ولاية الفقيه من خلال الروايات
الفقهاء العدول خلفاء الرسول الأكرم (ص) :
من الرويات التي لا اشكال في دلالتها هذه الرواية: قال أمير المؤمنين (ع) : قال رسول الله (ص) : اللهم ارحم خلفائي (ثلاث مرات) قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يأتون بعدي، يروون حديثي وسنتي فيعلَّمونها الناس من بعدي".
نقل الشيخ الصدوق (رحمه الله) هذه الرواية في كتب: معاني الاخبار وعيون اخبار الرضا والمجالس من خمسة طرق ـ والتي تصبح اربعة طرق تقريبا، لأن طريقين منها مشتركان من بعض الجهات ـ في الموارد التي ذكرت فيها مسندة في أحدها "فيعلمونها"، بينما في بقية الموارد "فيعلمونها الناس". وحيث ذكرت مرسلة فالموجود هو صدر الرواية فحسب، وليس فيها جملة: فيعلمونها الناس من بعدي.
ونحن نتكلم حول هذه الرواية بناءً على فرضين:
فلنفرض أن الرواية هي واحدة، وجملة "فيعلمونها" قد زيدت في ذيل الحديث. أو أن الجملة المذكورة قد كانت موجودة لكنها سقطت. وسقوط الجملة أقرب للواقع، لأنه لو كانت قد أضيفت لا يمكن القول أن ذلك كان خطأ أو اشتباها، لأنه ـ وكما ذكرنا ـ فالرواية واردة من عدة طرق، ورواة الحديث أيضاً كانوا يعيشون متباعدين عن بعضهم: فأحدهم في بلخ، والآخر في نيشابور، والثالث في مكان آخر. وبهذا الحال لا يمكن أن تكون هذه الجملة قد أضيفت عمدا. ومن المستبعد أن يرد في أذهان ثلاثة أشخاص متباعدين عن بعضهم أن يضيفوا جملة كهذه إلى الحديث. بناءً على هذا إذا كانت الرواية متحدة، فنحن نقطع بأن جملة "فيعلمونها" ساقطة من الرواية في الطريق التي نقلها به الشيخ الصدوق (رحمه الله) وقد سقطت من قلم النساخ، أو أن الشيخ الصدوق (رحمه الله) لم يذكرها.
الغرض الآخر هو أن يكون هناك حديثان: الأول من دون جملة "فيعلمونها" والآخر قد ورد مع هذه الجملة. بناء على كون الجملة المذكورة في الحديث، فهي قطعاً لا تشمل أولئك الذين شغلهم نقل الحديث، دون أن يكون لهم من أنفسهم رأي أو فتوى، ولا يمكن القول ان بعض المحدثين الذين لا يفهمون الحديث أصلاً، والذين هم مصداق لقوله (ع) «رب حامل فقه ليس بفقيه» ومثلهم كمثل آلة التسجيل يأخذون الاخبار والروايات ويكتبونها، ثم يضعونها في متنأول الناس لا يمكن القول أن هؤلاء خلفاء (للرسول) ويعلمون العلوم الإسلامية للناس. وبالطبع فإن المشقات التي تحملوها لأجل الإسلام والمسلمين محل تقدير، كما كان الكثير منهم أيضاً فقهاء ومن أصحاب الرأي، كالكليني (رحمه الله) والشيخ الصدوق ووالده (رحمهما الله) الذين كانوا فقهاء ويعلمون الناس الأحكام والعلوم الإسلامية.
نحن عندما نقول ان الشيخ الصدوق (رحمه الله) يختلف عن الشيخ المفيد (رحمه الله) فليس مرادنا أن الشيخ الصدوق لم يكن يمتلك الفقاهة، أو أن فقاهته كانت أقل من الشيخ المفيد. فالشيخ الصدوق (رحمه الله) هو الذي قام بشرح جميع أصول وفروع المذهب في مجلس واحد، لكن اختلافه عن الشيخ المفيد (رحمه الله) هو أن الشيخ المفيد وأمثاله هم من المجتهدين الذين يعملون نظرهم في الروايات والاخبار، بينما الصدوق (رحمه الله) من الفقهاء الذين لا يعملون نظرهم، أو يعملونه بمستوى اقل.
