متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الحلقة السادسة
الكتاب : ذكريات على تلال مكة    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات
وقضينا ثلاثة ايام في مكة بين زيارة وطواف حتى عصر اليوم الثامن من شهر ذي الحجة الحرام حيث كان علينا ان نذهب الى عرفات .. ومع ان وجوب الوقوف في عرفات يبدأ من زوال اليوم التاسع وينتهي عند الغروب ولكن عادة الحجيج هي الخروج الى عرفات عصر اليوم الثامن اي يوم التروية . وذهبنا بعد الظهر الى الحرم المبارك وجلسنا امام الكعبة الشريفة ننتظر الغروب وسرح بي الفكر الى الواقع


( 340 )

الرائع الذي نعيشه أفتراها كانت حقيقة واقعية جلستنا تلك ؟ وراق لي ان اكتب بضع كلمات على ورقة صغيرة حاولت ان اصور بها ما اعيشه من افكار انها اعز كلمات كتبتها خلال سفرتي تلك لأنها كتبت عن كثب من الكعبة وانطلقت من اشرف بقعة في أقدس مكان وارتفع صوت اذان المغرب هاتفا بكلمة العزة الخالدة . الله أكبر . لا شيء اكبر من الله هذا الكبر الذي يقره الانسان لجبار السماء يشعره بالصغار امامه تبارك وتعالى ولكنه صغار تجاه الخالق وتواضع تجاه المخلوقين اذ انه عندما يعترف ان الله اكبر لا يعود يحس بكبر أحد سواه وهذا ما عناه الشاعر محمد اقبال في قوله « سجدة للاله تنجيك يا انسان من الف سجدة للعبيد » أية متعة هذه التي تسمو بروح الانسان فوق كل شيء لانه لا يعود يحتاج لشيء سوى الله ؟ واية صفة هي عنده التي ترتفع بمعنويات الفرد المؤمن حتى لا يعود يخضع لاحد او يتنازل لاحد لان الله وحد اكبر .. ومن هنا نعرف مدلول الحديث النبوي الشريف الذي يقول « من اعطى الذل من نفسه فليس منا » واستجبنا للنداء الخالد فتوجهنا للصلاة على مقربة من الكعبة وذلك لان البيت كان غير مزدحم لكثرة من خرج الى عرفات من الحجاج وبعد ان انتهينا من الصلاة عقدنا نية الاحرام للحج قائلات « نحرم لحج الاسلام اداءا قربة الى الله تعالى » .. وخرجنا من الكعبة متوجهات نحو البيت الذي ننزل فيه .. وهناك والى جوار المنزل كانت تقف سيارات النقل حيث سارت بنا نحو عرفات ..


( 341 )


كان الطريق الذي يفصل بين مكة وعرفة ليس بالطويل او البعيد ولعله لو اجتيز في الحالات الطبيعية لما استغرق اكثرمن نصف ساعة مع اكثر التقادير ولكنه وفي تلك الليلة المزدحمة بالحجاج كان لا يكاد يقطع الا بعد جهد جهيد وزمن طويل . ولهذا سلك السائق بنا طريقا ملتويا عله يكون أقل زحاما واكثر انفتاحا ولكن يبدو ان سائقنا لم يكن الوحيد الذي قصد هذا الطريق اذ وجدناه والحمد لله غاصا بالسيارات زاخرا بالحجاج . فدعونا الله ان يعظم شعائره ويزيد من هداية القلوب التي تهفو اليه . ووصلنا اخيرا الى عرفات .
وكان ظلام الليل يضاعف من هيبة تلك الصحراء التي لا يرى فيها سوى خيام بيضاء امتدت بينها شوارع رملية تتطلب الهداية اليها الى خبير ممن مارس طبيعة التربة ونشأ على بساطها الطاهر وتوقفت بنا السيارات الى جانب احد الشوارع ونزلنا منها نحمل في يد حقيبة ضمت ملابس الاحرام الاحتياطية والسجادة والمصحف وكتاب الدعاء ونحمل في اليد الثاني ابريقا فارغا لتهيئة الماء وسرنا وراء دليلنا نلف حول بعض الخيام وننعطف مع انعطاف الممرات التي بينها حتى وصلنا الى حيث الخيمة التي أعدت لنا ...
دخلنا الخيمة لنجدها مضاءة بالكهرباء ولكنها غيره مفروشة .. فتصاعدت من حولنا اصوات احتجاج قائلة ما


