متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الحلقة الثالثة
الكتاب : ذكريات على تلال مكة    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات
وهبطنا الى مطار جدة ..
فكان هناك مجموعة من المسافرين قد اصطفوا على شكل نصف دئرة منفتحة استعدادا لالتقاط صور تلفزيونية فانتحينا عنهم جانباً .. فقال لنا قائل : هلا تفضلتم بالاشتراك ؟ انه فلم تلفزيوني يعرض على الشاشة كأثر مرئي لهذه الرحلات !! ووددت لو أرد عليه قائلة : نحن أيضا في حالة التقاط صور .. ولكن اتراه كان يفهم ما الذي اعنيه وبهذه العجالة ؟ فاكتفيت ان اقول له كلا ووقفت جانبا أشاهد الجماعة التي كانت تستعد للتصوير كان البعض منهم يصلح من مظهره والبعض الاخر يحاول ان يتقدم ليحتل مكانا احسن وهذا امر طبيعي بالنسبة لانسان يشعر انه في معرض تصوير فهو ولا شك يحاول ان يتجنب كل ما يشين من مظهره الخارجي او يؤثر عليه لكي يبدوعلى شاشة العرض بهيا متكاملا في وقفته تلك وارتسمت في فكري صورة للعرض الاكبر خلال يوم القيامة « يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية » فها هي اجهزة الالتقاط تتوجه نحونا كما كانت تتوجه منذ اصبحنا مشمولين بالتكليف الالهي في مسؤولية حمل الامانة التي عرضت على


( 324 )

السماوات والارض فأبين ان يحملنها وحملها الانسان ، نعم ولكنها أجهزة التقاط تختلف عن هذه الاجهزة المادية المصطنعة .. ان هذه لا تتمكن ان تسجل سوى الغشاء الخارجي لجسم الانسان ، وحتى هذا فهي لا يسعها ان تصوره اذا حال بينها وبينه شيء ولو كان غطاء رقيقاً ، أما تلك فهي تسجل حتى نظرات العيون وخواطر القلوب ..
يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور .. ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك احدا ) اذن .. فلو عاش الانسان هذه الحقيقة ولو احس بها خلال حركاته وسكناته ولمحاته ونظراته لحرص دائما وبدا ان يبرز بالشكل المرضي وان يحتل مكانا احسن يوم يعرض فلم حياته امام البشرية بدون غطاء . ثم .. عرض علينا ان نتحدث امام شريط للتسجيل لنبشر اهلنا بسلامة الوصول .. عجيب ! ولكن أترانا كنا قد وصلنا ؟ ان المسافر لا يسجل لنفسه الوصول الا اذا وصل الى النقطة التي انطلق نحوها منذ البداية ـ ونحن كنا في انطلاقتنا تلك متوجهين نحو هدف معين لم يحققه لنا الوصول الى مطار جده .. الم نكن سائرين في ركاب هذه الآية الكريمة « ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا » .. اذن فأين نحن من الحج وأين نحن من السلامة ؟ سلامة الجسد لاتعني شيئا في حساب الراحل الى الله ..


( 325 )

ولكن هي سلامة العمل وصحة الاداء ، فما اكثر سلامة الاجساد وما أقل سلامة الاعمال ..
وصعدنا الى مدينة الحاج
وهي عمارة كبيرة تتألف من طوابق عديدة تحيطها عمارات وغرف واسعة وتشرف من احدى جوانبها على ساحة المطار ومن خصائصها انها ومع جميع ما قد تسبب الاقامة فيها من مضايقات .. انها تبعث في نفس الانسان نوعا من الانشراح والانطلاق ، وكأنها مرحلة انتقال شيقة ثم انها المنزل الاخير الذي ننطلق منه نحو بيت الله الحرام ، وكانت الغرفة التي توجهنا نحوها جانبية تطل على بعض شوارع مدينة جدة ومدخل مدينة الحاج ، واجتمعنا لاول مرة نحن النساء المسافرات ضمن القافلة في غرفة واحدة ، وبدأنا نتصفح الوجوه في تطلع لهفان ووددنا لو وجدنا اثرا لطابع مميز يشمل الجميع طابع الشعور بالوحدة المنطلقة من وحدة الغاية واتحاد الهدف في الحج .. ولكن ..
وقمنا ببعض المحاولات للتعرف على رفيقات السفر فكان فيهن من تستجيب بتحفظ وفيهن من تلوي جيدها في شيء من اللامبالاة ( عدى من كانت معرفتنا بهن تسبق حدود هذه السفرة طبعا ) وقد كان الشعور الغالب على بعضهن هو التطلع الى ما في أسواق جدة من جديد !! وبما اننا كنا قد


