وارتفعت بنا الطائرة .. بعد ان عقدنا نية الاحرام ونحن لانزال على ارض مطار بغداد ورددنا كلمات التلبية قائلات « لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، ان الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك » ..
ورأينا الشمس تشرق علينا صافية نقية تهبنا الدفء وتغمرنا بالضياء فاستغربنا ذلك وقد كانت تظللنا قبل
( 319 ) دقائق وترشنا بقطرات متلاحقة من المطر ! فهل ان في الامكان ان يتغير الجو في مثل هذه السرعة ؟ وما أبعد البون بين هذه الشمس الدافئة التي تشرق تحت سماء نقية صافية .. وبين ذلك الضباب الذي كان يشمل جوانب انظارنا قبل قليل ؟ حقا انه لأمر عجيب ! هذا التحول الطارىء على صفحات السماء وهذا التبدل الحادث في أعالي الافق ! أولم نكن نتطلع الى السماء نبحث فيها وبين طبقات السحب التي تحجبها عن اثر الشمس ؟ أولم تختلط قطرات المطر مع دموع المودعين ويتجاوب انين الريح مع زفرات المفارقين ؟ فكيف حدث هذا يا ترى ؟ أهو استجابة لدعاء داع ابتهل الى الله قائلا : يا محول الاحوال حول حالنا الى أحسن حال .. أم ماذا ؟؟ واخيرا اكتشفنا الحقيقة فعرفنا ان الطائرة قد ارتفعت بنا فوق السحاب اذن فنحن الذين ارتفعنا عن السحاب وأمطاره وليس السحاب هو ذلك الذي انكشفت عنا بتحول سريع ، فما أحلى ذلك وما أروع ان نكون ملحقين باجسامنا في فضاء نقي وتحت شمس صافية الضياء تاركين وراءنا متاعب المطر ومصاعبه وقد كشف لنا ذلك الموقف حقيقة ما اكثر من يجهلها منا .. وهي .. ان الانسان يتمكن من الارتفاع بروحه وفكره عن سحب الريب وغيوم الجهل والانحراف ، نعم يرتفع بروحه عنها ليستنقذها نقية طاهرة دون ان تعلق بها شائبة او يلوثها درن من الادران .. فهو يستطيع ذلك لو اراد حتى ولو عاش في أجواء مظللة بالغيوم ثم توصلنا الى حقيقة
( 320 ) ثانية ايضا .. وهي .. ان على الانسان ان يسعى نحو مطلع النور بأي ثمن وان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ولا يحول الانسان من الظلمات الى النور الا اذا شاء هو ذلك وعمل من أجل ان يكون مؤهلا لذلك التحويل ، فما أحلى ان نحلق بانفسنا في سماء نقية كما حلقنا بأجسامنا خلال رحلتنا بأجسامنا خلال رحلتنا تلك ، وما أروع ان نلتفت فنجد ذاتنا وقد تنزهت عن الرذائل وحلقت في سماء الكمال تاركة وراءها ويلات الانحراف وآفات السقوط كما تركنا وراءنا ونحن في الطائرة الارض المغطاة بالوحول والآفاق الملبدة بالغيوم .
وبعد مضي مائة دقيقة أعلن لنا عن قرب هبوطنا الى مطار جدة ، وذلك يعني اننا سوف نكون بعد يوم أو يومين في مكة .. فما أعظم هذه الحقيقة وأضخم ما تعنيه وترددت في ذهني وعلى فمي هذه الابيات ..
قالوا غدا نأتي ديار الحمى * وينـزل الركب بمغنـاهـم فكل من كان مطيعــاً لهم * اصبح مســروراً بلقياهـم قلت فلي ذنب فما حيلتـي * بأي وجــه أتـلـقـاهـم قالـوا أليس العفو من شأنهم * لا سيمــا عمن ترجـاهم
( 321 )
فجئتهم أسعى الى بابهـم * أرجوهم طوراً واخشاهــم
* * *
واستقرت بنا الطائرة على ارض مطار جدة بعد ان دارت فوق مدارجه دورات طويلة ، فحمدنا الله على سلامة الوصول وحسن التوفيق .. ثم تطلعت انظارنا نحو الباب تترقب الاذن بالنزول . ومضت دقائق طوال لأنها كانت مشوبة بالانتظار .. ومن خصائص الانتظار مهما كانت انواعه وبواعثه واسبابه من خصائصه ان يضفي على الوقت مطاطية هائلة فيضاعف ادراكنا بأهمية الى اضعاف كثيرة ومضت فترة ثم طلب منا ان نبرز جوازاتنا الصحية ! فأمسك كل منا بجوازه ( الاصفر ) بين أنامله وكأني انسان خرج لتوه من احدى المصحات وبقينا نتطلع نحو الباب في مزيج من اللهفة والضجر وبنظرات تنطلق بالاحتجاج .. واخيراً انفتح باب الطائرة عن رجلين صعدا ليطمئنا على سلامة القادمين من الامراض ( الوبائية ) فتفحصا معظم الجوازات ومن العجيب اننا كنا ممن لم تصل اليهم عملية التفتيش ، وكأن سلامتنا بدت واضحة جلية دون معاينة ومزيد تدقيق .. فكيف حصل هذا ؟ ولماذا ألسنا مثل باقي المسافرين ؟ انه عدم الاخلاص في العمل والاهمال لا اكثر ولا اقل ! والجواز الصحي عن أي شيء كان يحكي يا ترى ؟ انه كان يحمل شهادة التطعيم ضد
( 322 ) الهيضة وضد الجدري ، ولم يكن هناك اي احتمال ان احد المسافرين مصاب فعلا بمرض الجدري او مرض الهيضة ، لا .. ولكن المطلوب التطعيم الوقائي وهو التأكد من أن هذا المسافر الوافد قد حصن نفسه عن التعرض لهذه الأمراض أخذ المسافرون بالهبوط .. وبقيت نزولي في مقتري الأخير والجواز فبدأت أفكر .. تذكرت جالسة انتظر خلو السلم من الزحام الصحي الذي أسأل عنه من منكر ونكير وأهمية كل تطعيم وقائي يشير اليه ذلك الجواز ، انهم يطالبونني بشهادة التلقيح ضد أمراض عديدة ، هذه الامراض التي يعاني المجتمع من ويلاتها الشيء الكثير نعم هذه الامراض التي لا تتولد لدى الانسان نتيجة ضعف جسم او قرب من المصابين وانما هي وليدة ضعف الايمان وتحلل الشخصية ، انها وليدة الذوبان في شخصيات الآخرين مهما كان هؤلاء الآخرين منحرفين او مبتذلين او متذبذبين .. انه مصل وقائي يهب للانسان حصانة تقية ويلات السقوط .. نعم . ان الانسان ليسأل في مقره الاخير عن روحه لماذا اطلقها وراء رغباتها بغير رقيب وعن فكره لماذا جعله يتجه حيث شاء دون تهذيب ؟ وعن قلبه كيف أهمله فجعل آماله وأمانيه تنمو أوراقها وتمتد فروعها كالشجرة التي تفتقر الى التشذيب ؟ انه ليطالب بجواز صحي ومن أين له ذلك الجواز ؟ الا اذا كان خلال حياته قد عمل على الوقاية وباشر عملية التطعيم ان الموظف السعودي قد يهمل او يغفل كما اهملنا او غفل عنا .. أما هناك .. حيث يتلقانا ملائكة
( 323 ) الله الموكلين بفحص ( جوازتنا الصحية ) فليس فيهم من يغفل عن صغيرة كانت او كبيرة لأنهم « ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون » ..
|