مر يومان كانت ورقاء خلالهما تصارع المرض حتى شاء الله تبارك وتعالى أن يساعدها على اجتياز الأزمة ، وكانت معاد جالسة إلى جوارها عندما فتحت عينيها ونظرت حولها لأول مرة نظرة تفهم واستغراب ، حتى استقر نظرها على معاد ، ثم عادت فأغلقت عينيها وكأنها لم تصدق ما ترى أو حسبته حلماً من أحلام الحمى ، فانحنت عليها معاد وقبلت جبينها بحنو وهي تقول : ورقاء كيف أنت يا أختاه ؟
فعادت ورقاء تفتح عينيها وتنظر إلى معاد غير مصدقة ،
( 201 ) ثم قالت بصوت واهن : هل أنت معاد حقاً أم أنني في حلم ؟
قالت معاد : كلا أنك لست في حلم يا ورقاء فأنا معاد ، والحمد لله الذي منّ علينا بسلامتك يا أختاه .
فأدارت ورقاء عينيها إلى الجهة الثانية تفتش عن جدتها ثم قالت : وأين جدتي إذن ؟
قالت : أنها في البيت ، فقد نبت عنها بمرافقتك وسوف أبعث من يأتي بها اليك ما دامت صحتك قد تحسنت والحمد لله .
قالت ورقاء : ولكن كيف وصلت إلى هنا ؟ وكيف وصلت أنت الي ؟
فضحكت معاد وقالت : أنت الآن تعبانة وعليك أن تخلدي للراحة وسوف أخبرك غداً بجميع التفاصيل ، وها أنا ذاهبة للاتصال بجدتك .
قالت ورقاء : كلا لا تذهبي وتتركيني وحدي يا معاد فأنني خائفة .
قالت معاد : ولماذا الخوف يا ورقاء وأنت الآن بخير ؟
قالت ورقاء : أنني لا أخاف من الحمى ولكنني أخاف من الناس .
( 202 )
قالت معاد : أنني سوف لن أتأخر عنك أكثر من دقائق إن شاء الله .
وهنا فتحت الباب ودخلت الجدة مندفعة نحو ورقاء فبادرتها معاد قائلة : أنها بخير يا جدتي وقد سألت عنك قبل لحظات.
فانحنت الجدة تقبل ورقاء وهي تسكب الدموع ، فسألتها معاد : كيف أتيت وحدك يا جدة ؟
فظهر الارتباك على الجدة ثم قالت : لقد مر عليّ الطبيب الذي كان معك وجاء بي إلى هنا .
فردت معاد تقول بشيء من الاعتزاز : إنه أخي سناد ، فهل رأيت كم هو رائع يا جدة ؟
فاستغربت ورقاء ما سمعت ولم تعلم كيف تفسر الموقف ، ولكنها كانت في حالة لا تسمح لها بالمزيد من الكلام فأخذت يد جدتها بين يديها واستسلمت للنوم .
احتلت الجدة الكرسي الذي كانت تجلس عليه معاد ، وعادت معاد إلى غرفتها ومهامها بعد أن اطمأنت على صحة ورقاء ، وكانت الجدة المسكينة في حيرة من أمرها وتحديد موقفها من معاد ، وقد حدثت ورقاء بتفاصيل الموقف وكيف أنها اضطرت إلى استدعائها وطلب معونتها بعد أن خذلها
( 203 ) ماهر ، وحدثتها بأمانة أيضاً عن الجهود التي بذلت من قبل معاد وأخيها من أجل إنقاذها .
وقالت لها ورقاء بعد ذلك : أنظري يا جدتي إلى البون الشاسع الذي بين أخلاق ماهر ومعاد .
قالت الجدة : نعم ، لقد كانت معاد وأخوها مثالاً للشهامة وتجاوز الذات أما ماهر فقد ظهر زيف دعواه ولكن ...
ثم سكتت الجدة وفهمت ورقاء ما وراء هذا السكوت فسكتت هي بدورها أيضاً وأوكلت الأمور إلى الله الواحد القهار .
