بقيت ورقاء تنتظر عصر اليوم الثاني وما أن اكملت دوامها حتى توجهت إلى معاد فوجدتها تنتظرها عند باب المستشفى حيث قالت لها : إنني ذاهبة إلى البيت وكنت انتظرك لآخذك معي فان عندي بعض الأشغال هناك .
فاستغربت ورقاء وقالت : إلى البيت وأي بيت ؟.
فابتسمت معاد وقالت : بيتنا نحن .
قالت ورقاء في تردد : ومن سوف يكون هناك أيضاً يا معاد ؟
فعادت معاد تبتسم وهي تقول : لا أحد . كوني واثقة من ذلك . سوف نذهب أنا وأنت وحدنا ثم نعود قبل الغروب إن شاء الله .
قالت ورقاء : إذن هيا بنا يا معاد .
قالت معاد : إن بيتنا قريب ولن نحتاج إلى الركوب فتعالي لنتمشى إليه .
( 157 )
وهكذا سارتا معاً حتى وصلتا إلى البيت ففتحت الباب بمفتاح كان معها ووجدت ورقاء نفسها في حديقة صغيرة منسقة وأمام بيت صغير دخلته مع معاد فوجدته بسيطاً في بنائه وأثاثه ولكنه يتميز بالذوق والتنسيق . لم يسعها إلا أن تسأل معاد قائلة : من الذي ينظف هذا البيت يا معاد ؟
قالت معاد : أنني آتي إلى هنا مرتين في الأسبوع حيث أتعهد البيت في العناية والترتيب والتنظيف .
قالت ورقاء : ومن الذي يسكن هنا ؟
قالت معاد : أنه أخي سناد .
قالت : وهل يعيش وحده هنا ؟
قالت معاد بشيء من الألم : نعم فنحن وحيدان في هذه الدنيا .
فتألمت ورقاء لمرارة هذا الجواب واستشعرت أنه صدى لمشاعر معذبة قد تمكنت معاد بقوة شخصيتها من إخفاء معالمها . ولهذا فقد اطرقت في تألم وخشوع ولكن سرعان ما نادتها معاد بصوت مشرق قائلة مالك يا ورقاء ؟ ألا تريدين أن تساعديني في العمل ؟
وكأن هذا الصوت قد أعاد ورقاء إلى وضعها الطبيعي فأبدت استعدادها للمشاركة .
( 158 )
وبهذا تم إنجاز الأعمال بسرعة فاقترحت معاد على ورقاء أن تجلسا قليلاً في ظلال الاشجار فجلستا متجاورتين . وكانت ورقاء تشعر بالسعادة لأنها قدمت بعض المساعدة من أجل معاد ، وكانت أمامها شجرة برتقال صغيرة قد ظهر الثمر فيها لأول مرة فأشارت إليها معاد وهي تقول : هل تعلمين أن هذه الشجرة قد غرزتها بيدي يا ورقاء وبقيت أتعهدها بالسقاية لأنها عزيزة عليّ ولهذا فأنا فرحة لمنظر ثمارها لأول مرة .
قالت ورقاء : إن من حقك أن تفرحي يا عزيزتي فما الطف أن يرى الانسان البذور الذي بذرها وهي تنمو وتزدهر ثم تثمر الثمر المطلوب .
وهنا رانت على وجه معاد سحابة ألم خفيفة ثم قالت : ولكن ما أقسى أيضاً أن يشاهد الانسان بعد ذلك هذه الأشجار التي غرز بذرتها بيديه وتعهد سقايتها بماء عينيه وهي تقتلع عن الأرض بيد لئيمة أو نتيجة زوبعة هادرة عاتية .