فالحديث يشمل أولئك الذين يقومون بنشر العلوم الإسلامية وبيان أحكام الإسلام، ويربون الناس ويُعدُّونهم للإسلام لكي يعلموا الآخرين، كما كان رسول الله (ص) والائمة (ع) ينشرون الأحكام الإسلامية، فقد كانت لهم حوزات تدريس، وقد انتهل من مدرستهم عدة آلاف من المتعلمين، وكانوا مكلفين بتعليم الناس. فمعنى "يعلمونها الناس" هو نفس نشر العلوم الإسلامية واشاعتها بين الناس وإيصال الأحكام الإسلامية لهم. عندما نقول ان الإسلام لجميع شعوب الدنيا، فمن الواضح أن المسلمين وخصوصاً علماء الإسلام مكلفون بنشر الإسلام والأحكام الإسلامية وبيانها لشعوب العالم.
ولو قلنا أن جملة "يعلمونها الناس" لم تكن في ذيل الحديث، فيجب أن نرى ما معنى قول الرسول الأكرم (ص) "اللهم ارحم خلفائي... الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي" ففي هذه الصورة أيضاً فإن الرواية لا تشمل رواة الحديث الذين هم ليسوا بفقهاء، وذلك لأن السنن الالهية التي هي عبارة عن جميع الأحكام، انما سميت بسنن رسول الله (ص) لكونها وردت على لسان النبي الأكرم (ص). إذاً فالذي يريد نشر سنن الرسول الأكرم (ص) يجب أن يعرف جميع الأحكام الإلهية، ويشخص الصحيح من السقيم، وأن يكون ملتفتاً إلى الاطلاق والتقييد والعام والخاص وأنحاء الجمع العقلائي وان يميَّز الروايات الواردة أثناء التقية عن غيرها، وأن يعرف الموازين التي حدَّدوها لذلك. والمحدثون الذين لم يصلوا مرتبة الاجتهاد، وانما يقومون بنقل الحديث فحسب، لا يعرفون هذه الأمور، ولا يستطيعون تشخيص السنّة الواقعية لرسول الله (ص) وهذا لا قيمة له في نظر النبي (ص)، فمن المسلم أنه (ص) لا يريد أن يروِّج بين الناس "قال رسول الله (ص) " "وعن رسول الله (ص) " حتى لو كان كذبا، ولم يكن عنه (ص) وإنما مراده أن تنتشر بين الناس السنّة الواقعية والأحكام الحقيقية للإسلام. رواية "من حفظ على امتي أربعين حديثا حشره الله فقيهاً" والروايات الأخرى التي وردت في تمجيد نشر الأحاديث لا تتنأول المحدثين الذين لا يفهمون معنى الحديث أصلا، وإنما هي تتحدث عن أولئك الذين يستطيعون تشخيص حديث الرسول الأكرم (ص) المطابق للحكم الواقعي للإسلام. وهذا لا يمكن إلا للمجتهد والفقيه الذي يزن جميع الجوانب وقضايا الأحكام، ويستخرج الأحكام الواقعية للإسلام طبقا لما لديه من موازين، الموازين التي حددها الإسلام والائمة (ع)، فهؤلاء هم خلفاء رسول الله (ص) الذين دعا لهم (ص) بقوله:"اللهم ارحم خلفائي". بناء على هذا فلا ترديد في أن رواية "اللهم ارحم خلفائي" لا تشمل الرواة للاحاديث الذين لهم "حكم الكاتب" فحسب، فالكاتب والمقرر لا يستطيع أن يكون خليفة رسول الله (ص) فالمراد بالخلفاء فقهاء الإسلام. ونشر وتعليم الأحكام وتربية الناس انما هو للفقهاء العدول، إذ لو لم يكونوا عدولا فسيكونون كالقضاة الذين يضعون الاحاديث ضد الإسلام، كمثل سمرة بن جندب الذي وضع رواية ضد أمير المؤمنين (ع). وإذا لم يكونوا فقهاء لا يستطيعون فهم ما هو الفقه، وماهو حكم الإسلام. ومن الممكن أن يقوموا بنشر آلاف الروايات المجعولة من قبل اعوان الظلمة وعلماء البلاط في مدح السلاطين.
