أولاً: استقالة حكومة جعفر العسكري،وتكليف عبد المحسن السعدون :
وجد جعفر العسكري ـ رئيس الوزراء ـ نفسه ،بعد توقيعه بالأحرف الأولى على المعاهدة الجديدة، وعودته من لندن ، في موقف صعب . فقد استقال كل من وزير الداخلية [رشيد عالي الكيلاني ]ووزير المالية [ ياسين الهاشمي] كما وجد البلاد في حالة من الغليان الشديد ،احتجاجاً على تلك المعاهدة التي لم تختلف في جوهرها عن سابقاتها، معاهدة 1922، ومعاهدة 1926 . فلازالت بريطانيا تقيد العراق بقيود ثقيلة ، في سائر المجالات العسكرية والاقتصادية والمالية ، وتتدخل بشؤون العراق صغيرها وكبيرها .
وهكذا وجد رئيس الوزراء أن مواجهة مجلس النواب بهذه المعاهدة قد بات أمر صعب للغاية ، ولم يجد ُبد من تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل ، في 8 كانون الثاني 1928، وقد تم قبول الاستقالة ، وكلف الملك السيد عبد المحسن السعدون ، بتأليف وزارته الثالثة ، في 14 كانون الثاني 1928 ، وجاءت الوزارة على الوجه التالي : (1)
1 ـ عبد المحسن السعدون رئيساً للوزراء ، ووزيراً للدفاع
2 ـ عبد العزيز القصاب ـ وزيراً للداخلية .
3 ـ يوسف غنيمة ـ وزيراً للمالية .
4 ـ حكمت سليمان ـ وزيراً للعدل .
5 ـ توفيق السويدي ـ وزيراً للمعارف .
6 ـ عبد المحسن شلال ـ وزيراً للأشغال والمواصلات .
7 ـ سلمان البراك ـ وزيراً للري والزراعة .
8 ـ الشيخ أحمد الداؤد ـ وزيراً للأوقاف .
كان في مقدمة المهام الملقاة على عاتق هذه الحكومة هو إقرار المعاهدة الجديدة في مجلس النواب ، والشروع في مفاوضات لتعديل الاتفاقيتين ، العسكرية والمالية .
وحيث أن الحكومة الجديدة لا تضمن الأكثرية في المجلس ، ولوجود معارضة قوية من قبل العديد من النواب للمعاهدة المذكورة ، فقد طلب رئيس الوزراء من الملك فيصل إصدار الإرادة الملكية بحل المجلس ، وإجراء انتخابات جديدة .
وتم للسعدون ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحل المجلس في 18كانون الثاني1928
وقامت الحكومة بحملة تنقلات واسعة في الجهاز الإداري ، بين كبار الموظفين، قبل إجراء الانتخابات العامة ، لتأمين حصول الحكومة على الأكثرية اللازمة لإقرار المعاهدة .
لكن أحداث خطيرة وقعت في العراق في أول عهد الوزارة ، فقد قبضت الحكومة على الشيخ [ضاري الشعلان ]، الذي اتهم هو وأولاده بقتل الكولونيل [ لجمان ]، بعد قرار السلطات البريطانية بالقبض عليه ، ومحاكمته أبان ثورة العشرين ، واضطر الشيخ ضاري إلى الهرب ، لكنه وقع في قبضة الحكومة في 3 تشرين الثاني 1927، نتيجة وشاية ، فأحيل إلى المحاكمة وهو في حالة صحية سيئة ، وحكم عليه بالإعدام، ثم جرى تخفيض الحكم إلى السجن المؤبد ، ولم يمضِ على سجن الشيخ ضاري سوى بضعة أيام في السجن ، حتى فارق الحياة .
أدى موت الشيخ ضاري إلى هياج الجماهير الشعبية التي خرجت في مظاهرات صاخبة ، اقتحمت المستشفى ، وانتزعت جثة الفقيد ،وسارت به في مظاهرة عارمة وهي تندد بالحكومة ، وبالاستعمار البريطاني ، وكان ذلك أول صدمة تلقتها الحكومة السعدونية .
