ووصلنا الى مكة ..
وكانت الساعات الاولى من الليل قد انقضت ونحن في الطريق وتوجهنا نحو البيت الذي خصص لنزولنا وهو غير بعيد عن الحرم والحمد لله فألقينا أمتعتنا وجددنا الطهارة ثم تهيأنا للذهاب الى الكعبة ، من أجل الاتيان بطواف العمرة ، وهناك طلب منا ان ننتظر لكي نتناول العشاء وبعد ذلك نذهب مع مجموع الحاجات وبحراسة من بعض مساعدي المتعهد ، ولكن أترانا نتمكن من الانتظار ؟ وكل جارحة من جوارحنا قد استحالت الى لهفة وجميع مشاعرنا أخذت تنطق بالحنين فلقد كنا على موعد مع جبار السماء لنطوف حول
( 331 ) الكعبة طالبين الغفران ولنسعى بين الصفا والمروة مبتغين الرضوان ، عندما يعيش الانسان في إنتظار لقاء محبب اليه لا يعود يهنأ بشيء قبل أن يتحقق له ذلك اللقاء فهو يستحيل بجميع وجوده الى لهفة وانتظار وهل هناك ما هو أحب الى الانسان من ساعة رحمة واونة غفران ؟ ولهذا فقد عز علينا الانتظار ، ولماذا ننتظر يا ترى أمن أجل غذاء ؟!.
ولكن ما أهمية الغذاء المادي بالنسبة للغذاء الروحي الذي ينتظرنا هناك ، أم من أجل الحصول على حراسة الحارسين ؟ أو لم يقل امامنا جعفر الصادق (ع) في وصيته لمن يريد الحج الى بيت الله الحرام : ( ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك مخافة ان يصير ذلك عدوا ووبالا فإن من ادعى رضا الله واعتمد على شيء سواه صيره عليه عدوا ووبالا ليعلم انه ليس له قوة ولا حيلة ولا لاحد الا بعصمة الله تعالى وتوفيقه ) اذن فليس هناك ما يدعونا الى الانتظار ..
وانطلقنا نحن بمجموعتنا الصغيرة نحو بيت الله الحرام وكان الطريق الذي يفصل بيننا وبينه عبارة عن سوق يسمى بسوق الليل وهو ملىء بزخارف الحياة التي عرضت للابصار بشكل يساعد على الاغراء .. ولكن .. أترانا كنا نبصر من هذه الزخارف شيئا ؟ أم ترانا كنا نتحسس آثار وجودها ونحن مندفعات نحو بيت الله الحرام تسبقنا الآمال بالغفران وتحدو بنا الاماني لنيل الرضوان ؟...
( 332 ) انها رحلة .. تلك الخطوات .. رحلة الانسان الذي هرب الى الله عز وجل من ذنوبه تائبا وعلى اخطائه نادما رحلة الانسان الذي يستشفع الى الله قائلا ( الى من يذهب العبد الا الى مولاه والى من يلتجىء المخلوق الا الى خالقه ) وقاربنا البيت المبارك وكنا نهبط في طريقنا اليه لانه في واد بين الجبال والمرتفعات . ولكنه هبوط جسمي يبعث الى الارتفاع الروحي ويبلغ اسماعنا دوي السعادة وهم في مسيرتهم المباركة بين الصفا والمروة وكان لذلك الدوي المبهم الكلمات اعظم الاثر في الترهيب والترغيب فهل حقا اننا على بضع خطوات من بيت الله الحرام ؟ وهل حقا ان هذه النوافذ الحديدية المرتفعة تطل على اقدس بقعة خلقها الله وتشرف على أول بيت وضع للناس ؟ وهل حقا ان هذا الوجود الضعيف قد انطلق بآثامه واخطائه هاربا من الله الى الله وها هو قد اوشك ان يحظى بالمثول امام كعبة المسلمين في مشارق الارض ومغاربها ؟ انها نعمة لا يكاد يصدقها الانسان لنفسه ، وهذا الدوي الذي كلما دنونا نحوه اكثر تكشف عن كلمات تقول ( الله اكبر لا اله الا الله . الحمد لله . لا اله الا الله وحده وحده . انجز وعده ونصر عبده . وغلب الاحزاب وحده ) هذه الكلمات هي التعبير الواضح عن كل ما يشتمل عليه الحج من شعارات ومفاهيم ، الوحدانية لله والخضوع لعبوديته والتوكل عليه ، والثقة بنصره لعباده الصالحين .
