استمرت ورقاء تزور معاد بين حين وحين دون أن تعرف جدتها بذلك أو تشك فيه وفي يوم من الأيام عادت متأخرة قليلاً فوجدت جدتها مكفهرة الوجه متوترة الأعصاب وبادرتها قائلة بعنف : أين كنت يا ورقاء ؟
( 149 )
فخمنت ورقاء أن جدتها قد علمت بأمر زيارتها لمعاد ولهذا آثرت المماطلة إلى أن تعرف الواقع .
فقالت : ولماذا تسأليني يا جدتي ؟
قالت الجدة بحدة : لكي أعرف هل أنت قادمة لتوك من الكلية ؟
وحدثت ورقاء نفسها قائلة عليّ أن أقول الصدق مهما كانت النتائج وينبغي أن أواجه الواقع بشجاعة ولهذا ردت تقول : كلا .
قالت : إذن أين ذهبت ؟
قالت : لقد مررت على المستشفى.
عند ذلك انفجرت الجدة تقول : أنك مررت على معاد أليس كذلك ؟ اعترفي يا ورقاء ولا تغالطي في الحقيقة ؟ لقد كنت أحسبك أعقل من هذا ، كيف تسمحين لنفسك بابنة قاتل أبيك ، أنها خيانة منك يا ورقاء .
فردت ورقاء بهدوء قائلة : ولكن من أين عرفت ذلك يا جدتي ؟
قالت لقد اتصلت إحدى صديقاتك تسأل عنك وقالت إنك توجهت إلى البيت منذ مدة . ومن هنا عرفت أنك قد ذهبت إلى معاد .
( 150 )
قالت ورقاء : وماذا في ذهابي يا جدتي ؟ أنني رفضت سناد لكي لا أرتبط في حياتي الزوجية مع ابن قاتل أبي . أما أن أقطع علاقتي وصداقتي مع معاد فان هذا ما لا يمكن أن يكون لأنني محتاجة إليها فكرياً وروحياً ولا أرى في ذلك أي دليل من أدلة الخيانة .
وهنا ألقت الجدة آخر ما لديها من سهام حيث قالت : أنك لا تعنين معاد فيما تقولين ولكن من يهمك هو أخوها ، فقد عرفت من الممرضات أنه جميل وجذاب وقد انخدعت بجماله يا ورقاء .
فردت ورقاء بصوت متهدج قائلة : أنك تظلمينني يا جدتي لا تبالغي في القسوة عليّ فأنني لم أره إلا مرتين عن طريق الصدفة فقط ، فلا تنسجي من حولي أفكاراً مريبة يمليها عليك عالم الخيال.
وفي عصر اليوم الثاني كانت معاد تنتظر ورقاء في موعدها المحدد ، ولما حضرت اليها لاحظت عليها شيئا من الشحوب ولما سالتها عما بها ..
قالت : أنه من تأثير السهر الذي تفرضه عليها الدراسة . فلم تقتنع معاد بهذا الجواب ولكنها أظهرت الاقتناع . وكانت ورقاء متعجلة أكثر من عادتها ولهذا بادرت تقول :
أنني ما زلت أنتظر حديثك عن التجربة يا معاد .
( 151 )
قالت معاد أراك متعجلة اليوم يا ورقاء فهل هناك من جديد ؟
فترددت ورقاء قليلا ثم قالت : كلا ، ليس هناك من جديد .
قالت معاد : إذاً فلنبدأ بالحديث .
قالت : نعم فأنني مشوقة إلى تكلمة ما شرحتيه لي حول التجربة .
قالت معاد : أن التجريبيين يقولون عن القضايا التصديقية أنها لا يمكن أن يعترف بها دون تجربة مسبقة أليس كذلك ؟
قالت ورقاء : ولكنني أريد أولاً تعريفاً للقضايا التصديقية .
قالت : أن القضايا هي كل قضية صادقة يصدقها الانسان ويؤمن بصحتها ، هذا هو التعريف المختصر للقضايا التصديقية ، والحقيقة أن كل تصديق يحتاج ويعتمد على تصديق قبله ، والتصديق الذي قبله يحتاج إلى تصديق قبله ولكن لا يمكن أن تتراجع هكذا باستمرار من تصديق إلى تصديق دون أن نصل إلى بداية ، وإلا كان معنى هذا أننا لن نحصل على أي معرفة أو تصديق أساساً .. فظهر على وجه ورقاء الاهتمام البالغ وتساءلت : كيف ؟.
( 152 )
قالت معاد : افترضي أنك تريدين أن تتعرفي على بنت معينة وحسن سلوكها وأنها ثقة فماذا تصنعين ؟
قالت ورقاء أسأل بعض رفيقاتها عنها.
قالت معاد : ولكن كيف تعرفين هذه الرفيقة لكي تسألي منها فقد لا تكون معرفتك بها إلا عن طريق شهادة من أخرى ، ولكن أليس من المنطقي أن تنتهي هذه الشهادات عند شاهدة تعرفينها مباشرة لكي تكون هذه هي البداية لانطلاقك إلى التعرف على الآخريات .
قالت ورقاء : هذا صحيح بالضبط .