وجاءت زيارة الصهيوني البريطاني المعروف [ السير الفرد موند ] إلى العراق في 8 شباط 1928 ، واستقباله من قبل المندوب السامي ، وكبار الشخصيات اليهودية المتحمسة للحركة الصهيونية ، فقد أثار مقدمه إلى العراق موجة من السخط العارم لدى أبناء الشعب ، الذين هب في مظاهرة صاخبة ، منددين بالصهيونية ، والاستعمار البريطاني ، وبالحكومة ، واستخدمت الحكومة القوة لتفريق المتظاهرين ، فوقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة ، أصيب خلال المصادمات العديد من المتظاهرين وأفراد الشرطة .
لقد كانت المظاهرة من السعة ، حيث ضمت اكثر من عشرين ألفاً، سارت نحو محطة الكرخ ،حيث كان من المقرر أن يمر من هناك موكب الزائر الصهيوني ، واضطرت الحكومة إلى تغير مسار الموكب نحو الكاظمية ، فالأعظمية ،حيث نزل الفرد موند عند المندوب السامي البريطاني .
قامت الحكومة بحملة واسعة ضد العناصر الوطنية التي ساهمت في المظاهرة ، أغلقت [نادي التضامن] الذي اتهمت الحكومة المشرفين عليه بالتحريض على التظاهر وأصدرت أمراً بمنع التجمعات والمظاهرات بدون موافقة السلطة .
كما قررت وزارة المعارف طرد عدد كبير من الطلاب والمدرسين ، أحالت قسم منهم إلى المحاكمة ، وأعلن وزير المعارف [ توفيق السويدي] أن الحكومة عازمة على منع المظاهرات ، حتى ولو تطلب الأمر إطلاق الرصاص على الطلاب المتظاهرين المخالفين للقرار .
أما المندوب السامي فقد قدم احتجاجاً للملك على قيام المظاهرات المنددة بالصهيونية وببريطانيا ، لكن المظاهرات تجددت يوم 10 شباط ، حيث انطلقت من جامع [الحيدرخانه ] مظاهرة كبيرة تهتف بسقوط الصهيونية ،وسقوط وعد [بلفور] وبالاستعمار البريطاني ، وجرى صدام عنيف مع رجال الشرطة التي استطاعت تفريق المظاهرة بعد جهد كبير ، واعتقلت عدد من الخطباء ، وإحالتهم إلى المحاكمة .
ولما كان مجلس النواب قد حُلّ ، ولإصرار الحكومة على إعادة الأمن ، وقمع المظاهرات ، فقد لجأت إلى إصدار المراسيم العقابية ضد كل من يحاول التظاهر ونصت تلك المراسيم على جلد المتظاهرين ، ووضعهم تحت مراقبة الشرطة ، والطرد من المدارس والوظائف ، والأبعاد والنفي ، وغيرها من المراسيم المنافية لروح الدستور وقد أثارت هذه المراسيم موجة احتجاجات عاتية من قبل الأحزاب السياسية والصحافة ، ووصفتها بأنها مراسيم جائرة .
كما أن وزير العدل [ حكمت سليمان ] استقال من منصبه احتجاجاً على حضور مستشار وزارة العدل [ البريطاني ] جلسة مجلس الوزراء ، التي قرر خلالها المجلس إصدار تلك المراسيم ، ودور المستشار في إصدارها ، ونتيجة لكل تلك الضغوط اضطرت الحكومة إلى إلغاء تلك المراسيم في 17 أيار 1928 .
