وهكذا بقيت ورقاء تنسخ تصوراتها المشرفة حتى استيقظت الجدة من نومها فنهضت نحوها وقدمت إليها ما كانت تحتاج إليه ثم جلست إلى جانبها تحاول أن تخبرها بما تحدثت به معاد فقالت :
لقد كانت الدكتورة معاد هنا يا جدتي .
قالت الجدة باقتضاب : طبيب ...
فأردفت ورقاء تقول : وقد تحدثت معي في موضوع خاص .
وهنا نظرت الجدة نحوها باهتمام وقالت : موضوع خاص وما هو ؟
قالت ورقاء في تلعثم : أنه موضوع خطبة .
قالت الجدة في شبه حدة : وما أنت وذاك ؟
قالت : انه أمر يخص أخاها يا جدتي .
فأجابت الجدة بنفس الشدة القائلة : وما هي علاقتك بأخيها ؟
فاستغربت ورقاء هذه الشدة من جدتها وقالت : أنها كانت تعرض عليّ خطبتي لأخيها يا جدتي .
وهنا ظهر الرعب على وجه الجدة وقالت : وبماذا أجبت يا ورقاء ؟
فارتبكت ورقاء وقالت : لقد ارجأت الأمر إلى ما بعد مشورتك يا جدتي .
فأدارت الجدة وجهها نحو الجدار وهي تقول : كلا أن هذا أمر لا ينبغي أن يكون أبداً ، أنه غير ممكن يا ورقاء ...
فانتفضت ورقاء انتفاضة ألم وقالت : لماذا يا جدتي ؟ فسكتت الجدة ولم تجب .
( 131 )
فألحت عليها قائلة : لماذا تقولين لي أن هذا شيء غير ممكن ؟ ولكن الجدة بقيت معتصمة بالصمت .
فأردفت ورقاء تقول : أرجوك يا جدتي أن تشرحي لي السبب لأنني مقتنعة بالموضوع اقتناعاً كاملاً .
ولكن الجدة استمرت ساكتة لا تجيب . فعادت ورقاء تقول : لماذا لا توضحي لي الأمر يا جدتي ؟ فلعلك مخطئة في تشخصيك هذا ؟
وهنا هزت الجدة رأسها في اصرار وهي تقول : كلا فأنني لست مخطئة وأنا أعرف ماذا أقول يا ورقاء ، وها أنا أقول لك من جديد أن تنصرفي عن التفكير في هذا لأنه لا يمكن أن يتم . ولهذا فأنا لا أريد أن تعودي إلى ذكره ثانية .
فسكتت ورقاء لحظات ثم قالت : ولكن أليس من حقي أن أعرف السبب فليس من السهل عليّ أن أحدد مستقبلي نتيجة أمر لا أعرف منشأه .
وهنا قالت الجدة : نعم أن من حقك ذلك يا ورقاء فهل أنت مستعدة للسماع ؟
قالت ورقاء : وراغبة فيه أيضاً .
قالت : ولكنك بعد سماع ما أقول سوف يتحتم عليك أن تقطعي علاقتك مع معاد أيضاً .
( 132 )
فردت ورقاء في ذعر قائلة : أقطع علاقتي مع معاد وكيف لي بذلك وقد أصبحت بالنسبة لي ضرورة من ضرورات الحياة ؟
قالت الجدة : إذن فلماذا تريدين أن أقول ؟
فسكتت ورقاء لحظة ثم قالت : قولي ما لديك يا جدتي فأنا على استعداد لاستماعه مهما كان .
قالت الجدة : إذن فاسمعي ماذا أقول . إنك تعلمين أن أباك قد توفي وأنت صغيرة .
فخفق قلت ورقاء بشدة وقد توقعت أن تسمع أحاديث غير مريحة ثم قالت : نعم أنني أعلم ذلك .
قالت الجدة : ولكنك لا تعلمين السبب في وفاته .
قالت : كلا . ولا أعرف سبباً لموته سوى حياته.
