متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الحلقة الثامنة
الكتاب : ذكريات على تلال مكة    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات
كان علينا ان نرمي الجمرات لليوم الثالث وبينما كنا نتحدث عن احسن وقت نتمكن فيه من الذهاب اذ بمجموعة من السيدات يدخلن الخيمة عائدات من الجمرات وكل واحدة منهن تنادي بالويل والثبور للازدحام المرير وصعوبة الوصول اليه ، فهذه تقول كدت اختنق ـ وتلك تقول ـ انه موت محقق ـ واخرى تقول ـ انه الهلاك بعينه .. تهويل ومبالغة غير مستحبة أبدا .. وتلفت حولي فوجدت الوجوه وقد علتها مسحة من القلق .. وكأن اخواتي خيل اليهن ان هناك تطورا جديدا قد حدث في نطاق رمي الجمرات .. وان صعوبة المرمى قد تصاعدت الى مستوى الموت والهلاك فاردت ان احسم فترة الانتظار المشوبة بالقلق


( 362 )

ولهذا اقترحت عليهن الذهاب نحو الجمرات .. فجددنا الطهارة لأن من مستحبات الرمي هو أن يكون الرامي حافظا للطهارة ثم توجهنا نحن الخمسة نحو المرمى .. كانت مهمتنا في ذلك اليوم هي أسهل منها في اليومين الماضيين فلم نلحظ من قريب أو بعيد أثر من آثار الهلاك أو الموت أو الاختناق وخرجنا من محوطة الجمرة الكبرى صخبات ضاحكات لأننا بذلك كنا قد أنهينا جميع اعمال الحج .. نعم انهيناها بالاصالة ولم نضطر الى وكالة وانهيناها باطمئنان ولم نتعرض فيها لشك او نسيان .. انتهينا منها واعيات ولم ننصرف عنها جاهلات .. وأخيرا انتهينا منها راغبات في العودة غير برمات لشيء أو ساخطات على أمر من الامور .. ولهذا كنا نضحك .. ولهذا أيضا كنا نحس بالغبطة والسعادة .. فالحمد لله على ما انعم واسدى . وعدنا الى الخيمة وهناك كانت الخيمة اشبه ما تكون بسوق خيري.
اذ ان مشتريات الايام الثلاث كانت قد انتثرت بين جوانبها ومشتريات تلك الساعات الاخيرة كانت مكدسة تنتظر الشد .. وعلى كل حال فما ان انتهينا من الصلاة والغذاء حتى نادى المنادي بنا ان هيا نحو السيارات للعودة الى مكة .. وسارت بنا السيارة ونحن نودع في ابصارنا وافكارنا هذه المعالم الحبيبة .. فكم هو من الصعوبة بمكان ان ينظر الانسان الى ما يحب نظرة وداع قد لا يكون من ورائه لقاء .. هذا الشعور هو اقسى ما يحسه المفارق فيود لو تزود معه


( 363 )

باكثر مقدار ممكن من الذكريات .. وطلبنا من الله تبارك وتعالى ان يرزقنا العودة ثانيا .. ثم وصلنا الى مكة حيث آوينا الى غرفتنا في العمارة التي كنا ننزل فيها قبل الخروج الى عرفات .. وغرفتنا تلك صغيرة .. ونحن كنا بمجموعتنا سبعة ، وقد عرض علينا المتعهد منذ البداية ان نتنازل عن اثنتين منا أو ثلاث يلتحقن في غرفة ثانية ولكنني وقد عز عليّ التفريق والتميز وصعب عليّ ان افترق مع من صحبتهن منذ بداية الرحلة رفضت ذلك وآثرت ضيق المكان مع الجماعة على سعته مع الفرقة .. ولهذا فقد كنت قد أخرجت أمتعتي الى الفسحة التي تجمع باقي الغرف لكي أوفر شيئا من المكان .. وكنت قد صادفت منذ ساعة ورودنا مكة قبل سفرنا الى عرفات صادفت بعض المتاعب من قبل اهمال بعض رجال القافلة . اذ كان الواحد منهم يصعد في طلب زوجته او امه او اخته ويدخل الشقة بدون استئذان ولا يهمه ان تكون هناك امرأة مارة او ان يكون هناك بابا من أبواب الغرف مفتوحا ولكنني وجدت ان هذا أمر لا يستحب السكوت عليه فطلبت من المتعهد ان يمنع ذلك وخولته ان يوجه الطلب باسمنا اذا كان يخشى من التأثرات .. ولكنه استجاب للامر برحابة صدر ونادى في طابق الرجال قائلا : لا يصح لرجل ان يجتاز باب شقة النساء في الطابق الثاني .. واستجاب الرجال لذلك والحمد لله فكان واحدهم يقف وراء باب الشقة ثم يطرقها مناديا على من يريد من السيدات كان