وفي 22 كانون الثاني 1928 ، شرعت الحكومة في الأعداد للانتخابات الجديدة لمجلس النواب ، وعبأت المعارضة قواها لخوضها ، وبدأت الحكومة تمارس ضغوطها للتأثير على سير الانتخابات ، للخروج بمجلس يؤيد سياستها ، ويقر المعاهدة الجديدة مما أثار ، موجة من الاحتجاجات لدى المعارضة التي أعلنت أن الحكومة تعين النواب في واقع الأمر ، وتقوم بتهديد الأهالي للتصويت لمرشحيها ، وتم انتخاب المجلس في 9 أيار 1928 بالشكل الذي أرادته الحكومة ، مستخدمة كل وسائل التزوير والترهيب واحتج حزبا [ الاستقلال ] و [ الوطني ] على نتائج الانتخاب ، في مذكرة رفعاها إلى رئيس الوزراء .
تم دعوة المجلس الجديد للاجتماع يوم 13 أيار 1928 ، حيث ألقى الملك فيصل خطاب العرش ، الذي حاول فيه تبرير حل المجلس ، وإجراء انتخابات جديدة بالرجوع إلى رغبات الأمة !!، في بعض الأمور الخطيرة !! وكان الملك يقصد بذلك إقرار المعاهدة الجديدة ، والتفاوض على تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية .
ولما رأت بعض الشخصيات الوطنية ما تنوي الحكومة الأقدام عليه ، قررت تجميع صفوفها ، وتأسيس حزب سياسي معارض ، يقف ضد تلك المعاهدة ، فكان تأليف [الحزب الوطني ] بقيادة الشخصية الوطنية البارزة [ جعفر ابو التمن ] ، وضمت قيادة الحزب كل من السادة محمد مهدي البصير ، وعلي محمود الشيخ علي ، وأحمد عزت الأعظمي ، وعبد الغفور البدري ،ومولود مخلص ، وبهجت زينل ، ومحمود رامز .
قررت الحكومة السعدونية بدء المفاوضات مع بريطانيا في 11 تشرين الأول 1928 حول تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية ، وفوضت وزراء الدفاع والمالية والمعارف للتفاوض مع الجانب البريطاني ، فيما فوضت بريطانيا من جانبها المندوب السامي ومارشال الجو [ أدور ولنكتون ] ،والسكرتير المالي لدار الاعتماد . وقد تقدم الوفد البريطاني بمسودة اتفاقيتين جديدتين لكي تحلان محل الاتفاقيتين الملحقتين بمعاهدة 1922. لكن الوفد العراقي المفاوض وجد أن هاتين المسودتين لا تختلفان في جوهرهما عن سابقتيهما ، ولذلك اعترض عليهما ، وقدم من جانبه مسودتان جديدتان تضمنتا المطالب التي تحقق طموحات العراق في التحرر من التبعية البريطانية عسكريا ومالياً . فقد تضمنت مسودة الاتفاقية العسكرية الطلب بأن يكون من مسؤولية الجيش العراقي الحفاظ على أمنه الداخلي والخارجي ، مع تحديد عدد الضباط البريطانيين في الجيش ،وأن يعهد بإدارة الأحكام العرفية إلى ضابط عراقي بدلاً من البريطاني .أما مسودة الاتفاقية المالية فقد تضمنت طلب العراق تملك السكك الحديدية التي كانت تحت السيطرة البريطانية ،وعدم تحمل الجانب العراقي نفقات المندوبية البريطانية .
أثارت المسودتين المقدمتين من الجانب العراقي غضب المندوب السامي البريطاني وأعلن على الفور رفض قبولهما ، مما تسبب في وقوع أزمة بين الحكومة العراقية والمندوب السامي ، وسارعت الحكومة إلى إرسال مذكرة للمندوب السامي ، في 27 كانون الأول ، أوضحت له فيها وجهة نظرها في المفاوضات الجارية ، وضمنتها المطالب التالية :
1ـ ضرورة تولي الجيش العراقي مسؤولية الدفاع عن الوطن .
2 ـ انتخاب قائد القوات المشتركة في الحركات[ بريطاني] من قبل الملك فيصل.