( 326 )

أحرمنا من مطار بغداد فقد عرضنا ذلك لبعض الاسئلة عن الاسباب التي دعتنا الى تقديم الاحرام فأخذنا نشرح طبيعة الحكم الشرعي في ذلك وكيف ان الاحرام يجب ان يكون من احد المواقيت الخمسة : الجحفة . يلملم . قرن المنازل . مسجد الشجرة . وادي العقيق . ولا يصح الاحرام من غيرها الا بنذر شرعي ، والنذر الشرعي لا ينعقد الا اذا كان المكان الذي ينذر الاحرام منه أبعد عن مكة من الميقات او بمحاذاته ومن أجل نفس هذا الحكم كنا نشاهد في مدينة الحاج مجاميع من الحجاج وهم في طريقهم الى الجحفة من اجل عقد نية الاحرام ، والجحفة تبعد عن جدة بمقدار ( 180 ) كيلو متر تقريبا ، وبتنا ليلتنا في مدينة الحاج وكنا نحرص بعد أداء كل فريضة ان نراجع أحكام الحج في المنسك الذي صحبناه معنا فنعيد قراءة ما عرفناه ونتأكد من معرفة ما جهلناه ونتبادل نحن الستة شرح اعمال الحج ونؤكد على أعمال العمرة لأنها أول فريضة تنتظرنا في مكة ولم يكن هذا من أجل اهمال في التحضير من قبل او غفلة عن سير احكام الحج واعماله ، ولكنه كان على سبيل التأكيد والتجديد ثم انه من اجل فتح المجال امام الاخريات للسؤال اذا كن في ريب من عمل او شك في حكم من الاحكام وكانت اهم نقطتين واجهتنا في اصلاح احرام المحرمات من حولنا هي اولا : انهن كن يتجردن عن الجوارب فور عقدهن لنية الاحرام ويستعضن عنها بلبس السروال الطويل وذلك في اعتبارهن لسببين : احدهما وجوب


( 327 )

اظهار ظهر القدم حال الاحرام وثانيهما جواز ابداء القدم امام الرجال ظنا منهن ان جواز كشف ظهر القدم حال الاحرام ليس الا احتياط استغنى عنه التشريع لعدم تأكده . هذا مع تأكد حرمة كشف القدمين امام الرجال الاجانب وعدم وجود مجال لمقايستها مع الكفين ، فالاسلام حينما شرع الستر للمرأة كصيانة لكيانها ووقاية لوجودها الخاص ووجودها العام ضمن المجتمع وتجنيب لها وللمجتمع مغبة تكشفها امام الرجال حينما شرع ذلك لم يرد من وراء ذلك التشريع عزل المرأة عن الحياة او حبسها عن مجالات التعايش السليم الطاهر مع المجتمع . ولهذا فقد اجاز لها كشف الوجه والكفين لانهما كل ما يحتاجه الانسان ، وأي انسان رجل كان أو امرأة حينما يتفاعل مع الحياة في مختلف المجالات ان اي عمل او علم لا يحتاج الى ابراز الكتفين او ابراز جدائل الشعر مثلا ولكنه قد يكون في حاجة الى كشف الوجه والكفين وهذان هما ما أجاز التشريع للمرأة أظهارهما عند الحاجة ، اما القدمان فما هو الشيء الذي يتوقف على كشفهما يا ترى ؟ وما هو الاثر غير المرضي الذي يتركه سترهما في مجالات الحياة ؟ لا شيء ابدا ولهذا وجب علينا ستر القدمين وابيح لنا كشف الكفين هذه هي النقطة الاولى .. اما النقطة الثانية .. فهي عدم اتقان مقدار ما ينبغي كشفه من الوجه حال الاحرام !! فنحن اذ نعرف ان احرام المرأة بوجهها ينبغي ان تلتزم بكشف الوجه من قصاص الشعر وحتى الذقن لا أكثر ولا اقل ، ولعل هذا


( 328 )