( 342 )

هذا ؟ كيف نجلس ؟ كيف سوف ننام ؟ هذا وضع عجيب ! فآلمنا ان نسمع كلمات الاحتجاج هذه بالنسبة لافتقاد مواد ترف لا تأثير لها على طهارة تلك البقعة او قدسية تلك الليلة . ولكننا تمكنا والحمد لله وبشكل غير مباشر ان نشيع في الخيمة جوا من الدعاء والابتهال ولم تمض مدة طويلة حتى فرشت لنا الخيمة بالسجاد والرياش ومع ما كان لهذا الفراش من راحة جسمية فقد شعرت بأنه شيء مرغوب فيه لواقع الحياة فهو يذكرنا من جديد بالحرص على نعومة العيش والتسابق على ما هو احسن من وسائل المادة ولكن « قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق » ..
وأصبح علينا الصباح ونحن في عرفات وهو الموقف الوحيد الذي يتحتم ان يؤمه الحجاج في وقت واحد وخلال ساعات معينة منذ الزوال وحتى الغروب .. فيا لها من حكمة في التشريع تهيىء للمسلمين فرصة اجبارية للاجتماع والتعرف على بعض فيتمكن الانسان المسلم خلال تلك الساعات ان يدرس عن كثب اخلاق اخوته المسلمين وعاداتهم وافكارهم ويتطلع على ما لديهم من جديد في مجالات العلم والعمل ثم ان المسلمين خلال ذلك ليتمكنوا وبسهولة ان يبحثوا مع بعضهم اهم مشاكلهم العامة ويضعوا لها حلولا مستقاة من حكمة الآخرين وتجاربهم .. هذا لو أديت شعائر العبادة في الحج بمضمونها المطلوب طبعا ، وقد جاءت عدة تفاسير للسبب الذي من أجله سميت هذه


( 343 )

البقعة بعرفات ومن بينها تعارف المسلمين على أرضها المقدسة ، ومنها انها البقعة التي تعارف عليها آدم وحواء بعد هبوطهما من الجنة ، ومنها انها البقعة التي نزل فيها جبرئيل على نبي الله ابراهيم وقال له اعترف لله بما لديك . وبما ان التفسير الاول هو اكثر الثلاثة صحة واقربه الى الواقع الذي تدل عليه سائر اعمال الحج . فنحن نأخذ به ولكن ومع كل الاسف .. مع وقف التنفيذ فلماذا ؟
.. لأن هذا المفهوم غير واضح في اذهان الحاج منهم لا يعرفون من عرفات سوى جانب الصلاة والدعاء من العبادة ، ولهذا فإن اي اقدام على ذلك يعد تطفلا غير مستساغ اللهم الا في مجالات خاصة جدا .. وانقضت ساعات النهار الاولى والجميع بين دعاء او صلاة او قراءة قرآن .. والحقيقة ان ساعات الحج في عرفات لاتكاد توازى بثمن لانها بجميع دقائقها عطاء حيث يحلق الانسان بروحه بعيدا عن عوالم المادة وخدعها وغرورها فيروح يعترف بآثامه تارة ويستغفر منها اخرى وهو يتضرع الى الله تعالى قائلا « اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك واسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك ».
وكيف يمكن لانسان ان يعبد ربا لم يره ؟ انه يراه بالدلائل فأن قصرت الباصرة عن رؤيته فيجب ان لا تقصر البصيرة عن ذلك ، وهل تعرف السعادة الا بتقوى الله .. ان تقوى الله هي التي ترسم للمتقي طريق الخير في الحياة وتحدد


