الحكومة الخاضعة للقانون
بما أن حكومة الإسلام هي حكومة القانون، فيجب أن يكون علماء القانون، بل والأهم علماء الدين ـ أي الفقهاء ـ هم القائمون بها، والمراقبون لجميع الأمور التنفيذية والإدارية، وإدارة التخطيط في البلاد. الفقهاء أمناء في إجراء الأحكام الإلهية، وأمناء في استلام الضرائب، وحفظ الثغور، واقامة الحدود. فيجب أن لا يتركوا قوانين الإسلام معطَّلة، أو يسمحوا بأن يزاد فيها وينقص. إذا أراد الفقيه إقامة حد الزنا على الزاني، فيجب أن يقوم بذلك بالشكل المحدد، فيأتي به أمام الناس، ويجلده مئة جلدة. فلا يحق له أن يضربه ضربة إضافية، ولا أن يفحش له بالقول، ولا أن يصفعه أو يحبسه يوماً واحداً.
وكذلك إذا قام باستلام الضرائب، فيجب أن يقوم بذلك طبق موازين الإسلام، أي يعمل وفقاً للقانون الإسلامي. فلا يحق له أن يأخذ فلساً واحداً زائداً. ويجب ألاَّ يسمح بوقوع الفوضى في بيت المال، أو بضياع فلس واحد. فلو قام الفقيه بعمل ما خلاف موازين الإسلام، فقد ارتكب فسقاً ـ والعياذ بالله ـ ينعزل عن الحكم تلقائياً، لأنه قد سقط عن كونه أميناً.
الحاكم في الحقيقة هو القانون. والجميع في كنف القانون وأمانه. والشعب والمسلمون أحرار ضمن دائرة الأحكام الشرعية، أي بعد أن يعملوا طبق المقررات الشرعية عندئذٍ لا يحق لأحد أن يتحكم بتصرفاتهم. إذ لا مجال لشيء من هذا، فلهم حريتهم. وهكذا تكون حكومة العدل الإسلامية، فهي ليست كتلك الحكومات التي تسلب الشعب الأمن، وتجعل الناس يرتجفون في بيوتهم خوفاً من مفاجآتها وأعمالها . كما كان الأمر في حكومة معأوية وأمثالها من الحكومات، حيث سلب الناس الأمن، وكانوا يقتلون أو ينفون، أو يسجنون مدداً طويلة على التهمة، أو مجرد الاحتمال.
تلك لم تكن حكومة إسلامية. فعندما تقام الحكومة الإسلامية يعيش الجميع في ظلها بأمن تام، دون أن يحق لأي حاكم أن يقوم بأي تصرفات مخالفة لأحكام وقانون الشرع المطهر.
إذاً فمعنى الأمين هو أن يقوم الفقيه بتطبيق جميع مقررات الإسلام على نحو الامانة، لا يقوم ببيان الأحكام فحسب. فهل الامام مجرد مبين للأحكام والقوانين فقط؟ وهل كان دور الانبياء مقتصراً على بيان الأحكام؛ ليكون الفقهاء أمناءهم في ذلك فحسب؟ لاشك أن بيان المسائل والقوانين من جملة الوظائف الفقهية، لكن الإسلام ينظر للقانون نظرة آلية، أي يعتبره وسيلة لتحقيق العدالة في المجتمع، ووسيلة للاصلاح العقائدي والأخلاقي وتهذيب الانسان. إنما الغاية من القانون هي اقامة وتطبيق الأنظمة الاجتماعية العادلة، وذلك بهدف تربية الانسان المهذب، لقد كانت الوظيفة المهمة للانبياء هي تطبيق الأحكام، والاشراف، وإدارة الحكومة.
لقد قرأت لكم رواية الامام الرضا (ع) حيث يقول: "لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً حافظاً مستودعاً لدرست الملة...". لقد ذكر (ع) ذلك كقاعدة عامة، فالناس يحتاجون إلى قيّم حافظ أمين. وفي هذه الرواية يقول المعصوم (ع) ان الفقهاء أمناء الرسل. فيستفاد من هذا الصغرى والكبرى أن الفقهاء يجب أن يكونوا رؤساء الأمة، لكي لا يسمحوا باندراس الإسلام وتعطيل أحكامه. وبما أن الفقهاء العدول لم يقيموا الحكومة في البلاد الإسلامية، ولم تطبق ولايتهم، فقد اندرس الإسلام، وعطَّلت أحكامه، وتحققت كلمة الامام الرضا (ع). وقد اثبتت التجربة صحة ذلك للجميع.
ألم يصبح الإسلام مندرساً في هذه الأيام، حيث أحكام الإسلام لا تنفذ في البلاد الإسلامية، ولا تطبق الحدود، وقد زال النظام الإسلامي، وسادت الفوضى والاهواء؟ هل يتحقق الإسلام بأن تكتب مفاهيمه في الكتب فحسب، فتكتب في الكافي مثلاً، ثم يوضع جانباً؟ فهل يكون قد حفظ الإسلام إذا لم تطبق الأحكام في الواقع الخارجي، ولم تنفذ الحدود، ولم ينل السارق جزاءه، ولا وصل للظالم والناصب والمختلس عقابه؟ واقتصروا على تقديم الاحترام للقانون مع وضعه جانباً، وقمنا بتجليل القرآن والمحافظة عليه، وقرأنا سورة "يس" كل ليلة جمعة؟
لقد وصل الأمر بنا إلى هذا الحد، لأن الكثير منا لم يفكر أصلاً أن الأمة الإسلامية يجب ان تدار من خلال الحكومة الإسلامية، فلم يقتصر الأمر على عدم اقامة النظم الإسلامية في البلاد الإسلامية، وتطبيق القوانين الفاسدة والظالمة بدلاً من قانون الإسلام، بل لقد بلت أنظمة الإسلام في أذهان السادة العلماء، بنحو صاروا يفسرون "الفقهاء امناء الرسل" بانهم أمناء في بيان الأحكام. فيتغافلون عن آيات القرآن، ويؤولون جميع هذه الروايات التي تدل على أن علماء الإسلام ولاة في زمن الغيبة، بأن المراد منها "بيان الأحكام". فهل القيام بالامانة يكون بهذا النحو؟ ألا يجب على الأمين أن لا يسمح بتعطيل أحكام الإسلام، أو ببقاء المفسد دون عقاب؟ وأن لا يسمح بحصول هذه الدرجة من الفوضى والميل والحيف في الضرائب ومدخول البلاد، وبحصول مثل هذه التصرفات المرفوضة؟ من الواضح أن هذا من واجبات الأمين. ووظيفة الفقهاء هي أن يقوموا بالامانة، وعندها سيكونون أمناء وعدولاً.
|