متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الفصل الثاني: الإمام الأستاذ في ميدان التدريس
الكتاب : قبسات من سيرة الإمام الخميني ج4    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

الإمام الأستاذ في ميدان التدريس

 
رأي فقهاء الجمهور في البيعة

ولننظر الان الى راي فقهاء الجمهور في البيعة وقيمتها التشريعية:

يرى عامة فقهاء السنة أن الامامة والولاية تنعقد للفقيه المتصدي بصورة فعلية وناجزة ببيعة جمع من أهل الحل والعقد يمثلون عادة ارادة مساحة واسعة من الامة او ببيعة مباشرة من شريحة كبيرة من الامة. بكيفية وكمية يعتد بها عادة في امثال هذه المسائل التي يربطها الشارع بارادة الجمهور، اذ كان الفقيه يستجمع الشروط التي يطلبها الشارع في الامام.

والى هذا الراي يذهب جمهور فقهاء أهل السنة ومتكلميهم، وفيما يلي نذكر بعض كلمات هؤلاء الاعلام.

1ـ يقول ابو الحسن علي بن محمد الماوردي المتوفي 450هـ: (فاذا اجتمع اله العقد والحل للاختيار تصفحوا احوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً، واكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس الى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعه، فاذا تعين له من بين الجماعة من اداهم الاجتهاد الى اختياره عرضوها عليه، فان اجاب اليها بايعوه عليها، وانعقدت بيعتهم له الامامة فلزم كافة الامة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته)[1].

2ـ يقول الماضي عبد الجبار في (المغي) المتوفي في 415( وان اقام بعض اهل الحل والعقد اماماً سقط وجوب نصيب الامام عن الباقين، وصار من اقاموه اماماً، ويلزمهم اظهار على ذلك بالمكاتبة والمراسلة لئلا يتشاغل غيرهم بامام غيره، وقد وقعت الكفاية، ولئلا يؤدي ذلك الى الفتنة، فعدم مبايعة سائر افراد الامة لا يؤثر في انعقاد الامامة ، لان العقد تم بمجرد مبايعة اهل الحل والعقد، ولا يكون العقد صحيحاً اذا لم يبايع الامام اله الحل والعقد)[2].

3ـ وقال ابو عبد الله القرطبي (671) هـ في (الجامع لأحكام القرآن) ( الطريق الثالث لإثبات الإمامة: اجماع اهل الحل والعقد. وذلك ان الجماعة في مصر من انصار المسلمين اذا مات امامهم ولم يكن لهم امام ولا استخلف فاقام اهل ذلك المصر الذي هو حضره الامام وموضعه اماماً لانفسهم اجتمعوا عليه، ورضوه، فان كل من خلفهم من المسلمين في الآفق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الامام اذا لم يكن الامام معلناً بالفسق والفساد، لانها دعوة محيطة بهم تجب اجابتها، ولايسع احد التخلف عنها لما في اقامة امامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البينن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ثلاث لا يفل عليهم قلب مؤمن اخلاص العمل لله ولزوم الجماعة ومناصحة ولاة الامر))، فان دعوة المسلمين من ورائهم محيطه))[3].

4 ـ ويقول ابن  تيمية المتوفي 728هـ في كتابه(منهج السنة): (الامامة عندهم ـ اهل السنة ـ تثبت بموافقة اهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل اماماً حتى يوافقه أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة. فان المقصود من الامامة انما يحصل بالقدرة والسلطان فاذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار اماماً، ولهذا قال أئمة السنة من صار له قدرة وسلطان فهو ولي الامر الذين امر الله بطاعتهم مالم يأمروا بمعصية الله، فالامامة ملك وسلطان والملك لا يصير ملكاً بموافقة واحد واثنين ولا اربعة الا ان تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكاً بذلك)[4].

5 ـ ويرى (القسلاني) ومن تبعه، ان الامامة تنعقد بعلماء الامة الذين يحضرون موع الإمام وليس لذلك عدد مخصوص[5].

التسامح في عدد المبايعين عند فقهاء أهل السنة:

بل ويتسامح الكثير من فقهاء أهل السنة ومتكلميهم في العدد الذي ينعقد ببيعتهم الإمامة، فمنهم من يحدد الحد الأدنى منه بالأربعين، ومنهم بالخمسة ومنهم من يكتفي بالثلاثة، ومنهم من يكتفي بالاثنين، ومنهم من يكتفي ببيعة رجل واحد في انعقاد الامامة واليك طرف من كلماتهم.

6ـ يقول القاضي عبد الرحمن الايجي الشافعي المتوفي 756في (المواقف): (وثبت الامامة ببيعة أهل الحل والعقد، خلافاً للشيعة. ثم قال: (اذا ثبت حصول الامامة بالاختيار والبيعة فاعلم ان ذلك لا يفتقر الى الاجماع، اذ لم يقم دليل من العقل او السمع بل الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد كاف)[6].

7ـ قال ابو الحسن علي بن محمد الماوردي المتوفي 450هـ في (الاحكام السلطانية): (اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الامامة منهم على مذاهب شتى فقالت طائفة لا تنعقد الا بجمهور اهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عاماً والتسليم لامامته اجماعاً.. وقالت طائفة أخرى تنعقد الامامة بخمسة يجتمعون على عقدها او يعقدها احدهم برضا الاربعة استدلالاً بامرين: احدهما ان بيعة ابي بكر (رض) انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها.. والثاني ان عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لاحدهم برضا الخمسة وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين . وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها احدهم برضا الاثنين.. وقالت طائفة أخرى تنعقد بواحد لأن العباس قال لعلي رضوان الله عليهما: امدد يدك ابايعك، فيقول الناس: عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان)[7].