* * *
( 333 )
ووقفنا امام الكعبة وكانت وقفتنا من الجهة المقابلة للحجر الاسود حيث يجب ان يبدأ الطواف من هناك وكان المطاف محتشدا جدا لا تبدو منه سوى رؤوس رفعت وجوهها نحو السماء ترتجي الرحمة من العلي الاعلى وتهتف في قنوط المساكين قائلة ( اللهم اني اليك فقير ، واني خائف مستجير ، فلا تغير جسمي ولا تبدل اسمي ) .. ولاحظت صعوبة الطواف وهو في قمة ازدحامه وتلفت حولي اتطلع الى الوجوه التي تقف الى جانبي وادرس مدى تمكنهن من خوض هذا البحر البشري الزاخر ، فاسعدني واراحني ان أجد اللهفة لديهن قد طغت على كل شيء فأمدتهن بطاقات من الارادة والتحمل والثبات والاصرار على بلوغ الهدف باي ثمن فسمينا بسم الله الرحمن الرحيم وتراجعنا قليلا عن مواجهة الحجر الاسود لنطمئن من مرور جميع جسمنا امامه ثم .. اندمجنا مع مجموع الطائفين ..
وبدأنا نفقد الاحساس بصعوبة السير وسط الحشد الهائل ولم نعد نبالي بما نتعرض اليه من ضيق بعد أن اندمجت جميع مشاعرنا في ترديد هذه الكلمات ( اللهم ادخلني الجنة برحمتك ، واجرني برحمتك ، يا ذا المن والطول والجود والكرم ، ان عملي ضعيف فضاعفه لي ، وتقبله مني ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار ، اللهم البيت بيتك والعبد عبدك وهذا مكان العائذ بك من النار ) .. وكنا كلما اكملنا دورة واحدة عددناها مع بعضنا بصوت مسموع لكي نتجنب الشك والنسيان فليس بغريب ان يندمج الانسان
( 334 ) الطائف مع أهدافه وعطاءاته فينسى العدد والحساب ويبقى يدور ويدور وكأنه لا يريد الله يترك دورته حتى يستوثق من الغفران ، ولهذا كنا نهتم بحفظ العدد واتقانه فإن الطواف هو رمز لدوران الانسان حول غاية يؤمن بها أو هدف يسعى اليه ، فهو يلف حولها لكي يبدأ من حيث ينتهي ، وهو يشعر الانسان انه انطلق من الله وسوف يعود الى الله وانه دار ضمن حدود وابعاد رسمها الله عز وجل فليس له ان يتعداها فينقص منها او يزيد ، ان دورته حول هذا الرمز الإلهي ترسم له حدود تحركاته في الحياة فهو اذ يتحتم عليه هنا ان يدور بأقدام ثابته ينقلها من فوق الارض باختياره يتحتم عليه ايضا خلال دورته الكبرى في دوامة الحياة ان لا تزل به قدم أو يندفع وراء غاية دون رؤية أو استبصار وهو في دورته المقدسة هذه اذا اندفع الى الامام بدون خطوات ثابته عليه ان يعود من النقطة التي ارتفعت فيها قدماه عن الارض ، يعود ليبدأ سيره من جديد وكذلك الحال في مسيرة الحياة فإنه متى ما تعدى حدودها باندفاع او انحراف له ان يعود ليباشر سيره من جديد وفقا للحدود التي حددها له الله عز وجل ـ وذلك ما يسمى بالتوبة » انه رمز يطبع بطابعه جميع تحركات الانسان في حياته القادمة خلال جميع مجالاتها وابعادها ، واكملنا دوراتنا السبع وقد كانت النهاية من حيث البداية وهي مواجهة الحجر الاسود وكما احتطنا فتأخرنا عن الحجر في البداية فقد احتطنا وتعدينا موضعه المبارك قليلا في النهاية .. ثم انسحبنا من بين
( 335 ) الجموع ونحن نحاول ان يكون انسحابنا هادئا لا يعيق طواف الطائفين وخرجنا وكل جارحة من جوارحنا تنطق بالحمد لله رب العالمين .
* * *
|