عندما انتهت رحاب من قراءة رسالة مصطفى ذهبت إلى حسنات تطلب منها الكتاب وقد حسبت أنها لن تكتب إلى مصطفى بعد الآن وبدأت تقرأ وقد زادتها القراءة هدى واطمئناناً وصممت أن تكتب إلى مصطفى لتصارحه بالحقيقة إذ أنها لم تعد بحاجة إلى سؤال وجواب ، ولكن خاطر خطر لها أسلمها إلى الحيرة من جديد ، أنها ما دامت قد آمنت بالله فان عليها أن تؤمن بالقرآن ولكن كيف تعرف أو تطمئن إلى أن هذا القرآن هو من الله خالق الكون والحياة ؟ إذن فهي ما زالت مشدودة إلى مصطفى ... وصممت أن تكتب سيما وان حسنات قد تحسن وضعها النفسي بعد حديثها معها وأخذت تملي على نفسها التصديق بكلام أختها وإن كانت لا تعرف كيف تفسره... ولهذا فقد كتبت إليه من جديد قائلة :
عزيزي مصطفى ... يا من نورت فؤادي بنور الايمان واخذت بيدي إلى طريق الحق والرشاد... لقد أصبحت أشعر بتطفلي عليك ولعلك لا تعلم لماذا ولكنك سوف تعلم عما قريب ، وها أنني مازلت مضطرة إليك فتعطف عليّ بالجواب... وسؤالي اليوم هو كيف يمكن أن أطمئن إلى أن القرآن هو كتاب الله عز وجل ؟ أرجوك أن لا تنقم علي وسوف يكون هذا آخر سؤال أوجهه اليك ولعلك بعد هذا تغفر لي ما سببته لك من ازعاج. أرجو من الله أن يديمك لدينك ابناً باراً ولمن تحب ويحبك هدياً ومناراً.
لم يطل انتظار رحاب للجواب فقد استلمته في أقرب وقت وكانت قد بدأت قبل ذلك بقراءة القرآن الكريم مع أختها حسنات وفي ذلك اليوم وقبل أن تخلو إلى نفسها لتقرأ الرسالة بادرتها حسنات تخبرها بفرحه أنها استلمت رسالة من زينب أخت مصطفى وأنها سوف تعود بعد نهاية الامتحانات ... فتظاهرت رحاب بمشاركتها الفرحة ثم أردفت تقول : حتى مصطفى فأنه سوف يعود قريباً إن شاء
( 399 )الله ... قالت هذا وذهبت إلى غرفتها تقرأ الرسالة فكانت كما يلي :
بسم الله الرحمن الرحيمعزيزتي حسنات
السلام عليك ورحمة الله وبركاته دعيني أولاً أؤكد لك بأنني غير برم برسائلك وذلك لأنها مكنتني من أداء بعض الواجب بالنسبة لديني ثم أعود لأسألك من جديد ، ترى لو وجدت طفلة صغيرة تعيش في محيط لا يفتح لها أبواب المجتمع وهي ما زالت لا تعرف القراءة والكتابة ولم تتطلع على أي مجلة أو صورة للأزياء ثم ومع كل هذا تجدينها تبرز للمجتمع فستاناً قد صمم على أحدث موضة ، واعتمد ابتكارات مصممي الازياء في باريس ، تبرزه للمجتمع على أنه من خيطتها هي ! فهل تراك سوف تصدقي منها هذه الدعوى ؟ بطبيعة الحال أن الجواب سوف يكون نفياً ، لأنها صغيرة ، ولم يسبق لها أن مارست اي شكل من أشكال الخياطة ثم لأنها لا تعرف القراءة والكتابة
( 400 ) ولم تطلع على المجلات ونشرات دور الأزياء ، ولم يحدث أن سافرت إلى باريس مثلاً ، وهي كذلك وبحكم محيطها المنغلق لم تنفتح حتى للمجتمع الذي حولها فكيف تمكنت مع كل هذا أن تصمم هذا الفستان الذي يحمل معه ابتكارات جديدة وخطوط موديلات كلاسيكية قديمة ؟ ولهذا فلا شك أن هذا الفستان قد وصلها من سواها وإن هناك مصمم يعرف تاريخ تصميم الأزياء في الماضي ، ويشخص أصلح ابتكارات الموضة في الحاضر ، وهو مع هذا دقيق في عمله بارع في صناعته ... وإلى هنا اعتقد أن انكار خياطة الطفلة للثوب والاعتقاد بأن هناك غيرها من أبدع خياطته هو أمر مفروغ منه ، وبعد هذا نأتي إلى رسالة السماء التي قدمها للبشرية رجل صادق أمين قد تربى في صحراء الجزيرة العربية تربية قاحلة من العلوم والفنون والآداب حتى أنه كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة ولم يغادرها إلا مرتين. مرة وهو صبي صغير ومرة في تجارة مع ركب من المتاجرين العرب أمثاله