8 ـ وذهب الجبائي من المعتزلة الى (ان الامامة تنعقد بخمسة يجتمعون على عقدها[8]. وذكر جلال الدين المحلي في شرحه على منهاج الطالبين للنوري ان الامامة تنعقد بالبيعة من قبل اربعة [9] ونقل أنها تنعقد بمبايعة ثلاثة لانها جماعة لا يجوز مخالفتهم)[10].

وقيل ان الامامة تنعقد ببيعة رجلين من اهل الورع والاجتهاد، وهو رأي منسوب الى سليمان بن جرير الزبدي وطائفة من المعتزلة[11].

ويذهب عدد من الفقهاء الى انعقاد الامامة ببيعة شخص واحد فقط كما ذكرنا.

9 ـ يقول امام الحرمين الجويني المتوفي في 478هـ في (الارشاد الى قواع الادلة في اصول الاعتقاد): (اعلموا انه لا يشترط في عقد الامامة اجماع، بل تنعقد الامامة وان لم تجمع الامة على عقدها.. فاذا لم يشترك الاجماع في عقد الامامة لم يثبت عدد معدود ولاحد محدود فالوجه الحكم بان الامامة تنعقد بعقد واحد من اهل الحل والعقد)[12].

10 ـ ويقول القرطبي المتوفي 671هـ في تفسيره(الجامع لاحكام القرآن):

(فان عقدها واحد من اهل الحل والعقد، فذلك ثابت ويلزم الغير فعله، خلافاً لبعض الناس، بحيث قال: لا تنعقد الا بجماعة من اهل الحل والعقد.. قال الامام ابو المعالي: من انعقدت له الامامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير امر. قال: وهذا مجمع عليه)[13].

11ـ ويروي عبد القاهر البغدادي عن ابي الحسن الاشعري توفي سنة 330هـ (ان الامامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واح من اهل الاجتهاد والورع، اذا عقدها لن يصلح لها فاذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته)[14].

12ـ ويقول البزدوي: (وحك عن الاشعري انه قال: اذا عقد واحد من اهل الرأي والتدبير، وهو مشهور لواحد هو افضل الناس عقد الخلافة يصير خليفة)[15].

وقد اشترط بعضهم في انعقاد الامامة بواحد الاشهاد على البيعة.

13ـ يقول النوري في الروضة : (الاصح انه لا يشترط الاشهاد ـ ان كان العاقدون جمعاً، وان كان واحد اشترط الاشهاد)[16].

هل تنعقد الامامة بالثورة المسلحة من دون بيعة؟

يذهب جمهور فقهاء السنة الى انعقاد الامامة للحاكم بالثورة المسلحة والسيطرة على مراكز الحكم واسقاط نظام الحكم السابق، وفرض الادارة الجديدة بالقوة العسكرية، ولا يحتاج انعقاد الامامة حينئذ الى عقد البيعة من قبل جمهور المسلمين او من جانب اهل الحل والعقد. وهذ مذهب معروف وقديم عند اهل السنة.

14 ـ يقول ابو يعلي الفراء: (فقال ـ أحمد بن حنبل ـ في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمّي أمير المؤمنين فلا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت ولا يراه اماماً براً كان او فاجراً). قال (احمد) ايضاً في رواية ابي الحرث: (اذا خرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم، تكون الجمعة مع من غلب)، واحتج بان ابن عمر صلى بأهل المدينة في زمن الحرة، قال: (نحن مع من غلب)[17].

15 ـ ويقول التفتازاني في شرح المقاصد: (اذا مات الامام وتصدى للامامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف وقهر الناس بشوكة انعقدت له الخلافة، وكذا اذا كان فاسقاً او جاهلاً على الاظهر، وتجب طاعة الامام مالم يخالف حكم الشرع سواء كان عادلاً او جائراً)[18].

يقول الدكتور محمد رأفت عثمان: (وجمهور العلماء على انعقادها بهذا الطريق سواء كانت شروط الامامة متوافرة في هذا المتغلب او لم تتوافر فيه، حتى ولو كان المتغلب فاسقاً او جاهلاً انعقدت امامته[19]بل لو تغلب امرأة على الامامة انعقدت لها[20]وكذا اذا تغلب عليها عبد[21] وذلك لان العلماء ينظرون الى انه لو قيل بعدم انعقاد امامة المتغلب لأدى ذلك الى وقوع الفتن بالتصادم بين المتغلب ومعاونيه وبين الامام الموجود ومن يقف بجانبه ولا نتشر الفساد بين الناس بعدم انعقاد الاحكام التي صدرت عن هذا المتغلب، وان من يتولى امامة المسلمين بعده عليه ان يقيم الحدود اولاً ويأخذ الجزية ثانياً.

بل ان العلماء نصوا على انه لو تغلب آخر على هذا المتغلب فعقد مكانه انعزل الاول وصار الثاني اماماً[22]، فالعلماء يقارنون بين نوعين من الشر، فيختارون اهونها الى الأمة،ولا يفتون بتعريضها لاعظم الشرين)[23]

مناقشة رأي فقهاء الجمهور

وهذا دليل لا يسلم عن المؤاخذة والمناقشة.