قالت الجدة : كان هناك رجل تعرف إليه وفرض عليه صداقته واستأثر بثقته حتى اتفقا أن يعملا معاً فأقاما معملاً لصنع الأواني البلاستيكية ، وتم إنشاء المعمل وكان أبوك سعيداً بذلك مرتاحاً إلى عمله فيه ، محدثاً نفسه بالكثير من المشاريع ، وقد اتفقا أن يكون المال من أبيك والعمل على ذاك لم إدعاه من خبرة مسبقة في الموضوع ، ولم يكن أبوك يملك المال المطلوب فأراد أن يبيع نصف الأرض الزراعية التي يملكها ولكن النصف كان أقل من المقدار المسموح به للبيع
( 133 ) في ذلك العهد ، ولهذا فقد اشترى الاقطاعي حامد أفندي نصف الأرض على أن يكتبها جميعها باسمه وأن يعطيه نصف المحاصيل عن تراض وأن يكون له حق استرجاعها بالقيمة التي باعها متى ما أراد ، وأنت تعلمين استغلال حامد أفندي وجبروته في هذه المعاملات ولهذا فلم يكن في وسع أبيك أن يبيعها لسواه وهي ضمن الأرض التي تقع تحت سيطرته.
وكان نصف الأرض هذا لا يكفي بمتطلبات المعمل ولهذا فقد رهن هذا البيت عند حامد أفندي أيضاً على أن يستوفى ذاك حقوق الرهن من محاصيل نصف الأرض التي في حوزته.
وعلى كل حال فقد تم إنشاء المعمل ، وكان هو وصاحبه يتناوبان على حراسة المعمل في الليل.
وفي صباح يوم من الأيام ذهبت إلى المعمل مبكرة لحاجة عرضت لي فوجدت الناس مجتمعين على باب المعمل وسيارات الشرطة تقف أمام الباب ، فاندفعت إلى الداخل مرعوبة وهناك عرفت أن أول عامل دخل المعمل وجد أباك جريحاً مضرجاً بدمائه وقد أغمي عليه ويبدو أن القاتل كان قد حسبه ميتاً .
فدخلت الغرفة حيث كان رجال الشرطة يدرسون الموقف وشريكه واقف يبكي بدموع التماسيح فانحنيت عليه ألتمس منه نفساً أو كلمة ، وسرعان ما تم نقله إلى المستشفى فذهبت معه إلى هناك واتفق أن كنت إلى جانبه وحدي وإذا به يفتح
( 134 ) عينيه وينظر إليّ ثم قال أنه فلان ، ثم أغمض عينيه إلى الأبد.
وسكتت الجدة وقد تهدج صوتها من التأثر .
فسألتها ورقاء من خلال دموعها التي انهمرت لتأثرها من حديث جدتها سألتها قائلة بلهفة : وما هو الاسم الذي ذكره يا جدتي ؟
قالت : إنه عبد المجيد محمود الراجي !
فصدرت عن ورقاء آهة جريحة وقالت معيدة كلمات جدتها : عبد المجيد محمود الراجي ؟ والد معاد وسناد ؟
قالت الجدة : نعم ، انه هو ، وقد أدليت بشهادتي في وقتها ولكنها لم تكف وقد أثبت بعده عن مسرح الجريمة بمختلف وسائل الغش والخداع فسجلت الحادثة على أنها حادثة قتل في سبيل الاختلاس من قبل مجهول .
قالت ورقاء : وهل حصل اختلاس أيضاً .
قالت : طبعاً . وقد اختلس مع المال الذي كان موجوداً في الصندوق الحديدي هناك الأوراق الرسمية للاتفاق الذي بينهما ، والأوراق التي تخص بيع نصف الأرض وحق استرجاعها وأوراق تصفية حساب رهن هذا البيت ، وهكذا خسرنا كل شيء حتى حق المطالبة بأرضنا ، وحق ملكية هذا البيت فإن لدى حامد أفندي أوراق رسمية تؤيد حقه في
( 135 ) الأرض والرهان ، في الوقت الذي لا نملك نحن ما يؤيد الاسترجاع ، وما صبر علينا كل هذه المدة إلا لغاية لا يعلمها إلا الله .