3 ـ إدارة الأحكام العرفية من قبل ضابط عراقي .
4 ـ رفض سلطة قائد القوة الجوية البريطاني على الجيش العراقي .
5 ـ تقليص عدد الضباط البريطانيين في الجيش العراقي .
6 ـ رفض الفقرة الخاصة بالدفاع البحري عن العراق .
أما ما يخص الاتفاقية المالية فإن الحكومة ترى ما يلي :
1 ـ أن العراق هو المسؤول عن مالية قواته البرية والجوية ، وإن ما تقدمه الحكومة البريطانية من مساعدة ، يذهب إلى رواتب العدد الكبير من الضباط البريطانيين الذين لا ضرورة لبقائهم .
2 ـ إن إمكانية الحكومة العراقية لا تسمح بدفع نفقات دار المندوبية البريطانية .
3 ـ يجب تعديل اتفاقية الرسوم الجمركية بما يتفق ومصالح العراق .
4ـ ضرورة تملك العراق للسكك الحديدية ،والحكومة العراقية على استعداد لدفع تعويض للحكومة البريطانية .
5 ـ تحديد فترة زمنية لنفاذ الاتفاقية المالية . (2)
وفي الختام أبلغت الحكومة، المندوب السامي ، في مذكرتها بأنها سوف لا تقدم المعاهدة الجديدة إلى مجلس الأمة قبل تعديل الاتفاقيتين المذكورتين .
أما المندوب السامي وبعد إطلاعه على مذكرة الحكومة العراقية فقد سارع إلى الرد بعنف على ما جاء في مذكرة الحكومة ، وخصوصاً فيما أعلنته حول عدم تقديم المعاهدة الجديدة إلى مجلس النواب ، قبل تعديل الاتفاقيتين، العسكرية والمالية ،ودعا المندوب السامي الحكومة العراقية إلى أن تعلن أن أحكام الاتفاقيتين نافذة ، طالما لم يتوصل الجانبان لاتفاقيات جديدة .
سارع السعدون ، بعد تلقي مذكرة المندوب السامي إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء ودعا قادة المعارضة ، السادة رشيد عالي الكيلاني ، وجعفر أبو التمن ، وياسين الهاشمي لحضور الجلسة ، و أطلعهم على مذكرة المندوب السامي ، وطلب مشورتهم فيما يمكن عمله ، وقد أشاروا عليه بالاستقالة ، مؤكدين له أن لا أحد سيقدم على تشكيل وزارة جديدة .
وبعد هذا اللقاء ، جمع السعدون قادة حزبه [ حزب التقدم ] وعرض عليهم الأمر وقد اتخذ قادة الحزب قراراً بدعم موقف السعدون ، وبناء عليه سارع السعدون إلى إرسال مذكرة جوابية إلى المندوب السامي ، أعلن فيها أن الشعب العراقي ، ومجلس الأمة، لا يرضيان بأقل من تحقيق المطالب التي تقدمت بها وزارته ، وأن الحكومة غير مستعدة لتعلن الاتفاق على استمرار سريان مفعول الاتفاقيتين ، العسكرية والمالية السابقتين إلى أجل غير مسمى ، وأن إقدام الحكومة على خطوة كهذه معناه الرجوع إلى الوراء ، وأن ذلك مخل بكرامة الحكومة ، ومدعاة إلى القول بحقها أقوال شتى، وعليه فلم يعد أمام الوزارة غير تقديم استقالتها ، وسوف أقدم استقالتي بداعي الأسباب الصحية ، وعدم الإدلاء بأي بيان عن المفاوضات لمجلس الأمة ، لكي لا يحدث ما لا يحمد عقباه ، ويتخذ المجلس قراراً مخالفاً لخطة الوزارة المقبلة .
