استمرت معاد تزور المريضة في كل يوم الشيء الذي شد أواصر العلاقة بينها وبين ورقاء ، سيما وأن ورقاء كانت تستفيد منها فكرياً فيضاعف ذلك من إعجابها وحبها لمعاد ، ولكن فجأة مر يوم ويومان دون أن تزور معاد غرفة المريضة جدة ورقاء ، وفي اليوم الثالث عندما مرت عليهم الدكتورة عبير سألتها ورقاء هل أن الدكتورة معاد مجازة منذ يومين ؟
قالت : كلا ولكنها مريضة !
فندت عن ورقاء آهة تألم وقالت :
مريضة ؟ ولكن أين هي في البيت أم في المستشفى ؟
قالت : أنها في المستشفى ثم انصرفت لكي لا تفسح الطريق لسؤال جديد .
وبقيت ورقاء في قلق حائرة فهي تود أن تذهب إلى معاد ولكنها لا تعرف كيف ؟ وهل يمكن لها ذلك ؟
( 104 )
وبعد ساعة دخلت الممرضة المسؤولة فسألتها عن معاد فقالت : أنها مريضة منذ يومين .
قالت وهل يمكن عيادتها في غرفتها ؟
قالت الممرضة : أنها ليست في غرفتها.
قالت ورقاء : أين هي إذن ؟
قالت أنها نقلت إلى الغرفة المقابلة لغرفتكم من الجهة الثانية.
فردت ورقاء في فزع قائلة : آه أنها مريضة جداً إذاً !!
فردت الممرضة : أنها مصابة بانفلونزا حادة ولهذا ومن أجل صحتها ووقاية لقسم الطبيبات من العدوى رجح الطبيب نقلها إلى غرفة العلاج .
فأطرقت ورقاء تفكر في مرض معاد بألم ثم قالت :
ليتني اتمكن أن أذهب لعيادتها .
قالت الممرضة : وماذا يمنعك من الذهاب ؟
قالت : جدتي كيف أتركها وأذهب ؟.
قالت الممرضة : ان جدتك بخير وسوف أمر عليها أنا خلال فترة غيابك عنها .
قالت ورقاء : ولكن متى يمكنك الحضور ؟
( 105 )
قالت : بعد الثانية عشر ظهراً .
فشكرتها ورقاء وبقيت تنتظر ساعات بعد الظهر على لهفة وقلق حتى حان الوقت فتوجهت نحو غرفة معاد وطرقت الباب بهدوء خشية أن تكون المريضة نائمة ، وفوجئت أن وجدت شاباً يفتح لها الباب ، فارتبكت وحاولت أن تتراجع ولكن مظهر الشاب الوقور بعث في نفسها شيئاً من الثقة فسلمت ثم قالت : كيف حال الدكتورة معاد ؟
فأفسح الشاب لها الطريق قائلا : تفضلي اليها فهي مستيقظة .
فدخلت ورقاء تمشي بخطوات مرتبكة ولاحظت أن الشاب خرج من الغرفة وأغلق الباب وراءه فقالت في نفسها : لا شك أنه الطبيب ، ثم مشت إلى حيث ترقد معاد على السرير ، فانحنت نحوها تحييها بعطف وتسأل عن صحتها بلهفة ، فوجدت الحمى لديها مرتفعة وسمعت أنيناً خافتاً يصدر عنها ، الشيء الذي آلمها جداً فنادتها بصوت خافت قائلة :
دكتورة معاد ! دكتورة معاد ! كيف أنت يا أختاه ؟ فحاولت معاد أن تبتسم وأجابت بصوت واهن :
أرجو أن أكون بخير ، كيف هي جدتك يا ورقاء ؟
قالت : أنها بخير تسلم عليك وتدعو لك بالصحة .
( 106 )
ثم جلست ورقاء إلى جوار المريضة ولاحظت أن معاداً مستغرقة في بحران من الحمى ، وأن غدائر شعرها مبعثرة على الوسادة مع حمرة قانية تصبغ وجهها الجميل الذي كانت تراه بدون حجاب لأول مرة ، فودت لو تمكنت من مساعدتها بأي ثمن .
ومضت الدقائق طويلة ومتعبة وهي جالسة إلى جوار المريضة يعز عليها أن تذهب وتتركها وحيدة ، ومن ناحية ثانية كانت تحس بالقلق من أجل جدتها المريضة ولا تتمكن أن تتأخر عنها أكثر من هذا.
