن عليه من محاولة اساليب النجاة ، اما الراكب الذي يعجز عن ذلك ولا يتمكن من القيام بأية محاولة فماذا عسى ان يصنع وهو يجد الموت منه قاب قوسين أو أدنى ؟ اتراه سوف يستسلم وييأس ! كلا ، انه سوف يبقى يأمل بالنجاة وينتظرها ولكن من أين ؟ وعن أي طريق وجميع الطرق مغلقة امامه ؟ أنه سوف يشعر بالحاجة الى الإيمان بالغيب وبضرورة وجود قوة عليا هي فوق قوى العلم والتكنلوجيا ، ولذا فهو سوف يبقى ينتظر حدوث معجزة عن طريق الغيب حتى اللحظة الأخيرة ، ومثل اخر عن حاجة الإنسان للإيمان بالغيب هو تلك الأم التي تحمل بيدها طفلها المريض بعد ان عجز الطب عن علاجه ولكنها لا تبرح تتابع انفاسه وتنتظر له طريقاً
( 38 ) للشفاء ، نعم طريقاً لا تتمكن أن تعرف مصدره لأن الطرق التي تعرفها قد سدت امامها ولكنها ما زالت تتلفت وتنتظر ان يوجد ما يفتح امامها طريقاً جديداً تحت تأثير قوة تفوق هذه القوى العاجزة ، هذا هو مصداق الحاجة الكاملة للإيمان بالغيب ، وانسجام الإيمان بالغيب مع الفطرة الإنسانية ، ثم ربان السفينة الذي يضل طريقه بين امواج البحر المتلاطم ويفتقد كل مؤشر للطريق ، هذا الربان التائه ما الذي سوف يستشعره في ذلك الموقف العصيب ؟ لا شيء سوى الحاجة الى هداية من جهة عليا هي فوق امكانياته الخاصة وخارج حدود المعالم والمؤشرات ، أو ليس في هذا دليل على حاجة الإنسان للإيمان بالغيب وانسجام هذا الإيمان مع طبيعة فطرته الإنسانية ؟ كما جاء في معجم ( لا روس ) للقرن العشرين = ان الغريزة الدينية مشتركة بين كل الإجناس البشرية حتى اشدها همجية واقربها الى الحياة الحيوانية وان الاهتمام بالمعنى الالهي وبما فوق الطبيعة هو احدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية = ولهذا فنحن نجد ان هذه النزعة ، نزعة الرغبة الى الإيمان بالغيب موجودة حتى عند الأطفال ، فهذا الطفل الذي يبقى يتسائل عن الاسباب وعن اسباب هذه الأسباب ، انه في تساؤله هذا يبحث عن مصدر اعلى يستشعره بفطرته البدائية دون أن يتمكن من التعبير عن ذلك الشعور ، وما ذلك المصدر الأعلى الذي يسعى للتوصل اليه سوى الغيب ، وبهذا نجد ان فكرة الإيمان بالغيب التي
( 39 ) ضرورة من ضرورات الدين تنسجم تمام الانسجام مع فطرة الإنسان وهذا الايمان بالغيب الذي هو غريزة فطرية لدى الإنسان ليس الا صورة عن الإيمان بالله ، وضرورة هذا يقتضي ضرورة ذاك مع اختلاف وضوح الصورة وشحوبها ، ثم ومن امثلة انسجام نظريات هذا الدين مع الفطرة هو وحدة هذا الكون واتحاده وارتباطه ، وهنا نظرت الى ساعتي خشية أن يسبقنا الوقت وحينما وجدت ان لدينا قليلاً منه سألته قائلاً :
ما الذي تعنيه يا استاذ في فكرة الاتحاد والارتباط في الكون ، قال :
أن الحديث عن ذلك قد يطول يا ولدي ويبدو انك تتعجل العودة ولهذا فمن الممكن تأجيله الى جلسة قادمة ، فنظرت الى سندس اسألها رأيها في التأجيل ، فقالت :
نعم ان ذلك هو الأصلح لكي لا نقع بما وقعنا فيه امس سيما بعد ان . وسكتت ، فقلت لها :
بعد ان ماذا ؟ قالت :