سارع المندوب السامي إلى إبلاغ وزير المستعمرات البريطاني ، برقياً، في 19 كانون الثاني 1929 عن الموقف المتأزم ، وعن عزم الحكومة السعدونية على الاستقالة . وحالما قرأ الوزير البريطاني الرسالة ،كتب إلى السعدون مذكرة مستعجلة رجاه فيها الاستمرار في الحكم ، رغم فشل الطرفين في التوصل إلى اتفاق بشأن الاتفاقيتين، العسكرية والمالية،واعداً إياه بمعاضدة بريطانيا لدخول العراق إلى عصبة الأمم، وإمكانية تحقيق بعض المطالب التي تقدمت بها حكومته .
إلا أن السعدون رد على مذكرة وزير المستعمرات البريطاني بمذكرة أرسلها له في 19 كانون الثاني 1929، معرباً له عن رفضه الاستمرار في تحمل المسؤولية . وقدم السعدون استقالة حكومته إلى الملك في 20 كانون الثاني 1929 ، واضطر الملك إلى قبول الاستقالة على مضض ، طالباً منه تسيير أمور الحكم حتى تؤلف وزارة جديدة .
لم يتمكن الملك فيصل من تشكيل وزارة جديدة لمدة ثلاثة أشهر من تاريخ استقالة وزارة السعدون ، بسبب الموقف البريطاني المتعنت من تعديل الاتفاقيتين ، العسكرية والمالية ، ولما وجد المعتمد السامي أن الأمر قد طال ، ولتخوفه من خطورة الأزم أسرع إلى مقابلة الملك فيصل طالباً منه الإسراع بتأليف الوزارة بأسرع ما يمكن ، وقد رد عليه الملك انه لا يستطيع تكليف أحد بتأليف الوزارة طالما بقي الموقف البريطاني على حاله .
وسارع السعدون إلى دعم موقف الملك ، وإحراج المندوب السامي ، فبعث إلى الملك برسالة ابلغه فيها بأنه لا يستطيع الاستمرار في تسيير دفة الحكم أكثر من هذه المدة، وطلب التخلي والانسحاب راجياً الملك أن يكلف أحداً بتشكيل الوزارة .(3)
وفي تلك الأيام أنتقل الحكم في بريطانيا من حزب المحافظين إلى حزب العمال وقررت الحكومة العمالية الجديدة نقل المندوب السامي [ هنري دوبس ] على أثر المشادة الكلامية التي حصلت بينه وبين الملك فيصل ، وبذلك انتهت خدماته في العراق، وغادر بغداد في 1 شباط 1929 ، وقررت الحكومة البريطانية تعيين السير [جلبرت كلايتي ] خلفاً له ، وقد وصل بغداد في 2 آذار 1929 .
تأمل الشعب العراقي أن يحصل تغير في السياسة البريطانية تجاه العراق ، بعد انتقال الحكم إلى حزب العمال ، وتغير المندوب السامي ، فقد وعد المندوب السامي الجديد، في خطابه الموجه إلى الملك فيصل ، أن يعمل على تحقيق ما يصبو إليه العراق !!، ودعاه إلى المحافظة على الثقة والاعتماد المتبادلين .
كما سارع المندوب السامي الجديد إلى لقاء رئيس الوزراء المستقيل ،عبد المحسن السعدون ، راجياً إياه العدول عن الاستقالة ، والاستمرار في الحكم . لكن السعدون أبلغه أنه لا يستطيع الاستمرار في الحكم طالما أصرت بريطانيا على عدم الاستجابة لمطالب العراق الوطنية المشروعة .
وعلى اثر تلك المقابلة سارع المندوب السامي إلى إعلام الحكومة البريطانية بالموقف ووجدت الحكومة البريطانية أن بقاء التوتر بينها وبين الشعب العراقي ليس في صالح بريطانيا ، وأن استمرار التوتر ينذر بأخطار كبيرة فكتبت إلى مندوبها السامي ، تعلمه أن الوزارة عازمة على إدخال العراق في عصبة الأمم ، شرط أن تضمن المصالح البريطانية ، من خلال تعهدات ترتبط بها حكومة العراق مع بريطانيا ، وأنها مستعدة للنظر في مطالب العراق، فيما يخص الاتفاقيتين، العسكرية والمالية، وسارع المندوب السامي إلى إبلاغ الملك فيصل بمضمون رسالة وزير المستعمرات البريطانية ، في 21 نيسان 1929 .