ثم فتحت معاد عينها ورأت ورقاء ما زالت إلى جوارها فقالت لها بصوت متقطع : لماذا أنت ما زلت هنا يا ورقاء ؟ عليك أن تعودي إلى جدتك المريضة يا عزيزتي .
قالت ورقاء : ولكن كيف أتركك وحدك يا معاد ؟
قالت معاد : أنني لست وحدي يا ورقاء نادي لي أخي إذا خرجت .
قالت ورقاء : وأين أجد أخاك يا معاد ؟
قالت أحسبه في غرفة الاستعلامات ، فظهرت الحيرة على ورقاء وقالت :
ولكن ما هو اسمه ؟ أقصد كيف أتمكن أن أعرفه فأستدعيه ؟
( 107 )
فابتسمت معاد رغم حالها وقالت : ان اسمه سناد وهو الذي فتح لك الباب .
قالت ورقاء : آه لقد حسبت أنه الطبيب.
قالت معاد : صحيح أنه الطبيب كما خمنت ولكنه أخي في الوقت نفسه ولولا ذلك لما كنت أمامه هكذا.
قالت هذا وأشارت إلى خصلات شعرها المبعثرة .
قالت ورقاء : لقد حسبته طبيباً غريباً حين رأيته قد خرج ولم يعد.
قالت معاد : لقد خشي أن يضايقك بوجوده ولهذا خرج .
وهنا قامت ورقاء وقبلت معاد متمنية لها الشفاء وخرجت من الغرفة متوجهة إلى غرفة الاستعلامات ، وكانت تشعر بالحراجة لهذه المهمة ولكنها وجدته أمام الغرقة وقد لاحظ انصرافها دون أن تقول له شيئاً وبذلك تخلصت مما كانت تستشعره من إحراج وذهبت إلى جدتها مسرعة فوجدتها ما زالت نائمة فجلست إلى جوارها تقرأ ولم تطل مع الجدة سنة النوم إذ فتحت عينها ونظرت إلى ورقاء فسألتها ورقاء عن راحتها فردت قائلة بارتياح :
أنني بخير ولكن كيف وجدت الدكتورة معاد ؟
( 108 )
قالت ورقاء بألم : إنها مريضة جداً يا جدتي .
قالت الجدة : شفاها الله وعافاها ، ولكن من كان معها .
قالت ورقاء : يبدو أن أخاها طبيب وكان إلى جوارها حين ذهبت ولكنه خرج عند دخولي .
فقالت الجدة : من هذا يبدو أنه انسان مهذب.
وفي صبيحة اليوم الثاني ذهبت ورقاء إلى عيادة معاد من جديد فوجدتها أحسن حالاً مما كانت عليه وقد رحبت بها وشكرت لها زيارتها الماضية فقالت ورقاء :
لقد عز عليّ جداً أن أراك في تلك الحالة سيما عندما تحسست جبينك فوجدته يلتهب من الحرارة ، فقد أحسست بأنني أشاركك الألم ولكن بشكل روحي.
فابتسمت معاد وقالت : يبدو أن أعصاب الحس لديك مرهفة جداً يا ورقاء ؟
فضحكت ورقاء وقالت : أنه أمر طبيعي وبسيط ولا يحتاج إلى مزيد في الحساسية .
قالت معاد : صحيح أنه أمر طبيعي ولكنه ليس بالأمر البسيط كما تتصورين ، فأن عملية الاحساس وسرعتها أمر يسبقه العديد من العمليات داخل الجسم .
فاستغربت ورقاء وقالت : العديد من العمليات وكيف ؟
( 109 )
قالت معاد : هل تريدين أن أشرح لك ذلك بالتفصيل أم باختصار ؟
قالت ورقاء : كما تحبين يا معاد .
قالت معاد : تنتشر على مستوى سطح الجلد شبكة هائلة يا ورقاء ومهمتها هي نقل الأخبار التي تصلها من مختلف طرق الحس ، وتنتهي جميع هذه الألياف العصبية التي تتشكل منها الشبكة تنتهي بجسيمات خاصة ينفرد كل منها بنقل حس معين محدد ، فهناك مثلاً جسيمات تنقل الحر ، وجسيمات تنقل البرد ، وأخرى تحس الألم ، وهكذا نجد أن كل جسيمة من هذه الجسيمات تنفرد بمهمة خاصة لا تؤديها سواها.
قالت ورقاء : وما هو عدد هذه الجسيمات يا معاد ؟
قالت معاد : أنها تتصاعد أعداد هذه الجسيمات في سطح الجلد إلى أعداد هائلة .