ونلخص مؤاخذاتنا على هذا الاستدلال في نقطتين:

النقطة الاولى: ان الاصل في الموقف الشرعي من الفئات الظالمة التي تغتصب السلطة ليس هو الاستسلام والقبول او الانقياد، وانما الموقف الاسلامي هو الرفض والرد والمواجهة وتحريم الركون، وهو الموقف الصريح في القرآن يقول تعالى: ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)[24].

ويقول تعالى:  ( وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ151 الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)[25].

ويقول تعالى:( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[26].

ويقول تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا)[27].

وقد يتفق ان تعجز الامة عن تأدية فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتسقط عنها هذه الفريضة الاسلامية ويرتفع عنها وجوب الرد، والمقاومة، فما اذا كان من غير الممكن احباط الثورة المسلحة ونصرة الامام العادل المغلوب على امره وتمكينه من الحكم، وكانت المقاومة تعود على الامة بمردود سلبي ضره أكثر من نفعه وتؤدي الى تمكين الظالمين من ابادة الفئة المؤمنة المقاومة، ولكن هذه الحالة استثناء وليس بأصل، والاصل هو المقاومة، ولا ينفي هذا الاستثناء في ظرفه الخاص به، الا ان الاسثناء لا يجوز ان يتحول الى الاصل ، وعندما نستعرض كلمات هؤلاء الاعلام نجد انهم يقررون الحكم بالتسليم والركون والانقياد وحرمة المعارضة والمقاومة على نحو الاصل وليس على نحو الاستثناء، وقد قرأنا قبل قليل كلمة الامام احمد برواية عبدوس بن مالك القطان: (ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل أحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت ولا يراه اماماً ، وبراً كان او فاجراً).

وحتى فيما اذا كان من غير الممكن اعادة الولاية والامامة الى اهلها واقتضى الامر التسليم، فان هذا التسليم امر مؤقت، وعلى المسلمين العمل والاعداد لاسقاط الحاكم الظالم،ويجب العمل لهذا الاعداد حتى في فترة التسليم ومسايرة النظام الحاكم.

وهذه كلها حقائق واضحة لايمكن التشكيك فيها، بينما يذهب جمهور فقهاء اهل السنة الى وجوب الانقياد.

وجوب الانقياد للحاكم المتسلط(التسليم له وقبول امامته وحرمة معارضته من دون قيد او شرط ولا مبرر على الاطلاق لمثل هذا الاطلاق).

النقطة الثانية: إن مآل هذه الاستدلال ـ اذا سلم من المؤاخذة الاولى ـ الى قاعدة الضرر المعروفة لدى الفقهاء والتي تبتني على الحديث المعروف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( لا ضرر ولا ضرار).

وتقرير الاستدلال بقاعدة الضرر ان تحريم الركون الى الظالمين ووجوب المقاومة والرفض عندما يتسبب للفئة المؤمنة بضرر بليغ، ويكون ضرره اكبر من نفعه يختص بغير حالة الاضرار بالمكلف، فان قاعدة الضرر ترفع الحكم بتحريم الركون الى الظالم ووجوب مقاومته مادام هذا التحريم والوجوب يكون سبباً في الاضرار بالمؤمن. إذن فان قاعدة الضرر ترفع اطلاق الحكم بالحرمة عن قوله تعالى: ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ) وترفع النهي عن طاعة المسرفين في قوله تعالى: ( وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ)، وليس من شك ان القاعدة حاكمة على اطلاقات الاحكام الاولية بمعنى انها تضيق المحمول في هذه الاطلاقات وتقيده بما اذا لم يكن ضررياً، فاذا كان ضررياً ارتفع الحكم بموجب دليل هذه القاعدة، كما ان وجوب الصلاة والوضوء والصوم في اطلاقات الصلاة والصوم  يرتفع في حالات الضرر بمقتضى قاعدة الضرر وهذا احد نحوي الحكومة، والنحو الاخر للحكومة هو تصرف الدليل الحاكم في موضوع الدليل المحكوم بالتوسعة او التضيق.

ومهمة دليل قاعدة الضرر هو التصرف في ناحية المحمول ورفع الحكم (المحمول) فيما اذا كان ضررياً، والحكم الذي يرفعه دليل قاعدة الضرر اعم من ان يكون حكماً تكليفياً كما في الامثلة المتقدمة او حكماً وضعياً كاللزوم في المعاملات الضرورية.

فان دليل قاعدة الضرر ينشأ منه الضرر على المكلف سواءاً كان حكماً تكليفياً كوجوب الصلاة والصيام، او حكماً وضعياً اللزوم في المعاملة.

ولي الدليل (الضرر) تأثير في وضع الحكم الذي يكون عدمه ضرورياً للمكلف سواءاً في ذلك الحكم الوضعي او الحكم التكليفي. فان دليل (لا ضرر ولا ضرار) لا يزيد مقتضاه على النفي ورفع الكم الذي يتسبب في اشرار المكلف، دون اثبات الاحكام التكليفية والوضعية التي يتضرر المكلف من عدمها.

ولذلك يقول الفقهاء ان دليل الضرر رافع فقط وليس بمشرع، ولا واضع، فلا يمكن اثبات الضمان مثلاً بقاعدة الضرر في المعاملات التي يترتب فيها الضرر على عدم الضمان.