وفي صباح اليوم الثاني جاءت معاد وكانت ورقاء قد تحسنت صحتها وجلست على فراشها . ففرحت معاد بذلك وجلست إلى جوارها على حافة السرير وهي تنظر إليها في سعادة .
ثم قالت الجدة : إن لدي ساعة من الوقت أتمكن أن أجلس فيها إلى جوار ورقاء فإذا أردت أن ترتاحي خلال هذه الساعة فتفضلي يا جدتي ، فرحبت الجدة بهذا العرض واستلقت على الأريكة وأدارت وجهها نحو الجدار .
أما ورقاء ، فقد بدأت تشكر معاد على موقفها منها
( 204 ) فقالت لها : أن لك عليّ حق الحياتين الفكرية والجسمية يا معاد فكيف لي أن أفي حقك من الشكر يا أختاه .
قالت معاد : إن هذا واجب كل أخت تجاه أختها يا ورقاء وأنني جد شاكرة لجدتك اتصالها بنا وإلا لكنت ضحية من ضحايا هذه الحمى الحمراء القاسية .
وهنا قالت ورقاء بتردد : جدتي ، نعم ، إنها راضية منكما يا أختاه .
قالت معاد : أنك ما زلت تناديني بنداء الأخوة دون أن تعرفي عني كل شيء يا ورقاء .
فبهتت ورقاء لحظة ثم قالت : ماذا تعنين يا معاد ؟
قالت معاد : أعني أنك ما زلت تجهلين قصة حياتي .
قالت ورقاء : وهل لحياتك قصة خاصة ؟
قالت معاد بصوت لا يخلو من بعض الارتباك : نعم أنها قصة تبدأ منذ كنت أنا وأخي سناد في بطن أمنا .
فردت ورقاء باستغراب : كنت أنت وأخوك حملين في بطن أمكما ؟ هل أنتما توأمان إذن ؟
قالت معاد : نعم ، ولم يتقدمني بالدراسة إلا لأنني مرضت في طفولتي وتركت المدرسة ثلاث سنوات .
قالت ورقاء : آه هكذا إذن ؟
( 205 )
فقالت معاد : ألم تلاحظي الشبه الشديد الموجود بيننا يا ورقاء ؟
قالت ورقاء بشيء من الخجل : الحقيقة أنني لم أركز النظر في وجهه يا معاد .
فابتسمت معاد وقالت : وهذا هو المأول منك يا ورقاء .
قالت ورقاء : والآن . ما هي القصة ؟
قالت معاد : أنها تتعلق بأبي ! وهنا خفق قلب ورقاء وقالت تتعلق بأبيك ؟
قالت : نعم ، فقد توفي قبل أن نرى النور بشهر واحد على أثر حادث اصطدام .
قالت ورقاء بتعجب : مات قبل ولادتكما ؟
قالت معاد : نعم ، ولهذا فقد ولدنا يتيمين !!
وهنا تململت الجدة وكأنها رفعت أذنها عن الوسادة لتسمع بشكل أوضح ، وعادت ورقاء تقول في لهفة : أنتما ولدتما يتيمين ؟
قالت معاد : نعم ، هذا هو الواقع أما الظاهر فهو أننا لم نفقد أبانا إلا قبل سنتين .