قالت ورقاء : فما هو عدد أجهزة إحساس الألم مثلاً ؟
قالت معاد : هناك ( 3 ـ 5 ) ملايين جهاز حساس للألم و ( 300000 ) جهاز حساس للحر و ( 500000 ) جهاز حساس للمس والضغط .
قالت ورقاء : وما هي هذه الأجهزة يا معاد ؟
( 110 )
ـ قالت معاد : مهمتها هي نقل التنبيهات عن طريق الأعصاب الحسية حتى توصلها إلى المنطقة الخلفية من النخاع الشوكي حيث تبلغ الأخبار إلى الخلايا . وعند ذلك تقوم الخلايا بالاتصال بالمنطقة الأمامية من النخاع الشوكي حيث ترقد هناك مفاتيح السيطرة على العضلات ، ولهذا تجدين أن اليد إذا لامست الحرارة ترتد عنها بسرعة تبلغ جزء من مائة من الثانية ، هذه الساعة الهائلة التي تمر بنا أو نمر بها دون أن نعلم أي تخطيط هائل جبار سبق هذه العملية البسيطة ودون أن نستشعر الصغار أمام عظمة الخالق المبدع المدبر.
كانت معاد تتحدث وورقاء تستمع إليها بانجذاب وقد جلست على الكرسي الذي أمامها مصغية بكل انتباه . وودت لو أن معاداً بقيت تتكلم أكثر وعندما سكتت أرادت أن تطلب منها الاستمرار ولكنها خشيت أن ترهق صحتها فبقيت ساكتة تنظر إليها في اعجاب واكبار ثم قالت : إن حديثك شيق يا معاد فأنني محرومة ممن يزودني بالمعلومات الدينية سيما عن إثبات وجود الخالق فليس لدي من يعينني على مجابهة الشبه والتشكيكات مع كثرة ما يواجهني منها في مختلف المناسبات ، وليتني كنت مثلك لكي أفهم ما تفهمين وأعرف من أمر ديني وخالقي ما تعرفين ، لقد كنت أتمنى أن أدخل الكلية الطبية ولكن درجاتي لم تساعدني على ذلك .
فابتسمت معاد وقالت : إن معرفتي لا تستند إلى الكلية
( 111 ) الطبية فلو لم أكن أعرف لما استفدت شيئا مما قرأت هنا.
قالت ورقاء : إذن فأنت كنت تعرفين المزيد عن دينك قبل أن تدخلي الكلية ؟
قالت : نعم ، لأن أخي كان يوجهني ويدفعني إلى القراءة والمطالعة منذ الطفولة ، وقد ساعدني على تفهم الكثير مما كان يعسر عليّ ، ولم تعلم ورقاء لماذا خطر لها أن تسأل قائلة :
أي إخواتك هذا الذي تعهدك بالتربية والتوجيه ؟
فابتسمت معاد وقالت : ليس لي إلا أخ واحد وهو الذي ما زال يتعهدني بكل شيء ، حتى بالتمريض إذا مرضت ، انه كل شيء بالنسبة لي .
قالت ورقاء : أدامه الله لك وأدامك له يا أختاه .
قالت معاد : تصوري أنه عطل عيادته من أجلي خلال أيام شدة حماي !
وهنا قالت ورقاء : إذن فهو ليس معك هنا في نفس المستشفى ؟
قالت : كلا فهو قد أكمل ما عليه وفتح له عيادة خاصة ، عند هذا لاحظت ورقاء أن مدة غيابها عن جدتها قد طالت أكثر مما ينبغي فنهضت لكي تودع معاداً وهي تقول : يعز عليّ أن أتركك وحيدة ولكن عليّ أن أذهب من أجل جدتي.
( 112 )
قالت معاد : لا عليك يا عزيزتي فإن سناداً يأتي بعد قليل إن شاء الله .
قالت ورقاء : وسوف أزورك غداً أيضاً .
قالت معاد : سوف أعود صباح غد إلى غرفتي فتفضلي إلى هناك.
قالت ورقاء : ولكنني سوف أتعبك بالأسئلة يا معاد .
قالت معاد : إن تعبك راحة يا ورقاء ، فتعالي إليّ متى أحببت وستجديني سعيدة بزيارتك يا أختاه.
فضحكت ورقاء وقالت : إذن فأستودعك الله إلى لقاء غد إن شاء الله .
|