وعليه فلا يمكن الاستدلال بهذا الدليل اذا صح الاستدلال به في اكثر من رفع الالزام بمعارضة الحاكم الظالم المتغلب ، ورفع وجوب النهي عن المنكر، ومقاومة الفئة الظالمة المتغلبة على الامر، وهذه هو اقصى ما يمكن استفادته من دليل الضرر الذي هو روح الاستدلال الذي قرأناه في النص المتقدم، ولا يتكفل دليل الضرر قطعاً اثبات شرعية الادارة التي قامت بصورة غير مشروعة وانعقاد الامامة للحاكم الذي فرض سلطانه على المسلمين بالانقلاب العسكري، من دون بيعة ورضىً من المسلمين، كما لا يثبت دليل الضرر صحة الزواج الذي يعقده الحاكم الذي جاء بطريقة غير مشروعة لغير البالغة ولغير البالغ، ولا يثبت حق الحاكم في اجراء الحدود الشرعية، او شرعية نزع الاملاك وجباية الاموال، فان مقتضى دليل الضرر كما ذكرنا لا يزيد على الرفع ولا يصل الى مرحلة الوضع.

وليس ما وراء هذا الدليل دليل آخر للحكم بوجوب الانقياد للظالم المتغلب على البلاد. 

شرط الفقاهة في صحة بيعة ولي الأمر

ونخصص هذا الشرط من شروط صحة البيعة بتفصيل أكثر من وجهة نظر المذاهب الفقهية الاسلامية المختلفة.

اما عند الشيعة الامامية فلا نكاد نجد خلافاً يذكر في هذه المسألة، فمن قائل بتخصيص الولاية بخصوص الفقيه، وقائل بان الفقاهة هو المقدار المتيقن من شرعية الولاية.

وقد وردت طائفة من النصوص في اشتراط الاجتهاد والفقاهة في ولي الأمر.

وفيما يلي نذكر جملة من هذه النصوص:

منها ما رواه حسن بن شعبة عن السبط الشهيد الحسين عليه السلام: (مجاري الامور والاحكام على ايدي العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه)[28].

وعن الفضيل بن يسار قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام: يقول: (من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أعلم منه فهو ضال مبتدع)[29].

وروى البرقي في المحاسن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: (من أمّ قوماً وفيهم أعلم منه او افقه منه لم يزل امرهم في سفال الى يوم القيامة)[30]

وعن علي عليه السلام: (ايها الناس ان احق الناس بهذا  الامر اقواهم عليه، واعلمهم بأمر الله فيه، فان شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل)[31].

ومن طرق السنة روى البيهقي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم ان فيهم اولى بذلك منه، واعلم بكتاب الله وسنة نبيه، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين)[32].

ويذهب الى اشتراط الفقاهة والاجتهاد في (ولي الأمر) جمهور فقهاء اهل السنة . يقول السيد شريف الجرجاني من المتكلمين في شرحه على المواقف للقاضي عضد الدين الايجي: (.. الجمهور على ان اهل الامامة ومستحقها من هو مجتهد في الاصول والفروع ليقوم بأمر الدين متمكناً من اقامة الحجح، وحل الشبه في العقائد الدينية، مستقلاً بالفتوى في النوازل واحكام الوقائع،نصاً واستنباطاً، لان اهم مقاصد الامة حفظ العقائد وفصل الحكومات ورفع المخاصمات ولن يتم ذلك بدون هذا الشرط)[33].

ومن الفقهاء يقول الامام الشافعي في شروط الامامة : ( والعلم بحيث يصلح ان يكون مفتياً من اهل الاجتهاد)[34].

وذهب ابن الهمام(من علماء الاحناف) الى اشتراط العلم في الامامة، ولم يقيد العلم بخصوص الفقاهة، ويظهر انه يقصد بالعلم ما يمكن الامام من ممارسة دوره في الامامة.

ولكنه اضاف هذا التخصيص فيما بعد فقال: (وزاد كثير الاجتهاد في الاصول والفروع)[35].

ويقول القلقشندي في مآثر الانافة في معالم الخلافة في شروط الامامة : (العلم المؤدي الى لاجتهاد في النوازل والاحكام، فلا تنعقد امامة غير العالم بذلك)[36].

ويقول النووي: (شروط الامامة هي كونه مكلفاً مسلماً عدلاً، حراً، ذكراً، عالماً، مجتهداً)[37].

ويذهب جمع من الفقهاء الى ان اشتراط الفقاهة في الامام مما اجمع عليه الفقهاء، ومن هؤلاء شمس الدين الرميلي يقول: (ان هذا الشرط لا بد منه في الامامة كالقاضي واولي بل حكى فيه الاجماع)[38].

ويدعي الاجماع كذلك صاحب البحر الزخار يقول:(العلم فيجب كونه مجتهداً اجماعاً ليتمكن من اجراء الشريعة على قوانينها)[39]

الوحدة والتعدد في الولاية

التطبيقات التاريخية

هذه المسألة قديمة في التاريخ السياسي والفقهي في الإسلام، واول مرة طرحت فيها هذه المسألة يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في اجتماع المهاجرين والانصار في (سقيفة بني ساعدة) حيث طلب الانصار بعد ان فشل مرشحهم سعد بن عبادة من احراز الخلافة ان يكون لهم امير وللمهاجرين أمير فقال عمر يومئذ(سفيان في غمد واحد لا يصطلحان)[40]. وكتب معاوية الى أمير المؤمنين عليه السلام بعد معركة صفين: (اذا ماشئت .. فلك العراق ولي الشام)[41] فرفض الامام عليه السلام ذلك.

