آيات من القرآن المجيد
الرواية الاخرى التي هي من مؤيدات بحثنا هي "مقبولة عمر بن حنظلة" وبما أنه قد تمسك في هذه الرواية بآية من القرآن، فيجب في البدء أن نبحث في تلك الآية والآيات التي قبلها، ونوضح معناها إلى حد ما، ومن ثم نبحث حول الرواية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمَّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً * يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله وإلى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}.
أمر الله تعالى (في هذه الآيات) برد الأمانات إلى أهلها. ويرى البعض أن "الأمانات" هنا مطلقة فهي تشمل الأمانات المتعلقة بالخلق (مال الناس) أو المتعلقة بالخالق (الأحكام الشرعية) والمقصود من رد الأمانة الإلهية هو إجراء الأحكام الإسلامية كما هي، بينما يعتقد البعض الآخر أن المراد من الأمانة هي الإمامة، وقد ورد في الرواية أيضاً أن المقصود بالآية هم نحن (اي الائمة (ع)) أي أن الله تعالى أمر ولاة الأمر الرسول الأكرم (ص) والائمة (ع) برد الولاية والإمامة إلى أهلها، وذلك بأن يرجع الرسول الأكرم (ص) الولاية إلى امير المؤمنين، والامير (ع) يرجعها إلى الولي من بعده، وهكذا.
ويقول تعالى في ذيل الآية: {وإذا حكمتم بين الناس إن تحكموا بالعدل}. الخطاب هنا لأصحاب السلطة والحكم، لا للقضاة. إذ القاضي يقضي ولا يحكم بكل معنى الكلمة، وإنما هو حاكم يحكم من جهة من الجهات، وذلك لأنه إنما يصدر الحكم القضائي فقط لا التنفيذي. كما أن القضاة في أشكال الحكم في القرون المتأخرة يشكلون إحدى السلطات الثلاث الحاكمة، لا جميع الحاكمين، والسلطتان الباقيتان هما مجلس الوزراء (السلطة التنفيذية) ومجلس النواب (مجلس التخطيط والتشريع). فالقضاء أحد أقسام الحكومة، وواحد من مسؤولياتها، وتشمل القاضي وجميع الحكام. وعندما يتقرر أن جميع الأمور الدينية هي عبارة عن "امانة" الهية، وهذه الأمانة يجب أن ترد إلى أهلها، فإحدى هذه الأمور: الحكومة. وبمقتضى الآية الشريفة يجب أن يكون كل أمر من أمور الحكومة طبق موازين العدالة، أي طبق مباني قانون الإسلام وحكم الشرع. فعلى القاضي ألاَّ يحكم بالباطل، أي لا يصدر حكماً مبنيّاً على قانون محرم غير إسلامي، يكون شيء من قواعد حكمه، أو القانون الذي يحكم طبقاً له غير إسلامي، والذين يقومون بعملية التخطيط في المجلس إذا ارادوا التخطيط للوضع المالي في البلاد، فلتكون الضرائب الخراجية التي يضعونها على مزارعي الاملاك العامة محددة بنحو عادل، ولا يتكون بنحو يعجزهم. إذ ثقل الضرائب يؤدي إلى القضاء عليهم وخراب الاملاك والزراعة. وإذا ارادت السلطة التنفيذية تنفيذ الأحكام القضائية وإقامة الحدود مثلاً، فيجب ألا يتجأوزوا القانون، فلا يضربوا المذنب سوطاً زيادة عن الحد ولا يهينوه. أمير المؤمنين (ع) بعد ان يقطع ايدي اثنين من اللصوص يقدم لهم من العطف والمحبة والضيافة ما يجعلهما من مادحيه، وعندما يسمع بأن جيش معأوية قد انتزع خلخالاً من معصم امرأة ذمِّية يبلغ به حد الانزعاج والأسى إلى أن يقول في خطبته: "فلو أن مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً" ومع هذه العاطفة نراه يحمل السيف أحياناً ويقتلع المفسدين بكل شدة وقوة.