فردت ورقاء تقول بألم : آه ، نعم أنه شيء قاس جداً يا معاد ، ولكنني اريد أن أسألك شيئا وهو في خصوص شجرة البرتقال هذه مثلاً ما هو سبب وجودها من الناحية الفلسفية ، البذرة أم أنت ؟
قالت معاد : لا أنا ولا البذرة ، وإنما هو الله تبارك وتعالى وما نحن سوى وسيلة من الوسائل التي هيأها الله لتواجد
( 159 ) الحياة ، فالله عز وجل خلق الكون والحياة وجعل كل ما فيها سبباً من أسباب إيجاد سواه أو الابقاء على ذلك الوجود .
قالت ورقاء : يا لحكمة الخالق المبدع ولا أدري كيف يمكن لأحد أن ينكر وجوده أو ينسب الخلق إلى سواه ؟
قالت معاد : ماذا تقصدين بنسبة الخلق إلى سواه ؟
قالت ورقاء : أقصد هؤلاء الذين يرجعون السبب الأول في خلق الكون إلى المادة والذين يقولون أن المادة ونتيجة لحركتها الأزلية بدأت بإيجاد الأنواع !.
قالت معاد : حتى هؤلاء لو عادوا إلى أنفسهم وفكروا بانصاف لعرفوا أو لاعترفوا بأن الله هو الخالق المدبر ، إذ أنهم يتفقون معنا في المقدمات ويختلفون في النتيجة .
قالت ورقاء في تعجب : يتفقون في المقدمات وكيف ؟.
قالت : أقصد أنهم يؤمنون معنا بأننا لم نكن موجودين ثم وجدنا ، ويؤمنون معنا أيضاً أن وجودنا يحتاج إلى موجد لأن الوجود من العدم محال ، ويشتركون معنا أيضاً من أن الموجد لا بد أن يكون غير موجود من العدم بل هو أزلي في وجوده وإلا فمن الذي أوجده ؟ ثم ولا بد لموجدنا أن يكون مالكاً لكل ما ملكنا إياه وإلا كان ما لدينا موجوداً من العدم والوجود من العدم محال .
إلى هنا تنتهي هذه المقدمات ونعود لكي نرى ماذا يقول الالهيون عن هذا الموجد ؟
قالت ورقاء : انهم يقولون أنه الله تبارك وتعالى .
قالت معاد : نعم ، أما الماديون فيقولون أنه المادة ونتيجة لحركتها الأزلية ، ونحن هنا يمكننا أن نسأل هؤلاء الذين يوعزون خلق الكون إلى المادة وحركتها الأزلية نسألهم متى بدأت المادة تتنوع نتيجة لحركتها الأزلية كما يقولون ؟ وأنها إذا كانت أزلية فكيف يمكن لنا أن نعرف بدايتها لأن الأزلي ليس له بداية ؟.
قالت ورقاء : انهم لن يجيبوا على هذا السؤال لعدم تمكنهم من وضع بداية لما يدعونه أزلياً وهو المادة وحركتها .
قالت معاد : وعندما لا نجد منهم جواباً لعدم تمكنهم من وضع بداية للأزلي نلتفت إلى العلم لنسأله عن عمر الأرض فنجده يقول : أن الأرض انفصلت عن المجموعة الشمسية منذ ألفي مليون عام ، وإن تكامل برودتها استغرق ألف مليون عام حيث أنها بعد ذلك بدأت فيها بوادر تصلح للحياة .
قالت ورقاء : إذن فإن للحياة بداية محددة.
قالت معاد : نعم وبعد الاستماع إلى هذه الحقيقة العلمية نعود إلى أزلية الحركة لنقول : أنها إذا كانت أزلية فإن معنى ذلك أن خلقها للأنواع أزلي أيضاً .
( 161 )
وقالت ورقاء باستنكار : إذن كيف أمكن للعلم أن يحدد عمر الكون ؟.
قالت معاد : إن هذا هو السؤال الذي نريد أن نطرحه عليهم يا ورقاء ، إن كيف أمكن للعلم أن يحدد عمر الكون ؟.