وتكرر طرح هذه المسألة في التأريخ السياسي والفقهي في الاسلام، كما قامت دول اسلامية متعددة باسم الخلافة والشرعية الاسلامية في زمان واحد وفي اقاليم مختلفة من العالم الاسلامي.

الرأي الفقهي في المسألة:

يختلف الرأي الفقهي في هذه المسألة في القطر الواحد، عن الاقطار المتباعدة، فلم يجوزه في القطر الواحد بالاجماع، يقول امام الحرمين الجويني: (ذهب اصحابنا الى منع عقد الامامة لشخصين في طرفي العالم.. والذي عندي فيه ان عقد الامامة لشخصين في مجتمع واحد متضايق الخطط والمخالف[42] غير جائز، وقد حصل الاجماع عليه، واما اذا بعد المدى وتخلل بين الامامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع[43].

واما في الاقطار المتباعدة فقد اختلف فيها الرأي فمنعها جمهور الفقهاء[44]واجازهم بعضهم[45]ومهما يكن من امر فلابد لنا ن ننظر في الادلة التي اقاموها لهذا الامر.

الادلة والحجج.

ذكروا لوحدة الولاية والحاكمية في القطر الواحد وفي الاقطار المتباعدة ثلاثة ادلة وهي:

اولاً: النصوص الاسلامية

فقد روى مسلم في كتابه الجامع الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: (من بايع اماماً فاعطاه صفقة يده وثمرة قلبه وفليطعه ان استطاع فان جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر)[46].

وعن ابي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: (فوا ببيعة الاول فالأول واعطوهم حقهم)[47].

وروى مسلم في (الجامع الصحيح)،والبيهقي في (السنن) عن ابي سعد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (اذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)[48].

وروى مسلم في (الجامع الصحيح) عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: (انه ستكون هنات وهنات، فمن اراد ان يفرق امر هذه الامة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان)[49].

ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: (لأنها بيعة واحدة لا يثني فيها النظر، ولايستأنف فيها الخيار، الخارج منها طاعن، والمروي فيها مداهن)[50].

 ثانياً: الإجماع

فقد رفض المهاجرون طلب الانصار بان يكون لهم أمير وللمهاجرين أمير ثم رضى الانصار بوحدة الامامة فصار اجماعاً.

واستدلوا ثالثاً: بان التعدد في الولاية والامارة يؤدي الى اثارة الخلافات وحدوث الصراع والحرب فيما بين المسلمين، وقد امرنا الله تعالى ان نعتصم بحبله الوثيق ولا نتفرق فقال تعالى: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ)[51]. وقال تعالى: ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)[52].

وقد كان ابو بكر بن ابي قحافة يقول: (لايحل ان يكون للمسلمين اميران، فانه مهما يكن ذلك يختلف امرهم واحكامهم، وتتفرق جماعتهم، ويتنازعوا فيما بينهم، هنالك تترك السنة، وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح)[53].

وقد ذكرنا ان الانصار لما طلبوا من المهاجرين ان يكون منهم رجل ومن المهاجرين رجل، قال عمر بن الخطاب يومئذ: (سيفان في غمد واحد اذن لا يصطلحان)[54].

الاستدلال:

ومهما يكن امر هذه الادلة ومهما قيل في المؤاخذات التي اوردها عليها فان الولاية بشكل عام تنقسم الى قسمين اثنين:

1 ـ الولاية العامة.

2ـ الولاية الخاصة.

والولاية الخاصة هي الولاية التي تثبت لشخص في دائرة محدودة من دوائر حياة الناس، وفي مساحة اجتماعية محدودة من نحو ولاية مدير المدرسة، وولاية مدير العمل على المعمل، وولاية الوزير على الوزارة التابعة له، وهذا القسم من الولايات محدودة المساحة والمسؤولية بطبيعة الحال وهي متعددة وفي عرض واحد وليس فيها تنافس ولا تعارض.

اما الولاية العامة والمطلقة، فهي التي تندرج تحتها الولايات الخاصة وهذه الولايات تأتي في امتداد ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  والأئمة عليهم السلام من بعده وهي تحمل نفس الاطلاق والشمول الذي تحمله ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فان ولاية رسول الله عامة على كل المسلمين ، وكذلك كل ولاية تأتي على امتداد ولاية رسول الله وخلافة الائمة تكون عامة ومطلقة، وبمعنى اولوية صاحبها في التصرف من كل مسلم على نفسه، وهذه الولاية مطلقة، وتعدد الولايات يخل بهذا الاطلاق بالضرورة، فإن وجود اية ولاية في عرض هذه الولاية يكون بمعنى الاستثناء في ولاية الاول على الثاني وعلى من يجب عليه طاعة الثاني من الناس.. وبالتالي يتحقق التزاحم بينهما ولذلك فان الولاية العامة التي تأتي على امتداد ولاية رسول صلى الله عليه وآله وسلم  ولاية مطلقة وشاملة لكل المسلمين، وهذا الاطلاق ينفي شرعية اية ولاية اخرى في عرضها.