وقد كنت أعرف أن لدى عبد المجيد هذا توأمان باسم سناد ومعاد ولهذا سألت معاد عن اسم أبيها فتجاهلت السؤال . ولكنني بعد ذلك عرفت اسمه من الممرضات فهل تجدين أن من الممكن لك أن تتزوجي ابن قاتل أبيك يا ورقاء ؟.
فأجابت ورقاء في مرارة قائلة : كلا سوف لن أتزوجه يا جدتي ولكنني لن أقطع علاقتي مع معاد .
قالت هذا وقد بللت الدموع وجهها وهي تفكرفي معاد أكثر مما تفكر في سناد .
مر اليوم كئيباً حزيناً على ورقاء . وفكرت كثيراً وهي تحدث نفسها قائلة : ولكن أي ذنب له ولها في الموضوع ؟ لنفرض أن أباهما مجرم فهل يحق لنا أن نأخذهما بجريرته ؟ كيف سوف أرد على معاد ؟ وبأي حجة سوف أرفض أخاها ؟ أتراني سوف أحدثها بالحقيقة ؟ ولكن هل يجوز لي نبش الماضي ووصم هذين الأخوين الطاهرين بمثل هذه الوصمة ؟ لعلهما يجهلان ماضي ابيهما فكيف لي أن أكشف لهما ما يجهلان ؟.
( 136 )
وصممت أخيراً أن تبقى على علاقتها مع معاد وقد تذكرت موعدها معها في يوم غد . وانتظارها لشرح ما طلبته منها فزاد شعورها بالخسارة وبصعوبة الانقطاع عنها ، وهكذا قضت يومها وليلتها في شدة من الحيرة والألم .
وأشرق عليها الصبح بعد ليلة ما نامت خلالها إلا القليل وإذا بها تجد جدتها وقد صممت على ترك المستشفى بأي حال من الأحوال ، وكلما حاولت أن تثنيها عن ذلك ألحت تلك وألحت حتى رضخت لرغبتها وجمعت ما لديها من حوائج ثم طلبت من جدتها أن تؤجل الخروج إلى حين إخبار الطبيب المختص .
ولكن الجدة كانت مندفعة إلى الخروج فلم توافق على التأجيل وكأنها كانت تريد أن تبتعد بورقاء عن طريق معاد بأسرع وقت خشية أن تضعف ورقاء أمام الاغراءات .
وعندما يئست ورقاء من التأجيل ذهبت تسأل عن معاد وهي لا تعلم ماذا سوف تقول لها ولكنها كانت تريد أن تراها بأي شكل من الأشكال ، وفوجئت عندما علمت أن معاداً مجازة خلال ذلك الصباح فاحتارت ماذا تصنع ؟ وهل يمكنها أن ترحل عنها هكذا وبدون كلمة وداع ؟ وما أبعد هذا عن أحاسيس الوفاء وعرفان الجميل وما أبعده أيضاً عن عهود الأخاء التي أبرمتها لمعاد ؟ ثم خطر لها أن تترك لها ورقة فكتبت سطوراً جاء فيها ما يلي :
( 137 )
عزيزتي معاد :
لا أدري ماذا أقول ؟ وأنا أواجه دوامة لا سبيل لي بالنجاة منها ، وها أنا راحلة مع جدتي التي فرضت عليّ هذا الرحيل ، يبدو أن الله عز وجل شاء أن يطردني عن فردوسه بعد أن وجدت السبيل اليه . سوف أتركك بقلب باك لأواجه المستقبل المجهول وأنا وحيدة مهيضة الجناح ، سوف أعود ثانية إلى الضيعة الفكرية والحيرة النفسية فليرحمني الله ، وأرجو أن لا تغضبي عليّ فإن هناك ما يفرض عليّ هذا التصرف أما أخوك فأرجو من الله أن يبدله بخير مني وما رفضته لمنقصة فيه ولكن هكذا شاء الله ، وإذا رأيت أنني ما زلت استحق أخوتك فاكتبي لي على عنوان صديقتي وهو ... زقاق ... رقم الدار ... ثم طوت الرسالة وسلمتها لاحدى الممرضات لكي تسلمها إلى معاد عند عودتها ورجعت إلى جدتها لتتوجه معها إلى البيت .