هذا هو معنى العدالة. الحاكم العادل هو رسول الله (ص) فهو عندما يأمر بأخذ مكان ما، أو حرق بيت، أو القضاء على جماعة مضرة للإسلام والمسلمين وللناس، فإنما يكون قد حكم بالعدل. ولو لم يحكم بما حكم في موارد كهذه، لكان ذلك منافياً للعدالة، لأنه لا يكون قد لاحظ حال الإسلام والمسلمين، وحال المجتمع البشري. فالحاكم على المسلمين أو على المجتمع البشري يجب أن يلاحظ دوما الجهات والمصالح العامة، وأن يعرض عن ملاحظة الجهات والعواطف الشخصية. لذا قضى الإسلام على كثير من الاشخاص لأجل مصلحة المجتمع والبشرية، وقطع جذور الكثير من الجهات لأنها كانت مصدر فساد ومضرة للمجتمع. قام رسول الله (ص) بالقضاء على يهود "بني قريظة" لأنهم كانوا جماعة مضرة، وتقوم بايجاد الفساد في المجتمع الإسلامي، وتضر بالإسلام وبالحكومة الإسلامية. وفي الاساس فإن هاتين الصفتين من صفات المؤمنين: أن ينفذ العدالة بكل جرأة وشدة في موضعها ولا يبدي أية عاطفة. وفي مورد العطف يبدي كل المحبة والشفقة. ويكون "مأمناً" للمجتمع، يعيش المسلم وغير المسلم في ظل حكومته في أمن وطمأنينة وراحة بال دونما خوف. إن سبب خوف الناس من هؤلاء الحكام هو أن حكوماتهم ليست طبق القواعد والقوانين، وإنما هي فرعونية.
لكن في حكومة شخص كأمير المؤمنين (ع) في الحكومة الإسلامية لا خوف إلاّ للخائن والظالم والمعتدي، أما عامة الناس فلا معنى للخوف بالنسبة لهم.
ويقول تعالى في الآية الثانية: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم...}.
ورد في الرواية أن الآية الأولى {أن تردوا الأمانات إلى أهلها} تتعلق بالأئمة (ع) وآية الحكم بالعدل {واذا حكمتم بين الناس} متعلقة بالأمراء، وآية {اطيعوا الله} هي خطاب للمجتمع الإسلامي فتأمرهم أن يطيعوا الله ورسوله (ص) وأولي الأمر، أي الأئمة، ويتبعوهم في الأحكام الالهية. فيتبعوهم في تعاليمهم، ويطيعون أحكامهم الحكومية.
لقد ذكرت أن إطاعة أمر الله تعالى غير طاعة الرسول (ص) فجميع العباديات وغير العباديات (من أحكام الشرع الالهي) هي أوامر الله عز وجل. فرسول الله (ص) ليس له أي أمر في باب الصلاة. وإذا ألجأ الناس إلى الصلاة فهو إنما ينفذ حكم الله. ونحن أيضاً عندما نصلي، إنما نطيع أمر الله تعالى.
بينما أوامر الرسول الأكرم (ص) هي تلك التي تكون صادرة عنه، وتكون أمراً حكومياً. كأمره مثلاً بالالتحاق بجيش أسامة، أو بالمرابطة في الثغور، أو بجمع الضرائب بشكل معين، أو بمعاشرة الناس بنحو معين ... فهذه أوامر الرسول (ص). لقد الزمنا الله تعالى أن نطيع الرسول الأكرم، كا أمرنا أيضاً بطاعة "أولى الامر" والمراد منهم بحسب ضرورة مذهبنا: الأئمة (ع)، فطاعة أولي الأمر التي تكون في الأحكام والأوامر الحكومية، غير طاعة الله أيضاً. نعم حيث أن الله أمرنا أن نطيع الرسول وأولي الأمر، فمن هذا الباب تكون اطاعتنا لهم إطاعة لله في الحقيقة.