وانكم لتلاحظون ما قاموا به من تأثير بواسطة روايتين ضعيفتين وجعلوهما في مقابل القرآن الكريم الذي يحث على الثورة ضد سلاطين الجور بكل قوة ويدفع بموسى (ع) للثورة ضد السلاطين. وفضلا عن القرآن، فقد وردت أحاديث كثيرة حول مقأومة الظلمة، والذين يتصرفون في أمر الدين وقد وضع المتقاعسون كل ذلك جانبا، وتمسكوا بهاتين الروايتين الضعيفتين اللتين ربما كان وعاظ السلاطين قد وضعوهما، وجعلوهما مستنداً للزوم التكيُّف مع السلاطين والدخول في بلاطهم! لو كان هؤلاء من أهل الحديث والمعرفة بالدين، لعملوا بالروايات الكثيرة الواردة ضد الظلمة، ولو كانوا من أهل الرواية أيضاً فليسوا عدولاً، لأنهم لو كانوا عدولا ومن مجتنبي المعاصي لما صرفوا انظارهم عن القرآن وجميع هذه الروايات، وتمسكوا بروايتين ضعيفتين! إنها بطونهم تلك التي دعتهم للتمسك بهاتين الروايتين، لا العلم! إنها البطن وحب الجاه هما اللذان يجعلان الانسان من أهل البلاط، لا الحديث.
على أية حال فنشر العلوم الإسلامية والأحكام بيد الفقهاء العدول من أجل تمييز الأحكام الواقعية عن غيرها، وتشخيص الروايات الصادرة عن الأئمة (ع) بالتقية. لأننا نعلم أن أئمتنا (ع) كانوا يعيشون أحيانا في ظل ظروف لاتمكنهم من بيان الحكم الواقعي. إذ كانوا مبتلين بحكام الظلم والجور، وكانوا يعيشون في حالة شديدة من التقية والخوف (وبالطبع فإن خوفهم كان على المذهب لا على انفسهم) ففي بعض الموارد لو لم تستعمل التقية، لكان الحكام الظلمة قد قاموا باجتثاث جذور المذهب.
وأما دلالة الحديث الشريف على ولاية الفقيه، فلا ينبغي أن يكون محل تردد. إذ أن الخلافة هي: الخلافة في جميع شؤون النبوة. وجملة "اللهم ارحم خلفائي" لا تقل عن جملة "علي خليفتي" ومعنى الخلافة فيها ليس سوى معنى الخلافة في الجملة الثانية. وجملة "الذين يأتون" لم يكن أمرا مجهولا في صدر الإسلام لكي يحتاج للبيان. والسائل أيضاً لم يسأل عن معنى الخلافة، وإنما طلب معرفة الأشخاص، فعرفهم النبي (ص) بهذا الوصف. والذي يدعوا إلى التعجب انه لم ير أحد في جملة "علي خليفتي" محلا للسؤال، وقد استدلوا بها على خلافة وحكومة الأئمة (ع). لكن عندما وصلوا إلى جملة "خلفائي" توقفوا. ولا مبرر لذلك، إلا أنهم ظنوا أن خلافة رسول الله (ص) محدودة بحدود معينة، أو خاصة باشخاص معينين. وبما أن الأئمة (ع) كل منهم خليفة له (ص)، فلا يمكن أن يكون العلماء حكاما وقادة وخلفاء بعد الأئمة، ويجب أن يبقى الإسلام بلا رئيس، وأن تعطل أحكام الإسلام، وأن تسلم ثغور الإسلام لأعداء الدين، ثم راجت كل هذه الاعوجاجات التي لا تمت للإسلام بصلة.
|