حاول الملك فيصل تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة الجديدة ،إلا أن السعدون ابلغ الملك أن أعضاء حزبه في البرلمان لا يستطيعون منح الثقة لنوري السعيد ، ولما لم يجد الملك مفراً من ذلك ، عهد إلى توفيق السويدي بتأليف الوزارة الجديدة ، في 28 نيسان 1929 ، وجرى تأليف الوزارة على الوجه التالي :
1ـ توفيق السويدي ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للخارجية والأوقاف .
2 ـ عبد العزيز القصاب ـ وزيراً للداخلية .
3 ـ يوسف غنيمة ـ وزيراً للمالية .
4 ـ داؤد الحيدري ـ وزيراً للعدلية .
5 ـ محمد أمين زكي ـ وزيراً للدفاع .
6 ـ سلمان البراك ـ وزيراً للري والزراعة .
7 ـ خالد سليمان ـ وزيراً للمعارف .
8 ـ عبد المحسن شلاش ـ وزيراً للأشغال والمواصلات .
جاءت الوزارة الجديدة ، من هيئة الوزارة السعدونية ، ومستندة إلى حزب السعدون الذي يتمتع بالأغلبية في مجلس النواب ، لكن الحزب وضع أمام الوزارة شرط إجراء التعديلات المطلوبة على الاتفاقيتين ، المالية والعسكرية ،كي تنال ثقة البرلمان .
أثار تشكيل توفيق السويدي للوزارة موجة من الغضب الشعبي ، وغضب أحزاب المعارضة على حد سواء ، ولذلك فقد كان عمر الوزارة قصيراً ، ولم تستطع أن تقدم شيئاً يذكر سوى تصديها للمظاهرات الوطنية التي قامت في بغدد في 30 آب 1929 احتجاجاً على الجرائم التي ارتكبها الصهاينة ، وقوات الاحتلال البريطاني في فلسطين ضد السكان العرب في ذلك الشهر ، حيث تصدت الشرطة للمظاهرات وقمعتها بالقوة ، وقامت الحكومة بتعطيل صحيفتي {النهضة } و{الوطن }، وتوجيه إنذار لصحيفة { العالم العربي } بسبب نشر المقالات المنددة بوعد [بلفور] ، وجرائم الصهاينة في فلسطين ، واحتج الحزب الوطني على أساليب الحكومة القمعية ، وقمعها للحريات العامة .وبسبب الموقف الشعبي ، وموقف أحزاب المعارضة من الحكومة ، لم يجد توفيق السويدي بُداً من تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 25 آب 1929ولم يمضِ على تشكيلها سوى أقل من أربعة إشهر ،لتعقبها وزارة السعدون الرابعة ، حيث كلف الملك فيصل [ عبد المحسن السعدون ] بتأليف الوزارة الجديدة في 19 أيلول 1929 .
وخلال الفترة الزمنية التي تلت استقالة حكومة السويدي وتأليف حكومة السعدون توفي المندوب السامي [ جلبرت كلايتي] بالسكتة القلبية في بغداد مساء يوم الأربعاء 11 أيلول 1929 .
شكل عبد المحسن السعدون وزارته الرابعة في 19 أيلول 1929، وجاءت على الوجه التالي :
1ـ عبد المحسن السعدون ـ رئيساً للوزراء ، ووزيراً للخارجية .
2 ـ ناجي السويدي ـ وزيراً للداخلية .
3 ـ ناجي شوكت ـ وزيراٍ للعدلية.
4 ـ نوري السعيد ـ وزيراً للدفاع .