يقول تعالى في تتمة الآية {.. فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً}.
التنازع الذي يحصل بين الناس على نوعين: الأول أن تختلف جماعتان أو شخصان على موضوع ما، فيدعي احدهم مالاً على الآخر مثلاً، بينما ينكر الآخر، ويحتاج الموضوع إلى اثبات شرعي أو عرفي. ففي هذا المورد يجب الرجوع إلى القضاة حيث يقوم القاضي بالتحقيق في الموضوع والحكم فيه. فهذه دعأوي حقوقية.
والنوع الثاني أن لا يكون اختلاف في البين، وانما تكون المسألة ظلم واعتداء، كأن يأخذ أحد السوقة مال شخص من الاشخاص بالقوة، أو يأكل مال الناس، أو يدخل لص إلى بيت أحد الأشخاص، ويأخذ ماله. ففي هذه الموارد ليس القاضي هو المرجع والمسؤول، وانما هو المدعي العام. إذ في هذه الموارد التي هي موارد جزائية ـ لا حقوقية ـ وأحياناً تكون جزائية وحقوقية معا، فالذي يشرع بالعمل ابتداءً هو المدعي العام الذي يقوم بالمحافظة على الأحكام والقوانين، ويُعد المدافع عن المجتمع. ومن ثم يصدر طلباً بمعاقبة المذنب، وعندما يرفع للقاضي يحكم عليه. وهذه الأحكام ـ سواء كانت حقوقية أو جزائية ـ تنفذ بواسطة مجموعة اخرى من الحكام الذين هم السلطة التنفيذية.
يقول القرآن الكريم: {واذا تنازعتم} ففي أي أمرٍ تنازعون فيه، فالمرجع في الأحكام هو الله تعالى، وفي التنفيذ رسول الله (ص). فالرسول الأكرم (ص) يجب أن يأخذ أحكام الله وينفذها، إذا كان الموضوع موضوع اختلاف، فالرسول (ص) يتدخل بصفته قاضياً ويقوم بالحكم والقضأوة. واذا كانت نزاعات اخرى من قبيل: أكل الحق والتسلط، فالمرجع هو رسول الله (ص) أيضاً. وهو باعتباره رئيس الدولة الإسلامية ملزم بالنظر في الشكأوي، فيرسل الشرطة، ويأخذ الحق ويرده إلى أصحابه، فالذي يجب أن يعلم هو أن الرسول (ص) هو المرجع في جميع الأمور، وكذلك الإئمة (ع). واطاعة الأئمة (ع) اطاعة للرسول (ص) أيضاً.
والخلاصة: أن الآيات الأولى {إذا حكمتم بين الناس} والثانية {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وآية {فإن تنازعتم في شيء} تتحدث عما هو أعم من الحكومة والقضاء، فلا اختصاص لها بباب القضاء. هذا بغض النظر عن كون بعض الآيات لها ظهور في الحكومة بالمفهوم الاجرائي.
ويقول تعالى في الآية التالية: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به...}.
اذا لم نقل أن المراد من الطاغوت خصوص حكومات الجور والسلطات غير الشرعية بشكل عام، والتي قد طغت وأقامت حكومة مقابل الحكومة الإلهية، فيجب أن نقول أنه أعم من القضاة والحكام. إذ أن الرجوع في المسائل القضائية يكون غالباً إلى القضاة، وينفذ حكم القضاء السلطة التنفيذية التي تمثل الحاكم عادة.
فحكومات الجور سواء القضاة، أم المنفذون، أم غيرهم من المسؤولين كلهم "طاغوت" لأنهم عصوا حكم الله، وطغوا بالنسبة له. فوضعوا القوانين حسب أهوائهم، وقاموا بتنفيذها والقضاء وفقها. وقد امرنا الله تعالى أن نكفر بهم، أي أن نعصي أوامرهم وأحكامهم. ومن البديهي أن ذلك يستتبع مسؤوليات ثقيلة يجب السعي للقيام بها بحسب الوسع والإمكان.
|