يفتقر الى شيء من الدقة ولكن أهمية فريضة الحج عميقة وكبيرة جداً أفلا تستحق قليلا من الدقة والالتزام ؟؟!
وركبنا السيارة في طريقنا الى مكة .. وهي سيارة كبيرة حمراء غير مكشوفة كتب عليها بالخط الابيض العريض كلمة ( التوفيق ) وكان هناك سيارة حمراء اخرى تساير سيارتنا وقد ركبها رجال القافلة ولم تكن تلك لتختلف عن هذه الا بكونها مكشوفة السقف تمشيا مع الحكم الشرعي الذي لا يجيز للرجل المحرم الاستظلال بالظل المتنقل ، وما ان تحركت بنا السيارة حتى وجدت نفسي غارقة في دوامة من الانفعالات المختلفة التي هي مزيج بين الرضا والخوف والرهبة والرغبة والفرحة والحسرة .. وانطلقت أردد على لساني كلمات التلبية « لبيك اللهم لبيك » انها استجابة للنداء الخالد الذي امر الله نبيه ابراهيم (ع) ان يطلقه في آذان البشرية ولكن اتراها استجابة كاملة ؟ ان التلبية تكون مخلصة صادقة اذا نطق بها اللسان واوحاها الفكر وصدقها القلب وأكدها العمل . ان حركة اللسان وحدها لا تكفي باعطاء مفهوم التلبية الا اذا تظافرت معها جميع الجوارح لدى الانسان ، « لبيك لا شريك لك لبيك » انه اقرار بالوحدانية وتأكيد على العبودية المطلقة « ان الحمد والنعمة لك والملك » نعم ان الحمد لله وحده لانه وحده صاحب كل نعمة ومصدر كل رحمة فهو المحمود الاول في كل ما يحمد عليه ، وهنا تذكرت كلمة للامام : ان شكري اياك يحتاج الى شكر ، ان يكون الانسان مقرا بالحمد والشكر


( 329 )

لله لهي السعادة ما فوقها سعادة لما يتضمن ذلك الاقرار من مصادر رحمة وينابيع رضوان ، ـ ان الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك » ومرة ثانية يتكرر في كلمات التلبية الاقراربالوحدانية ، هذه الوحدانية التي تنطلق عنها وحدة الهدف ووحدة الغاية لكي يكون القصد في العبادة متوجها بمجموعه نحو الله نزيها عن الرياء بعيدا عن الخيلاء نقيا من شوائب الغرور وحب البروز أو الظهور خاليا مما يوجب الشرك المنافي لخلوص الاعمال لله ومن اجل طاعة الله .. واندمجنا مع كلمات التلبية حتى شارفنا ( الحديبية ) وهي أول حدود الحرم للقادم من جدة ، وهناك وجدنا السيارة الحمراء المكشوفة ( سيارة الرجال ) تنتظر ! واعلن لنا عن ضرورة تجديد نية الاحرام لمن احرم من جدة !!! واستغربت الامر ! لأن الحديبية ليست ميقاتا للقادمين من العراق ! وعلى كل حال فقد وقع الكثير من الهرج والمرج بين المحرمات المسكينات فتارة يطلب منهن النزول واخرى يطلب منهن العودة الى مقاعدهن ، ثم تتلى عليهن نية الاحرام من خارج السيارة وعن طريق مكبر للصوت فتأتي الكلمات ضعيفة غير واضحة فتتصاعد كلمات احتجاجهن « لم نسمع لم نعرف ماذا قال ، ومضت فترة صخب بين قيل وقال ثم انتهت بسلام والحمد لله . وكنا نحن المحرمات من بغداد نحمد الله ما وفقنا اليه من صحة الاحرام وعدم احتياجه الى تجديد او اتمام ثم سارت بنا السيارة من جديد وكنا نشعر ان


( 330 )

كل ميل تطويه عجلاتها ( الكليلة ) تقربنا نحو الهدف فتخفق لذلك قلوبنا وكأنها تحاول ان تبعث من طاقاتها الحرارية قليلا من الحرارة في السائق الذي كان يبدو وهو لا يريد ان يكلف نفسه عناء الضغط على البنزين كانت أرواحنا تهتز مع طي الطريق في نشوة روحية خالصة فتود لو سابقت هذه العجلات الثقيلة التي لا تكاد تستجيب للمحرك بسهولة وهي لا تعلم ولا تشعر بما تحمل من شحنات آمال تتمنى لو سابقت الريح في الوصول الى رحاب الله واخيرا وبعد مضي ما يقرب من ساعتين بدت لنا من بعيد معالم مكة .. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله ..

***

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net