قالت ورقاء : هبيهم يقولون أن الحركة ليست أزلية وأنها أي الحركة قد دخلت على المادة وأضيفت إليها ؟.
قالت معاد : عند هذا نعود لنسألهم من الذي أوجد هذه الحركة ؟ هل أن المادة هي التي أوجدتها ؟ ولكن كيف توجدها بدون حركة مسبقة وهم يقولون أن عملية الايجاد والخلق هي نتيجة الحركة في المادة ؟ هذا إذا قالوا أن حركة المادة غير أزلية .
قالت ورقاء : لنفرض أنهم قالوا أن الحركة أزلية ولكن المادة وقتت لها زمن الخلق ؟
قالت معاد : هذا أمر غير معقول لأن التوقيت والتحديد لا يصدر إلا عن عاقل والمادة غير عاقلة .
قالت ورقاء : كيف يمكن لنا أن نثبت كون المادة غير عاقلة ؟
قالت معاد : لأن العلم أثبت أن المادة تتكون من شحنات كهربائية . ولهذا فهي غير قابلة للتفكير والتعقل ، فلا
( 162 ) يبقى بعد هذا إلا أن تكون المادة خاضعة لعلة توقت وجودها وحركتها وهذا هو ما يقوله الالهيون .
قالت ورقاء : هبيهم يقولون أن تأخر بداية الكون إنما كان بانتظار استكمال المقدمات ، تماماً كالمسافر يتأخر أربع ساعات بعد الظهر يقضيها في تهيئة المقدمات وضبط الحقائب فكذلك كانت المادة وحين استكملت المقدمات نشأت الحياة ؟
قالت معاد : إذا قالوا هذا فنحن نقول لهم : لماذا إذن لم تكتمل هذه المقدمات في زمن سابق ؟
قالت ورقاء : هبيهم قالوا أن الكون سوف يجيب على ذلك كما يجيب المسافر إذا سئل لماذا لم تسافر قبل الرابعة فهو يقول أن المقدمات أخذت من وقته أربع ساعات ولو كان قد بدأ بالمقدمات قبل الظهر لسافر قبل الرابعة ، وكذلك الكون فقد فرضت عليه المقدمات فترة زمنية فلم يتح له أن ينشىء الحياة إلا في اللحظة المحدودة وهي قبل ألفي مليون عام ؟
قالت معاد : ولكن هذا الجواب الذي يقوله المسافر بكل سهولة لا يمكن للكون أن يقوله .
قالت ورقاء : لماذا ؟.
قالت : وذلك لأن أي زمن يفترض أن المقدمات بحاجة إليه فهو موجود فعلاً لديه من خلال حركته الأزلية على ما يدعون ، وإنما يصح هذا الجواب من الكون إذا كان قد بدأ
( 163 ) حركته وتهيئة المقدمات بنفس الطريقة التي بدأها المسافر ، أي إذا كانت حركته حادثة فإن زمن الحركة يكون محدوداً ، وإذا كان محدوداً فقد يعتذر عن عدم الاسراع بظهور الحياة بأن ظهورها في وقت أسبق كان يتطلب فترة زمنية أبعد .
قالت ورقاء : شكراً لك يا أختاه ، وبالمناسبة فهل تعلمين أنني أنقم على الزمن أحياناً ؟.
قالت معاد : أي حين هو هذا الذي تنقمين فيه على جلستنا هذه .
قالت ورقاء : عندما ينقضي بسرعة كما انقضى علينا في جلستنا هذه .
فضحكت معاد وتطلعت إلى ساعتها ثم قالت : يبدو أنك قد تأخرت أكثر مما ينبغي والآن هيا بنا لنذهب .
وقالت ورقاء : لقد شعرت بالراحة في جلستنا هذه بشكل لم استشعره في المستشفى من قبل .
قالت معاد : سوف آتي بك معي في كل مرة لكي نتخلص هنا ولو إلى فترة قصيرة من أجواء المستشفى الكئيبة .
|