لا شيء وليس هذا وقت الحديث ولكن حاول ان تأخذ منه موعداً على ان لا يكون قبل يوم الأربعاء القادم لانني سوف اكون خلال هذه الأيام مشغولة بالامتحان ، قلت لها :
( 40 )
ان اليوم هو الاحد وهذا يعني ان يكون الموعد بعد ثلاثة ايام ، قالت :
نعم وهو كذلك ، فاستدرت نحو الاستاذ وطلبت منه ذلك فقال :
يؤسفني ان لا اتمكن من اعطاء موعد لكما في يوم الأربعاء لأن لدي مواعيد مسبقة وساعات فراغي فيه محجوزة ! ، قلت :
اذن في يوم الخميس ، فابتسم بلطف وقال :
وكذلك الخميس والجمعة يا ولدي فإنه عطلة آخر الأسبوع بالنسبة لنا وعلينا ان نتفرغ فيه لقضاء حوائج المؤمنين ورد اسئلتهم وحل مشاكلهم ولهذا فإن موعدنا سوف يكون عصر يوم السبت الساعة الرابعة من بعد الظهر ، فتصورت كل هذه الأيام وهي تمر دون ان نحصل على النتيجة المطلوبة فشق علي ذلك ولهذا قلت له مستعطفاً :
ولكن الا يمكنك ان تتفرغ لنا ولو ساعة او ساعتين ؟ قال بودي لو كنت اتمكن من ذلك ولكن ما دامت أوقاتي مشغولة بين دروس وعمل خلال هذه الأيام فكيف يسعني أن أحدد لكما موعداً فيها ؟ قلت :
ألا يمكن تأجيل بعض الدروس ؟ فابتسم من جديد وقال :
( 41 )
أراك قد اقتنعت قبل قليل أن وجود الامتحان سببا كافياً للتأجيل لاهميته بالنسبة لها ، فلماذا لا تقتنع ان الدروس التي لدي مهمة عندي بشكل يوجب التفرغ لها ؟
فافحمني جوابه واخجلني في الوقت نفسه فسكت برهة وأنا لا أعرف كيف أجيب ثم قلت متعلثماً :
الحقيقة انني لم اكن اخمن أنك ما زلت مشغول في الدراسة ، قال :
ولكن كلمة الدروس هي أعم من الدراسة والتدريس ثم ان العلم بحر لا يمكن النفاذ الى اعماقه الا بعد جهد متواصل وطويل ، وقد يواكب ذلك الجهد عمر الإنسان كله ، لأنه كلما انفتح له باب من العلم تطلع الى أبواب وأبواب ، قلت :
آه وهل انت أيضاً كذلك ؟ فضحك ضحكة قصيرة ثم قال :
وهل نحن فئة خاصة تختلف عن الآخرين يا ولدي ؟ ان أحدنا كأي باحث من الباحثين يبحث في علوم الدين وما يدور حول تلك العلوم وما يمت اليها بصلة او يؤثر عليها من قريب أو بعيد ، ثم يبقى دائباً في بحثه وتنقيبه يفتش عن الفكرة البناءة والرأي العملاق مهما طال به العمر ، قلت :
( 42 )
اذن فانكم لا تكتفون بدراسة الحلال والحرام فقط ؟ قال :
ان معرفة الحلال والحرام هي الجوهر الرئيسي في دراستنا ولكن هذه المعرفة بمفهومها الصحيح وبأبعادها الحقيقية تتطلب معرفة العديد من العلوم الأخرى قلت :
ارجو ان اعرف ماذا تعني من مفهوم الحلال والحرام الحقيقي وأبعاده الصحيحة ؟ قال :
ان معرفة الحلال والحرام تتطلب أولا معرفة العديد من العلوم التي تؤدي الى صحة تلك المعرفة مثل علم المنطق ، وعلم الاصول ، وعلم الكلام ، وعلم الحديث هذا بالاضافة الى التمكن من معرفة أسباب التحريم والتحليل ومصادرهما وغاياتهما لأن المعرفة المجردة لا تكفي للعطاء الموجه ولهذا فإن على كل من يجعل نفسه في مصاف الهادين أن يعرف مسبقاً أسباب الهداية وحقيقة الهدى والهداة ومن ثم يعرف الله عز وجل الذي هو مصدر الهداية في الوجود ومعرفة كل هذا ليس بالشيء السهل اليسير فهو يتطلب الكثير من الجهد والعناء ويتطلب الطويل من البحث والاستقصاء .
|