تعاقبت الأيام بطيئة وثقيلة بالنسبة إلى ورقاء فقد ساءت صحة جدتها على أثر الحركة وبعدها عن الطبيب وبقيت هي موزعة بين تمريضها ودروسها وباقي الالتزامات إضافة إلى فكر حزين يلازمها ، وحنين إلى معاد لا يفارقها ، وحاجة إلى فهم جديد تلح عليها ، وكثيراً ما لاحظت الجدة على عينيها آثار الدموع فعز عليها ذلك ولكنها تجاهلته واعتبرته ضرورة
( 138 ) كان لا بد منها ، وبعد مرور أكثر من عشرة أيام سلمتها صديقتها رسالة تحمل طابعاً داخلياً .
فخفق قلب ورقاء وتساءلت مع نفسها قائلة :
أتراها من معاد ؟
أتراها لم تنكر عليّ موقفي منها ؟
ثم سارعت إلى فتحها وألقت نظرة عجلى على الاسم فوجدتها من معاد ، فاتنحت جانباً وقرأت الرسالة فوجدت فيها ما يلي :
عزيزتي ورقاء :
سلام الله عليك ورحمته وبركاته وسلامي وأشواقي وصادق دعائي وأخائي ... ها أنا أكتب إليك بعد أن تخلصت من آثار المفاجأة التي أملتها عليّ سطورك وكم عز عليّ ذهابك دون أن أطبع على جبينك قبلة أخاء صادق . وقبل أن تعرفي بأن معاداً ليست تلك التي تتنازل عن اخوتك بسهولة ، لقد وجدتك يا ورقاء كالزهرة العطرة التي وجدت لتتفتح فتنشر من حولها الأريج ، ولتعطر بعطرها أجواء الربيع . ولكنها افتقدت اليد التي تسقيها الماء ، ولم تحصل على الظل الذي يحميها من وهج الشمس ، فقبعت في أكمامها وهي تنتظر الذبول ، قبل أن تتفتح وتؤدي رسالتها في الحياة .
وجدتك هكذا يا ورقاء وأحسست بروحك وهي تناديني
( 139 ) اليها طالبة مني السقاية والحماية وسمعت نداء الواجب يدعوني للاجابة . ففقتحت لك قلبي ، ومددت نحوك يدي ، وعرضت عليك أخوتي فوجدت عندك الاستجابة المطلوبة والتجاوب الذي أقر عيني.
ثم اخترتك لتكوني قرينة أخي الذي هو أهم شيء عندي ، ثم وفجأة ، وبدون سابق إنذار ، وجدتك تختفين ولا تخلفين وراءك إلا بضعة سطور ، ولا أكتمك بأن المفاجأة لم تكن بسيطة بالنسبة إليّ ، ولهذا فقد أقعدتني آثارها عن المبادرة في الكتابة .
أما الآن وقد عدت إلى نفسي وجدت أن عليّ الا أدع أواصر أخوتنا تتقطع هكذا ، وبسهولة ، ولهذا فها هي سطوري بين يديك تحدثك عني وتقول لك بأنني ما زلت أختك في السراء والضراء . وأنا لا أريد أن أسألك عن السبب في كل ما حدث لكي لا أحرجك وإحراجك مما يعز عليّ كما تعلمين ، وإذا أردت مراسلتي فإن ذلك ممكن على عنوان المستشفى ، هذا واستودعك الله الذي لا يخون الودائع .
|