5 ـ ياسين الهاشمي ـ وزيراً للمالية .
6 ـ عبد الحسين الجلبي ـ وزيراً للمعارف .
7 ـ عبد العزيز القصاب ـ وزيراً للري والزراعة .
8 ـ محمد أمين زكي ـ وزيراً للأشغال والمواصلات .
أبدى السعدون أول ملاحظاته عن الوضع السياسي حيث أشار فيها إلى أن بريطانيا قد وافقت على العمل لإدخال العراق في عصبة الأمم دون قيد أو شرط عام 1932 ورغبة بريطانيا في عقد معاهدة جديدة لتنظيم العلاقة بين البلدين ، على نفس الأسس التي أقتُرح للاتفاق المصري البريطاني ، وأشار إلى أن هذا الموقف يعتبر تراجعاً من بريطانيا عن مواقفها السابقة المتصلبة تجاه المطالب العراقية المشروعة في التحرر والاستقلال الوطني ، والسيادة الحقيقية .
وضع السعدون في مقدمة قائمة المهام لوزارته الأمور التالية :
1 ـ العمل على عقد معاهدة جديدة ، وتطبيقها لتسريع دخول العراق في عصبة الأمم،قبل عام 1932،وإزالة أي صبغة للاحتلال البريطاني في صلب المعاهدة الجديدة.
2 ـ إنهاء مسؤولية بريطانيا الدفاعية عن العراق، وإناطتها بالجيش العراقي ، وتطبيق قانون التجنيد الإلزامي، لبناء جيش كبير، وقوي،يستطيع القيام بالمهام المطلوبة منه .
3 ـ تقليص عدد الضباط البريطانيين في الجيش العراقي،وتقليص عدد المفتشين البريطانيين،والموظفين الذين لا تستدعي الحاجة إلى بقائهم واستبدالهم بموظفين عراقيين
4ـ إعادة النظر في التعريفة الجمركية ، وتشجيع الصناعات الوطنية ، وصمودها أمام المنافسة الأجنبية.
بالنظر لوفاة المندوب السامي [ جلبرت كلايتي ] المفاجئة بالسكتة القلبية قررت الحكومة البريطانية تعيين السير [ فرانسيس هيمفريز ] ليحل محله كمندوب سامٍ لها في العراق ، في 7 تشرين الأول 1929 ، ووصل بالفعل إلى بغداد لتسلم مهام منصبه في 10 كانون الأول من السنة نفسها ، وأعلنت الحكومة البريطانية في الوقت نفسه عن عزمها على ترشيح العراق لدخول عصبة الأمم سنة 1932 .
قررت حكومة السعدون الشروع بإجراء المفاوضات لوضع معاهدة جديدة تلبي طموح الشعب العراقي ، وألّفت وفدها المفاوض من السادة وزراء الدفاع ، والمالية والداخلية ، وسارع السعدون إلى طرح برنامج حكومته أمام مجلس النواب في أول لقاء له مع المجلس بعد تأليف وزارته . لكن المعارضة هاجمته بشدة واتهمته بالتراجع عن مواقفه السابقة التي أصر فيها على المطالب العراقية المشروعة فيما يخص المعاهدة وتعديل الاتفاقيتين ، العسكرية والمالية .
وجاء ردّ السعدون على نواب المعارضة بنفس الدرجة من العنف عندما أنتقد النواب قبوله لتصريح الحكومة البريطانية السالف الذكر، وعما سيحصل إذا تغيرت الحكومة العمالية، وتراجعت بريطانيا عن التصريح، فقد قال السعدون :
{ إذا ما حصل ذلك، فإني اعتقد أن نيل الاستقلال تابع إلى جرأة الأمة، فالأمة التي تريد الاستقلال يجب أن تتهيأ له ، ولا يكون ذلك بالكلام ، والأقوال الفارغة فالاستقلال يؤخذ بالقوة والتضحية ، وهذا ما أحببت أن أقوله } (4)
|