( 344 )

له خطوط مسيرته الفاضلة حيث توجد منه فردا صالحا جديرا ان يكون نواة للمجتمع الصالح ثم ينطق بحقيقة الشد الذي يشده نحو مولاه ويعترف بانقطاعه التام لرحمة الله الواحد القهار اذ يبسط يده بالدعاء قائلا : « انت كهفي حين تعييني المذاهب في سعتها وتضيق بي الارض برحبها ولولا رحمتك لكنت من الهالكين » .. وهكذا هو الانسان ـ هذا الانسان التائه في عالم الغرور الراكض في حياته وراء السراب الذي خيل اليه انه سوف يخرق الجبال طولا .. هذا الانسان لا يشعر حماية الله له وحاجته الى الله الا عندما تعييه المذاهب وتضيق به الارض . عند ذلك يتوجه الى القوة الوحيدة القادرة بعد ان يستشعر عجز ما عداها عن حمايته . وقديما قال الامام امير المؤمنين عليه السلام .
« أدع الله في الرغبة كما تدعوه في الرهبة » ومن خلال هذه الدعوات يستشعر الحاج انقطاعه الى الله فيروح يدعوه بلسان أوبقه ذنبه واخرسه جرمه قائلا « فها أناذا يا الهي بين يديك يا سيدي خاضع ذليل حقير » شعور مطلق بالانقطاع الكامل التام لله تبارك وتعالى حيث لا مناص من الاعتراف بالذنب ولا فكاك من الشعور بالتقصير وحيث لا يعرف بهذا الشعور او بذاك الاعتراف سوى الله وحده .. ولهذا نجد ان ساعات الحاج في عرفات هي ساعات بناء للروح وصهر للافكار وتعقيم للقلوب وهي بالنسبة لمن هو في مستوى الحفاظ على مكاسبها الثرة واستند لها بالشكل الصحيح مرحلة انتقال من


( 345 )

الظلمات الى النور وطريق ارتقاء من الحسن الى الاحسن فيا لها من ساعات ومن العجيب ان نجد هناك من يحمل هما لطعام او شراب او فراش او مهاد ، الشيء المادي الوحيد الذي يحرص عليه الانسان هناك ويتمنى لو حصل على مزيد منه هو الماء نعم الماء . لانه الوسيلة الوحيدة الى الطهارة والطهارة هي من شروط صحة العبادة . والماء لم يكن وافرا بالشكل المطلوب لان المنطقة هناك لم يكن قد امتدت نحوها انابيب الاسالة .. وكان على متعهد القافلة ان يهيىء الماء للحجاج .. كان موضوع الماء مشكلة تثير الخوف لدينا من نفاذه .. والمشكلة الثانية كانت المرافق الصحيحة !! حيث يتعذر على الانسان الدخول اليها والخروج منها سالما من النجاسات وحيث كان حجاج ثلاثة او أربعة من المتعهدين يقفون في انتظار اخذ أدوارهم والمرافق لا تتعدى المرفقين او الثلاثة ..
وانقضى النهار وفي اخر ساعة منه باشر العمال في جمع الخيام مقدمة لنقلها الى منى وجلسنا كل الى جوار امتعتها تحت السماء وفوق الرمال وكنا خلال تلك الساعة نشعر بحسرة الوداع لهذه البقعة الطاهرة وتلفتنا حوالينا علنا نتمكن ان نحتفظ بأكثر مقدار ممكن من الذكرى وحان وقت الغروب فأدينا الصلاة وتناولنا شيئا من الاكل ثم نادى المنادي بنا قائلا ـ هيا نحو السيارات ـ فقد كان علينا ان نتجه من هناك الى « المشعر الحرام »

***

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net