وقد وردت طائفة من النصوص في مسألة توحيدج الولاية وحظر حالة التعدد في الولاية من طرق الشيعة الامامية، وفيما يلي نذكر طائفة من هذه الروايات.

النصوص المانعة من التعدد:

روى الصدوق رحمه الله في (علل الشرائع) عن الرضا عليه السلام: (فإن قال: فلِمَ لا يجوز ان يكون في الأرض امامان في وقت واحد او أكثر من ذلك؟ قيل: لعلل:

منها: إن الواحد لايختلف فعله وتدبيره والاثنين لا يتفق فعلمها وتدبيرهما، وذلك انا لم نجد اثنين الا مختلفي الهمم والارادة، فاذا كانا اثنين ثم اختلفت همهمها وارادتهما وكانا كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن احدهما اولى بالطاعة من صاحبه، فكأن يكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد، ثم لا يكون احد مطيعاً لأحدهما إلاّ وهو عاص للآخر، فتعم المعصية أهل الارض، ثم لا يكون مع ذلك السبيل الى الطاعة والإيمان ويكونون انما اوتوا في ذلك من قبل الصانع الذي وضع لهم باب الاختلاف والتشاجر اذا امرهم باتباع المختلفين.

ومنها: انه لا يكون واحد من الحجتين اولى بالنطق والحكم والامر والنهي عن الآخر، فاذا كان هذا كذلك وجب عليهما ان يبتدئا بالكلام وليس لأحدهما ان يسبق صاحبه بشيء اذا كانا في الامامة شرعاً واحداً، فان جاز لا حدهما السكوت جاز السكوت للآخر مثل ذلك. واذا جاز لهما السكوت بطلت الحقوق والاحكام وعطلت الحدود وصار الناس كأنهم لا أمام لهم)[55].

وفي صحيحة الحسين بن ابي العلا، قلت لأبي عبد الله عليه السلام: تكون الأرض لس فيها إمام؟ قال: (لا)، قلت يكون إمامان؟ قال: (لا، إلاّ وأحدهما صامت)[56].

وفي كمال الدين للصدوق عن ابن ابي يعفور انه سأل ابا عبد الله عليه السلام : هل يترك الأرض بغير إمام؟ قال: (لا)قلت: فيكون امامان؟ قال: (لا ، إلاّ واحدهما صامت)[57].

كلمات اعلام اهل السنّة:

وقد صرح اعلام المسلمين بشكل قاطع بعدم جواز تعدد الولاية في بلاد المسلمين، وان حكم السابق من الولاية هو النافذ واللاحق باطل.

ومن هؤلاء التفتازاني في شرحه على العقائد النفسية ص 138، والإمام الشافعي في الفقه الاكبر، الطبعة الاولى، ص 39، واحمد بن يحيى المرتضى ، في البحر الزخار، 5/386، وغيرهم، ونحن ننقل فيما يلي بعض كلمات الاعلام على سبيل الشاهد:

يقول الماوردي المتوفي سنة 450هـ في الاحكام السلطانية:(اذا عقدت الامامة لامامين في بلدين لم تنعقد امامتهما لانه لا يجوز ان يكون للامة امامان في وقت واحد وان شذ قوم فجوزوه).

واختلف الفقهاء في الامام منها، والصحيح في ذلك، وما عليه الفقهاء والمحققون ان الامامة لأسبقهما بيعة وعقداً.. فاذا تعين السابق منهما استقرت له الامامة وعلى المسبوق تسليم الأمر اليه والدخول في بيعته[58].

ويقول ابو العلي محمد بن الحسين الفراء الحنبلي المتوفي سنة 458 هـ.(ولا يجوز عقد الامامة لإمامين في بلدين في حالة واحدة، فان عقد لاثنين وجدت فيهما الشرائط، فان كان في عقد واحد فالعقد باطل فيهما، وان كان العقد لكل واحد منهما على الانفراد، فان علم السابق منهما بطل العقد الثاني)[59].

ويقول السيد صديق حسن في (الروضة الندية في شرح الدرر البهية) : (واذا كانت الامامة الاسلامية مختصة بواحد، والامور راجعة اليه مربوطة به ، كما كان في ايام الصحابة والتابعين، وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء به بعد ثبوت ولاية الاول ان يقتل اذا لم يتب عن المنازعة)[60].

نقض البيعة

نقض البيعة من الذنوب الكبيرة التي وردت نصوص كثيرة في تأكيد حرمتها، وغلظة العقوبة به.

وفيما يلي نورد طائفة من هذه النصوص:

1ـ في المجالس عن علي بن جعفر، عن اخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: (ثلاث موبقات: 1ـ نكث الصفقة. 2ـ ترك السنة. 3 ـ فراق الجماعة)[61].

قال العلامة المجلسي في ايضاح مفردات الحديث نكث الصفقة: نقض البيعة.

2 ـ وفي المحاسن ايضا، عن ابن فضال، عن ابن جميله، عن محمد بن علي الحلبي، عن ابي عبد الله عليه السلام قال: (من خلع جماعة المسلمين قد شبر خلع فريق الإسلام من عنقه، ومن نكث صفقة الإمام جاء الى الله اجذم)[62].

3ـ وفي خصال الصدوق عن جعفر بن محمد عليه السلام، عن ابيه عليه السلام ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قال: (ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة)[63].

4ـ وفي اصول الكافي عن ابي عبد الله عليه السلام: (من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة (الإمام) جاء الله تعالى اجذم)[64].