( 364 )

هذا هو وضع غرفتنا في مكة .. وكانت الشقة تحتوي على حمام واحد ودورتين للمياه .. وليت هذا الحمام لم يكن موجوداً لأنه اصبح مصدر متاعب للجميع وطالما نجمت بسببه الكثير من الخلافات والنزاعات .. أما ماء الشرب فقد كان مالحاً جدا وظني ان المتعهد كان قد عجز عن توفير ماء للشرب لكثرة ما تستهلك النساء منه لغسيل الملابس والاجسام ولهذا كنا نتجرع مرارة الماء وملوحته بصمت .. ما دامت تلك المرارة بسبب من حلاوة العبادة ... واصبح علينا صباح اليوم الثالث عشر ونحن في مكة ومكة بلدة تضفي على من يؤمها جوا من الانطلاق الروحي والانشراح النفسي فهي بجميع معالمها محببة الى النفس قريبة الى الروح وعلى القرب منها غار حراء .. وهو على قمة جبل عظيم هائل الارتفاع واذا اردنا ان نعين موقعه في ذلك الجبل وجدناه ينحدر عن القمة من الجانب الثاني نازلا من الناحية الثانية لكي نجد فتحة الغار الصغير .. هذا الغار الذي انطلقت من بين جدرانه اقدس رسالة عرفها التاريخ فإن احجاره هي تلك الاحجار التي استقبلت ميلاد شريعتنا الخالدة .. حيث دخل اليها محمد بن عبد الله (ص) لكي يعتزل الناس وينصرف الى عبادة الله الواحد القهار ثم خرج عنها وهو حامل لرسالة السماء ... هذه الساعات التي احتضنت محمدا داخل الغار كانت هي الحد الفاصل بين الظلمات والنور بين الحياة والدمار فما اعظمها من ساعات كانت الارض خلالها قد


( 365 )

تفتحت لتستقبل رسالة السماء ويالها من خطوات تلك التي خطاها محمد بن عبد الله (ص) وهو خارج من هذا الغار ليطل على العالم برسالته مضيئا في معانيها مشاعل نور وواضعا من مفاهيمها سفن نجاة .. نعم انه غار حراء حيث شقت في الجبل المؤدي اليه بعض خطوط ملتوية بين صخور واحجار يتمكن الصاعد ان يجد آثارها كلما صعد وحيث يطل الصاعد اليه على مكة بجميع مبانيها ومعالمها فيقف خاشعا امام تصوره لحقيقته الشامخة .. حقيقة ان يكون الاسلام قد انطلق من بين هذه الاحجار الصلبة الجرداء ليهدد كسرى في ايوانه وهرقل في عزته وسلطانه كما وان الزائر في مكة يمكن ان يزور مقابر قريش حيث رقدت ام المؤمنين خديجة وفاطمة بنت اسد ام الامام امير المؤمنين واجداد النبي واعمامه .. ووقفنا عند قبر خديجة الذي لا يكاد يعرف لولا بعض احجار صغيرة فوقه .. وسرح بنا الفكر الى حيث كانت السيدة خديجة تحتضن الرسالة وتتبناها كما احتضنت صاحب الرسالة وتبنته من قبل .. نعم السيدة خديجة هذه التي يعلمنا تاريخها ان للمرأة لو ارادت ان تكون ركيزه في وجود الامم وبانية من بناتها .
.. ووقفنا على قبرها نتساءل : أين نحن من خديجة ثم لنتساءل أيضا وبعد ان نعرف مدى البون الشاسع الذي يفصلنا عنها نتساءل أترانا مسلمات حقا ؟ وما هي علامات اسلامنا يا ترى ؟ ان الجانب الايجابي وحده لا يكفي لأن يوجد من


( 366 )

الانسان انسانا مسلما حقا لان جميع العبادات المفروضة هي مما ينفع الناس ويحقق لهم المصالح الخاصة والعامة . اما الجانب الذي يحقق للفرد اسلامه ويخوله ان ينتسب الى الاسلام مانحا اياه احقية ذلك الانتساب هو الجانب السلبي من جوانب العبادة .. والجانب السلبي هو ترك ما نهانا الله عنه واجتناب ما أمرنا الله باجتنابه .. فهل نحن مسلمات حقا وكان علينا ان نبقى في مكة مدة ثلاثة ايام ثم نسافر بعدها متوجهين نحو المدينة المنورة ... وفي اليوم المقرر للسفر ذهبنا الى الحرم الشريف لنطوف طواف الوداع .
وكان المطر ينهمر بغزارة فيغسل جدران الكعبة ويضفي على الموقف بشكل عام هيبة جديدة من نوع فريد وكان الوداع قاسيا جدا لولا بصيص الامل في عودة اللقاء وقديما قيل :
« ما أضيق العيش لولا فسحة الامل »

***

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net