( 401 ) ولم يعرف عنه من قبل دراسة لما مضى أو حديثاً عما يأتي ، ثم وفجأة يقدم للبشرية رسالة معجزة أعجزت العرب ببيانها وتحدتهم ببلاغتها حتى قال عنها قائلهم وهو من أشد المعارضين لها قال حينما استمع إليها = والله لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الأنس ، ولا من كلام الجن ، وان له لحلاوة ، وأن عليه لطلاوة ، وان أعلاه لمثمر ، وأن أسفله لمعذق وأنه ليعلو وما يعلى عليه ، وانه ليحطم ما تحته = وحققت اعجازها من نواح كثيرة أيضاً منها اخبارها بحوادث الرسالات السابقة على شكل تذكرها كتب تلك الرسالات مع أن حامل الرسالة لم يكن من الممكن له أن يقرأ كتاباً واحداً منها لجهله حتى القراءة العربية فكيف باللغات الأخرى كما أشارت إلى ذلك الآية المباركة التي تقول : (
وما كنت بجانب الغربى إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ، ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما
( 402 ) كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما آتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ) ثم أن الحوادث الماضية لا يمكن لها أن تكون مستنسخة حتى لو فرضنا تمكن حامل الرسالة من الاستنساخ لأن القرآن يذكر هذه الحوادث بشكلها الصحيح بعد تنزيهها مما لصق بها زوراً وتشذيبها عما لحقها من تحريف وتضليل ، اذن فالقرآن يتعرض إلى الحوادث الماضية بشكل ايجابي ولا يكتفي بالذكر السلبي فقط... هذا بالاضافة إلى أن هذه الرسالة قد تنبأت بوقوع أحداث لم يكن يحتمل وقوعها ثم حدث ، كما أخبرت به ، ومثال ذلك الآية المباركة التي نزلت بعد أن غلبت الروم على أيدي الفرس فسبب ذلك حزناً عند المسلمين ، لأن الفرس كانوا يمثلون الجانب الوثني ، والروم كانوا يمثلون الجانب الكتابي ؛ فنزلت الآية المباركة تقول : (
غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) وبضع سنين في الاصطلاح العربي هي لا تتجاوز العشر
( 403 ) سنين وقد وقع فعلاً ما أخبرت به الآية المباركة بعد تسع سنين تقريباً ، أو ليس في هذا ما يبعث في نفسك الاطمئنان إلى أن هذه الرسالة هي رسالة السماء وأنها ليست من إنشاء محمد بن عبدالله ؟ ثم وبعد هذا دعيني أذكر لك بعض جوانب الاعجاز العلمي للقرآن : فقد جاء في الآية المباركة : (
وأرسلنا الرياح لواقح ) وقد اكتشف أخيراً وبعد تقدم الفكر العلمي للبشرية أن للرياح دوراً في تلقيح الأشجار الشيء الذي جعل المستشرق الانجليزي ( اجنيدي ) أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد يقول : ( إن اصحاب الابل قد عرفوا ان الريح تلقح الاشجار والثمار قبل أن يتوصل العلم في أوربا إلى ذلك بعدة قرون ) كما أن العلم قد أثبت أخيراً ان الأرض تتناقص يوماً بعد يوم وتنكمش على نفسها بعد أن انفصلت عن الشمس وأخذت تبرد وأن مما يساعد على انكماشها وهو تشقق قشرتها وخروج الحمم والبراكين منها كما أن الضغط الجوي والجاذبية الأرضية وضغط
( 404 ) الانكماش المستمر يساعد على تضاؤل حجمها أيضاً ، هذا ما أثبته العلم ، أما رسالة السماء فقد أخبرت بذلك قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً بما جاء في الآية المباركة التي تقول : (
أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ) ومثال ثالث هو الآية المباركة تقول : (
إذا الشمس كورت ) ثم وبعد قرون عديدة يبرز علينا العلم باكتشافه الجديد وهو أن الشمس تحترق كالشمعة وسيأتي يوم تذوى فيه وتقل حرارتها نتيجة تبدد شعاعها وسلسلة التفاعلات التفجرية في باطنها فتموت كما تموت بقية الشموس والنجوم...
أرجو أن لا أكون قد أطلت عليك ولأجل مزيد من الاطمئنان إقرأي كتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن بني وأتمنى لك كل خير وصلاح.