5ـ وفي نهج البلاغة عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : (ولعمري لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما الى ذلك سبيل.. ولكن اهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد ان يرجع ولا للغائب ان يختار)[65].

ويقصد الامام بالشاهد طلحة وزبير، وبالغائب معاوية.

6ـ وفي كتابه عليه السلام الى معاوية بن ابي سفيان: (انه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد ان يختار ولا للغائب ان يرد)[66].

7ـ وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم من كتاب علي عليه السلام الى معاوية: (امام بعد فان بيعتي لزمتك وانت بالشام لانه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان)[67].

فلا يخص حرمة نقض البيعة الشاهدين فقط، وانما تعم الحاضر والغائب.

8ـ ومن كلام له عليه السلام في الخروج عن طاعة الامام الذي بايعه المسلمون: (فان خرج عن امرهم خارج بطعن او بدعة رده الى ما خرج منه، فان ابي قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين)[68]

صور مختلفة للبيعة

1ـ لابد ان نعرف اولاً: ان الاصل في البيعة على الامرة والولاية هو بيعة المسلمين جميعاً للامام والوالي فان الامام يتم نصبه على رأي بيعة المسلمين وعلى الرأي الاخر تتنجز ولايته بالبيعة، وعلى كل حال فالاصل هو مبايعة المسلمين له جميعاً، واختياره من قبلهم للامامة والولاية بالاجماع والاتفاق.

2ـ إلاّ ان هذا الاصل لايكاد يتحقق عادة، فلا يكاد يتفق المسلمون جميعاً على حاكم وامام، وان اتفق في التاريخ في رقعة من رقاع بلاد المسلمين فهو من النادر الذي بحكم المعدوم.

وعليه فان الادلة على البيعة وانتخاب الامام من قبل المسلمين تنصرف الى البديل الذي يحل محل اجماع المسلمين واتفاقهم عادة في مثل هذه الاحوال.

يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام: (ولعمري لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما الى ذلك سبيل، ولكن اهلها(أهل المدينة) يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد ان يرجع ولا للغائب ان يختار).

وقد سبق ان ذكرنا من قبل ان الحالة البديلة للاتفاق والاجماع في البيعة هي بيعة الأكثرية من الامة واجتماعهم على شخص.

وذلك ان المحتملات في الامر اربعة:

1 ـ اهمال البيعة وبالتالي اهمال امر الولاية وهو حرام قطعاً، كما سبق ان ذكرنا، ولا يجوز.

2ـ اعتماد حالة الاجماع واتفاق الامة جميعاً على شخص واحد، فقط، وهو يكاد ان يكون امراً ممتنعاً او نادراً بحكم الممتنع.

3ـ اعتماد رأي الاقلية ونبذ رأي الاكثرية وهو قبيح.

4ـ اعتماد رأي الاكثرية وطرح راي الاقلية وهو الاحتمال الوحيد المعقول من بين هذه الاحتمالات.

وعليه فيتعين ان تكون بيعة الاكثرية لشخص هو البديل الشرعي لبيعة عموم المسلمين، ويتعين الفقيه لإمامة المسلمين ببيعة الاكثرية.

5ـ وانتخاب ولي الأمر من قبل الاكثرية يتم ضمن واحدة من صورتين:

1ـ الانتخاب المباشر من قبل الامة لولي الأمر.

2ـ انتخاب هيئة من الخبراء من ذوي الرأي والمعرفة من قبل الامة، وهذه الهيئة تتولى انتخاب ولي الأمر من بين الافراد الصالحين ولولاية الامر باكثرية الآراء.

ومآل كل واحدة من هاتين الصورتين واحد وهو انتخاب الاكثرية للفقيه الولي، وذلك كله حيث يمكن انتخاب ولي الامر، بصورة مباشرة، كما في الحالة الاولى او غير مباشرة كما في الحالة الثانية، كما في عصرنا هذا، فان اجراء مثل هذه الانتخابات العامة امر ممكن بما يسر الله تعالى لعباده في هذا العصر من وسائل الاتصال والنقل والادارة والضبط.

6ـ وحيث لا يمكن اجراء انتخابات عامة، كما كان يتفق ذلك كثيراً وغالباً في العصور السابقة، فان الحالة البديلة لإجراء الانتخاب والاختيار العام المباشر وغير المباشر هو ايكال الامر الى جماعة من المسلمين من ذوي الخبرة والمعرفة وممن يضع عامة المسلمين ثقتهم فيه عادة.

وهذه الحالة هي حالة بديلة شرعاً وعرفاً لحالة الاجراء العام للانتخابات وليست لهذه الحالة صيغة محدودة، إلاّ ان المعيار العام فيها هو ان يوكل الامر الى جماعة من المسلمين يملكون الخبرة والمعرفة الكافية ويتمتعون بثقة عامة للمسلمين.

روى الطبري في حوادث بيعة الامام أمير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل الخلفية عثمان بن عفان: (فلما اجتمع اهل المدينة قال لهم اهل مصر انتم اهل الشورى وانتم تعقدون الامامة، وامركم عابر على الامة، فانظروا رجلاً تنصبونه، ونحن لكم تبع، فقال الجمهور علي بن ابي طالب نحن به راضون)[69].