قالت معاد : وهذا ما نقوله بالنسبة إلى المعارف التصديقية للانسان عموماً ، فأنها لا بد لها من بداية تعتمد عليها ، وهذه البداية لا بد أن تكون معروفة لنا بصورة مباشرة وبدون أي تجربة واستدلال .
قالت ورقاء : أذكري لي مثالاً من هذه المعرفة المباشرة .
قالت : مثله أن نقول أن بعض الكتاب أصغر من مجموع الكتاب ، فنحن لو ادعينا هذا ثم قال لنا قائل : من أين عرفتم أن بعض هذا الكتاب ، هو أصغر من مجموع الكتاب ؟ وهل لديكم تجربة أو دليل يثبت ذلك ؟ لقلنا أن هذا أمر بديهي لا يحتاج إلى تجربة ودليل . إذ أن مجرد قولنا بعض يعني إيماننا بوجود بعض وكل وأن البعض أصغر من الكل .
( 153 )
قالت ورقاء : وإذا قالوا أنه ما دامت المعارف البديهية لا تحتاج إلى تجربة مسبقة ويتمكن العقل المجرد عن التجربة أن يشخصها فلماذا لا يدركها الانسان منذ الطفولة ما دام العقل معه منذ الطفولة ولماذا لا يبقى يدركها حتى ولو رد إلى أرذل العمر ؟
قالت : عند ذلك نقول لهم أن الادراك على مرحلتين : إدراك تصور ، وإدراك تصديق .
قالت ورقاء : عرفي لي الادراكين بالأمثلة من فضلك يا معاد .
قالت : الادراك التصويري كأن نتصور الماء ، والسماء ، والشمعة ، والزهرة ، والذهب ، والفضة ، وهذا هو الذي يولد عند الانسان نتيجة لوجود أحاسيسه التي تساعده على التصور .
قالت ورقاء : ولكننا قد ندرك في تصوراتنا أشياء غير ممكنة كأن نتصور بحراً من زئبق ، أو جبلاً من ذهب .
قالت معاد : وهنا يأتي دور الادراك التصديقي وهو إثبات صحة تصوراتنا وانطباقها على الواقع . ولكن الادراك التصديقي الذي نعتمد عليه هنا يعتمد هو بدوره على الادراك التصوري أيضاً .
( 154 )
قالت ورقاء : كيف ؟ ولماذا ؟
قالت : لأنه ليس من الممكن ادراك شيء والتصديق له دون تصوره بشكل مسبق لهذا الادراك ، فنحن مثلاً لا يمكن لنا أن نصدق بوجود النخلة دون أن نتصورها .
قالت ورقاء : إذن فأن الادراك التصديقي يعتمد على الادراك التصوري ؟
قالت معاد : نعم ولهذا نجد أن الطفل لا يتمكن ان يدرك حقائق تصديقية فوق مستوى ادراكه التصوري لمحدودية ادراكاته التصورية وسطحيتها ، وهكذا نعرف أن الطفل أو الانسان الذي يرد إلى أرذل العمر لا يتمكن أن يدرك القضايا البديهية .
قالت ورقاء : لشد ما أحس بالراحة عندما استمع إلى حديثك يا معاد ، أرجو أن لا يفارقني الله عنك يا أختاه .
قالت معاد بعد شيء من التردد : نعم أرجو ذلك يا ورقاء .
قالت ورقاء : بودي لو جلست معك أكثر ولكن عليّ الآن أن أذهب .
فردت معاد تقول : إذهبي بحراسة الله ولكن لا تنسي موعدك غداً إن شاء الله .
* * *
( 155 )
وعادت ورقاء إلى البيت فوجدت الجدة متجهمة الوجه وقد ردت سلامها باقتضاب ، فانحنت على يدها تقبلها وهي تقول : أرجوك أن لا تغضبي عليّ يا جدتي لأنني أذهب إلى زيارة معاد ، سامحيني من هذه الناحية وسوف أطيعك في كل شيء عداها .
فرفعت الجدة رأسها وقالت بتحد : تطيعينني بكل شيء ؟.
قالت : نعم بكل شيء عدى قطع علاقتي مع معاد .
قالت الجدة : أقسمي على ذلك إذن ، اقسمي أن تطيعيني بكل شيء مهما كان .
فكادت ورقاء أن تقسم لولا أن خطر لها خاطر أوحاه اليها تحفز جدتها فشحب وجهها قليلاً ثم قالت : كلا أنني لا أقسم ويكفي أن أعطيك عهداً على ذلك .
قالت الجدة : وأن يكون عهد شرف يا ورقاء .
قالت ورقاء : نعم أنه عهد شرف ...
فانفجرت أسارير الجدة وقبلت حفيدتها وعادت إلى وضعها الطبيعي ولكنها حدثت نفسها بعد ذلك قائلة : لقد أعطتني ورقاء عهداً أن تستجيب لي في كل شيء ولهذا سوف تضطر لقبول قراري الذي اتخذه عند خطبة ابن عمها ماهر لها ، هذا المسكين الذي أجلت أنا خطبته منذ السنة الماضية
( 156 ) بانتظار أن تكمل دراستها ، وقد بدأ يستعيد الموضوع من جديد ، أنه شاب غني ومثقف وإذا كان غير ملتزم دينياً فهي سوف تهديه للالتزام ، وبهذا تنقطع علاقتها مع معاد بشكل نهائي.
|