قالت ورقاء : لست فاهمة ماذا تعنين يا أختاه ؟
( 206 )
قالت : إذن إليك فاسمعي القصة من بدايتها لقد كان أبي « حمزة عبد الرزاق الرحباوي » رجلاً فقيراً لا يملك من دنياه شيئاً سوى حسن السيرة واعتدال السلوك وطيب السمعة ، ومن أجل هذا اختارته أمي اليتيمة من الأبوين وقدمته على ابن عمتها الشاب المنحرف الغني ، وقد كانت أمي إلى جانب جمالها تملك رصيداً محترماً من المال ورثته عن أبويها ، وعاشت أمي مع أبي إلى مدة لا تتعدى السنتين وكانت أمي قد بلغت من حملها الشهر الثامن عندما توفى أبي ، وبقيت أمي تعاني آلامها وحيدة إلا من عمتها وابنها الذي سبق أن خطبها من قبل ، وقد قدما لها العمة وابنها الكثير من العناية والرعاية حتى حانت ولادتها ، واستمرت العمة تعنى بها العناية الكاملة إلى أن انقضت أيام العدة ، فعرضت عليها العمة أن تتزوج أبنها لكي يكون لها ولولديها والياً وكفيلاً وامتنعت أمي في البداية ، ولكنهما أصرا عليها وقدم هو لها مختلف العهود والمواثيق على أنه سوف يعتدل في سلوكه ويتفرغ لرعايتها ورعاية ولديها ، ولن تجد منه سوى الحب والحنان ، وبما أنها كانت في حاجة إلى من تستند إليه في تربية ولديها وتعتمد عليه في اعداد مستقبلهما فقد وافقت على الزواج مرغمة وبعد مضي فترة وجيزة علمت أنه قد استخرج شهادة ميلادنا باسمه . وبهذا فقد نسبنا إليه ، فأغضب ذلك أمي وأسخطها وثارت عليه ، ونقمت هذا منه ، واعتبرته تعدياً على حقوقنا ومصالحنا ، وكلما حاول إقناعها بأنه قد أنجز ذلك
( 207 ) لمصلحتنا لم تقتنع فأخذتنا وذهبت إلى بيت ابيها المهجور معرضة عنه ساخطة عليه ، فبدأ يبعث إليها بالرسل ويجدد العهود الكاذبة ، ويكتب إليها أرق الكلمات ، حتى عادت مرغمة من جديد .
ونشأنا نحن لا نعرف لنا أباً سواه ، وطالما عجبنا لقساوته علينا مع ما نشاهده من حنان الأبوة لدى الآخرين .
قالت ورقاء بألم : أو كان قاسياً عليكما يا معاد ؟
قالت معاد : نعم وقد نكث بجميع العهود والمواثيق واستولى على أموال أمي فبددها في لهوه ومجونه حتى اعتلت أمي من جراء ذلك وبقيت عليلة حتى توفيت قبل سنوات .
ولما بلغنا سن الرشد حدثتنا أمنا بحديث أبينا وقدمت لنا برهاناً على صحة ما تقول .
وهنا بادرت ورقاء تسأل في لهفة : وما هو البرهان يا معاد ؟
قالت : أنه الرسائل التي كان يكتبها إليها عندما هجرته وفيها يتحدث عن أن نسبتنا إليه من صالحنا وكان يذكر أبانا في رسائله بكل خير ، ثم أنها أرشدتنا إلى أفراد كانوا على علم بنسبنا من قبل ، وهكذا بقينا نعاني مشكلة انتسابنا إليه حاملين معه تبعات أوزاره حتى مات قبل سنتين ، فوجدنا في صندوقه الخاص ورقة مختومة كتب فيها اعترافاً بعدم بنوتنا له
( 208 ) مع ذكر اسم أبينا وتقديم الأدلة على ذلك وكأنه خشي أن يورثنا شيئاً من ماله الحرام فبخل به ، كما أننا وجدنا عنده كثيراً من الأوراق تعود للآخرين لم نتمكن أن نستوعبها ، وقد فتحت أمامنا هذه الوصية طريق المطالبة بتصحيح نسبنا مع الرسائل التي لدينا من أمنا مع الشهود الذين سبق وأن ذكرتهم أمنا ، وسوف تظهر النتيجة خلال هذه الأيام إن شاء الله .
فهل عرفت الآن يا ورقاء من هو أبو سناد ؟
فردت ورقاء تقول بصوت مبحوح من التأثر : آه نعم ( الآن عرفت أباه ) ثم ألقت برأسها على كتف معاد وهي تقول : والآن عدت إليك يا أختاه .
فاحتضنتها معاد وقد تندب عيناها بالدموع وهي تقول :
( ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) .
|