وقد وردت في التاريخ الاسلامي تطبيقات لبيعة أهل الحل والعقد: (الحالة البديلة لبيعة عامة المسلمين) ننقل فيما يلي بعض النماذج منها:

1ـ يقول امير المؤمنين عليه السلام: ( انما الشورى للمهاجرين والانصار، فان اجتمعوا على رجل وسمّوه اماماً، كان ذلك لله رضىً، فإن خرج عن امرهم خارج بطعن او بدعة رده الى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين)[70].

2ـ ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: (انما الناس تبع المهاجرين والانصار، وهم شهود المسلمين في البلاد على ولايتهم وأمر دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولست استحل ان ادع معاوية يحكم على الامة ويركبهم ويشق عصاهم)[71].

3ـ وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: (وجاء الناس يهرعون اليه ـ علي عليه السلام ـ فقالوا له: نبايعك فمد يدك، فلابد من أمير، فقال علي عليه السلام: (ليس ذلك اليكم، انما ذلك الى اهل بدر، فمن رضى بـ(اهل بدر) فهو خليفة)[72].

4ـ وفي كتاب الامامة والسياسة لابن قتيبة: (فقام الناس فأتوا علياً في داره، فقالوا: نبايعك فمد يدك، لابد من امير، انت احق بها، فقال: (ليس ذلك اليكم، انما هو لأهل الشورى وأهل بدر، فمن رضى به اهل الشورى واهل بدر فهو خليفة)[73]

5ـ وفي تاريخ الطبري : (فلما اجتمع اهل المدينة قال لهم اهل مصر: انتم اهل الشورى، وانتم تعقدون الامامة، وامركم عابر على الامة)[74].

6ـ وفي ارشاد المفيد: عن الامام الحسين عليه السلام : (واني باعث الكيم اخي وابن عمي وثقتي من اهل بيتي مسلم بن عقيل، فان كتب الي انه قد اجتمع رأي ملتكم وذوي الحجي والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأت في كتبكم فاني اقدم اليكم وشيكاً)[75].

فهذه اربعة عناوين في صدر الاسلام كل منهما يعتبر تطبيقاً لأهل الحل والعقد الذين يحكمون محل الامة في انتخاب ولي الامر وهي(المهاجرون والانصار) (اهل بدر) أهل المدينة (اهل الحجى والفض).. وهذه العناوين ـ كما ذكرنا ـ لا تتجاوز ان تكون تطبيقاً للعنوان العام لأهل الحل والعقد الذي ذكرناه، وتختلف هذه العناوين من ظرف الى ظرف آخر. 

حدود الولاية

ان اهم العناصر التي ترسم لنا حدود الولاية في الإسلام هي:

1ـ الولاية والطاعة.

2ـ الشورى.

3ـ النصيحة.

وفيما يلي بحث تفصيلي لكل منها: 

الولاية والطاعة

نلتقي في القرآن الكريم مفهومين فيما يتعلق بالحاكمية، وهما: (الولاية) و(الطاعة).

اما الولاية ففي قوله تعالى:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[76].

واما الطاعة ففي قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) [77].

و(الولاية)و(الطاعة) في هاتين الآيتين الكريمتين هما: الخط النازل والخط الصاعد في العلاقة بين الحاكم والرعية. فـ(الولاية): هي الخط النازل في علاقة الحاكم بالرعية.و(الطاعة): هي الخط الصاعد في علاقة الرعية بالحاكم، وهما معاً يعتبران وجهين لقضية واحدة، وهي (الحاكمية). بهما معاً يتم في الإسلام اصلان اساسيان، وهما: حاكمية دين الله على حياة الناس، و(نظام) الجماعة المسلمة في حياتها وحركتها على وجه الارض، ونحن ان شاء الله نتحدث عن (الولاية) اولاً، ثم نتحدث عن (الطاعة) ثانياً.

1ـ الولاية

هذه الكلمة تعتبر من اهم اسس فهم المجتمع الاسلامي، والنسيج الذي يتألف منه هذا المجتمع يعبر عنه القرآن بالأمة الوسط: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).

ونحن لا نريد أن ندخل تفاصيل هذا البحث العميق في الاسلام، وانما نريد فقط ان نقتصر من هذا البحث على العلاقة القائمة بين الإمام والرعية، والتي سميناها بالعلاقة النازلة.

وهذه العلاقة قائمة على اساس فكري واضح ومحدد توضحه الآية 23 من سورة الاحزاب المباركة بصورة دقيقة. يقول تعالى: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ).

وهذا المعنى من (الاولوية) الثابتة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في محكم القرآن هو الثابت لأئمة المسلمين من بعده.

ونحن نبحث عن معنى الولاية الثابتة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في هذه الآية المباركة، ثم نبحث عن تعدية هذه الولاية لأئمة المسلمين وولاة الامر من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

وهذه الآية الكريمة (23) من سورة الاحزاب، واضحة في تشخيص وتحديد العلاقة التي تربط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بهذه الامة: وهي علاقة الاولوية (النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم).

ومعنى (الاولوية): تقديم ارادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  على ارادة المؤمنين بانفسهم، وهذا التقديم نستفيده بشكل واضح من صيغة افعل التفصيل الواردة في الآية المباركة (اولى).

وانما يصح هذا التقديم عندما تتزاحم الارادتان، ارادة الحاكم،وارادة المحكوم، فتقدم في هذه الحالة الارادة النبوية على ارادة المؤمنين.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net