مرجع الأمور علماء الإسلام
بناءاً على هذا، فما هو تكليف الامة؟ وما الذي يجب عليهم عمله في الحوادث والمنازعات؟ وإلى من يرجعون؟
قال (ع) : "ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا". فالامام (ع) لم يترك شيئاً مبهماً ليقول البعض اذن فرواة الحديث هم المرجع والحاكم. بل ذكر كل الجهات وقيد (الرواة) بكونهم ممن نظر في الحلال والحرام وفقا للقواعد، وله معرفة بالأحكام، ويمتلك الموازين لتمييز الروايات الصادرة على خلاف الواقع للتقية أو لاسباب أخرى عن غيرها، ومن الواضح أن معرفة الأحكام ومعرفة الحديث أمر آخر غير نقل الحديث.
العلماء منصوبون للحكم
يقول (ع) : "فإني قد جعلته عليكم حاكماً" أي "منصوباً" من قبلي للحكم والامارة، وللقضاء بين المسلمين. ولا يحق للمسلمين أن يرجعوا إلى غيره.
وبناءاً عليه، فلو اعتدى أحدهم على مال لكم، فالمرجع في الشكوى هي السلطة التي عينها الامام (ع). وإذا تنازعتم مع أحد على دَين، واحتجتم إلى اثبات ذلك، فالمرجع هو ذلك القاضي الذي عينه (ع) أيضاً، ولا حق لكم في الرجوع إلى غيره. وهذه وظيفة جميع المسلمين، وليس تكليفاً خاصاً بعمر بن حنظلة حين يواجه تلك المشكلة.
فأمر الإمام (ع) هذا عام وكلي. فكما كان أمير المؤمنين (ع) في زمان حكومته يعين الحكام والولاة والقضاة، وكان على جميع المسلمين أن يطيعوهم، فالإمام الصادق (ع) أيضاً بما أنه "ولي الامر" المطلق، وله الولاية على جميع العلماء والفقهاء والناس، فهو يستطيع أن يعيّن الحكام والقضاة لزمان حياته، ولما بعد مماته. وقد قام بذلك وجعل هذا المنصب للفقهاء. وإنما قال "حاكماً" لكيلا يتوهم البعض أن الأمر مختص بالمسائل القضائية، ولا يشمل سائر أمور الحكم والدولة.
ويستفاد أيضاً من صدر وذيل الرواية والآية التي ذكرت فيها أن الموضوع ليس مجرد تعيين قاضٍ وحسب، فالامام لم يكتف بتعيين قاض فقط، دون أن يتعرض لبيان التكليف حول سائر أمور المسلمين الاخرى، بشكل يبقى أحد السؤالين ـ والذي يرجع إلى التحاكم عند السلطات التنفيذية ـ بلا جواب.
هذه الرواية من الواضحات، وليس ثمة وسوسة في سندها ودلالتها فلا ترديد في أن الامام (ع) قد عين الفقهاء لأجل الحكومة والقضاء. وعلى جميع المسلمين إطاعة امر الامام (ع) هذا.
ولأجل توضيح المطلب بشكل أفضل، وتأييده بروايات أخرى، نأتي برواية ابي خديجة أيضاً:
روى محمد بن الحسن باسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن ابي الجهم، عن ابي خديجة قال: بعثني ابو عبدالله (ع) إلى أصحابنا فقال: "قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة، أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق. اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا؛ فإني قد جعلته عليكم قاضياً. وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر"
المراد من "التداري في شيء" المذكور في الرواية هو الاختلاف الحقوقي. فالمعنى أن لا ترجعوا إلى هؤلاء الفساق في الاختلافات الحقوقية والمنازعات والدعأوي. ومن قوله بعد ذلك "إني قد جعلته عليكم قاضياً" يتضح أن المقصود من "الفساق" هم القضاة المعينون من قبل سلاطين ذلك الوقت، والحكام غير الشرعيين. ويقول (ع) في ذيل الحديث: "وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر". أي لا ترجعوا في الأمور ذات العلاقة بالسلطة التنفيذية هؤلاء الحكام غير الشرعيين. ولئن كان "السلطان الجائر" هو كل حاكم جائز وغير شرعي بشكل عام، ويشمل جميع الحكام غير الإسلاميين، والسلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية جميعاً، لكن بالالتفات إلى أنه قد نهى قبل ذلك عن الرجوع إلى قضاة الجور، يتضح أن المراد بهذا النهي فريق آخر، وهم السلطة التنفيذية. والجملة الأخيرة بالطبع ليست تكراراً للكلام السابق، أي النهي عن الرجوع إلى الفساق، وذلك لأنه قد نهى أولاً عن الرجوع إلى القاضي الفاسق في الأمور المتعلقة به من التحقيق، وإقامة البيّنة، وامثال ذلك. وأوضح وظيفة اتباع القاضي الذي عينه. ثم منع بعد ذلك من الرجوع إلى السلاطين أيضاً، مما يدل على أن باب «القضاء» غير باب الرجوع إلى السلاطين، وأنهما صنفان. وفي رواية عمر بن حنظلة حيث نهى عن التحاكم إلى السلاطين والقضاة أشار إلى كلا الصنفين. غاية الأمر أنه هنا إنما عين القاضي فقط، بينما في رواية عمر بن حنظلة عين الحاكم المنفذ والقاضي كلاهما.
|