متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
شرح الأبيات الثالث والعشرين الى السادس والعشرين
الكتاب : اللآلي العبقرية في شرح العينيّة الحميرية    |    القسم : مكتبة الأدب و الشعر

[23 ـ 26]

 

حَتّــى إذا وارَوهُ في قَبْــرِهِ * وانْصَرَفُوا عَنْ دَفْنِهِ ضَيّعُوا

ما قالَ بالأمسِ وأوصى بهِ * واشتََــرَوا الضــرَّ بما ينفعُ

وقطَّعوا أرحامَهُ بَعــدَهُ * فسـوفَ يُجزَون َبما قَطَّعوا

و أزمَعُوا غدراً بمــولاهُمُ * تَبّــــاً لما كان بِه أزمَعُوا

اللغة:

«حتى» حرف له ثلاثة أوجه:

منها: أن يكون حرف جر.

ومنها: أن يكون عاطفة.

ومنها: أن يكون حرف ابتداء وهو المقصود هنا، والمراد بكونها حرف ابتداء: أنّها حرف يُبتدأُ ويستأنف بما بعدها، إلاّ أنّه يلزم أن يكون بعدها مبتدأ.

وقيل: بل معناه أنّها تصلح أن يقع بعدها مبتدأ.

وتوهّم بعضهم أنّ معناه أنّ ما بعدها مبتدأ فيقدّرون، نحو: «سرت حتى أدخلها» : حتّى أنا أدخلها.


( 411 )
ولا يخفى عدم اطّراده في كثير من الموارد، كقوله تعالى: (وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ)(1).

وإن التزموا في نحو ذلك نحو الشأن والأمر أو ضمير الشأن، فقد تكلّفوا لما لا داعي إليه.

وهي تفيد الترقّي، إمّا في التعظيم، أو التحقير، والأوّل هو المراد هنا.

وزعم الأخفش وابن مالك وجماعة أنّ «حتّى» الداخلة على «إذا» حرف جرّ، بتقدير «أن» بعدها، ثمّ إنّ الجملة التي بعد «حتى الابتدائية» لا محلّ لها من الإعراب، خلافاً للزجّاج وابن درستويه، حيث زعما أنّها في محلّ جرّ.

ويردّه أنّ حروف الجرّ لا تعلّق عن العمل، بل لابدّ من أن تدخل إمّا على مفرد، أو ما هو بتأويل المفرد.

وأيضاً فإنّهم يكسرون بعدها«إن» فيقولون: مرض فلان، حتى انّهم يرجونه، مع أنّ القاعدة أنّ الواقع بعد حرف الجرّ «أنّ» المفتوحة .

«إذا» إمّا شرطية، أو ظرفيّة محضة، وعلى كلّ فالمراد بها الزمان الماضي.

«وارَوه» ووراه، أي أخفاه وستره، وأصله أن يجعل الشيء وراءه، وهو ملزوم للإخفاء غالباً.

«الصرف»: ردّ الشيء من مكان إلى مكان، أو حالة إلى حالة يقال: صرفته عن كذا وإلى كذا فانصرف.

«دفنه» وأدفنه على «افتعله»: ستره فاندفن وتدفّن. واشتهر في العرف في ستر الميّت في قبره.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة:214.


( 412 )
«ضاع» الشيء يضيع ضيعاً ـ بالفتح أو الكسر ـ وضيَّعة وضياعاً ـ بالفتح ـ: هلك، وأضاع الشيء وضيّعه: أهمله أو أهلكه.

«ما» موصولة أو مصدرية.

«الباء» بمعنى «في» .

«أمس» اسم معرفة متصرّف، أي يستعمل في موضع الرفع والنصب والجرّ: موضوع لليوم الذي يلي اليوم الذي أنت فيه ممّا قبله، فإن استعمل ظرفاً بُني على الكسر كما هو الأصل في البناء على الحركة. خلافاً للزجّاج والزجاجي فإنّهما جوّزا بناءه على الفتح. قيل: وسُمع: رأيته أمس ـ بالتنوين مع الكسر ـ وهو شاذ.

وأجاز الخليل في لقيته«أمس» أن يكون التقدير: لقيته بالأمس، فحذفت الباء والألف واللام، فتكون الكسرة كسرة إعراب.

وزعم قوم منهم الكسائي: أنّه ليس مبنياً ولا معرباً، بل هو فعل أمر متضمّن للضمير محكي من الإمساء، كما لو سمى بأصبح من الإصباح. فإذا قلت: جئتك أمس، كان معناه: جئتك اليوم الذي كنت تقول فيه أمس، ثم كثرت هذه الجملة على ألسنتهم حتى صارت اسماً لذلك اليوم.

وإن استعمل غير ظرف، فالحجازيون يبنونه على الكسر أيضاً فيقولون: ذهب أمس بما فيه، وكرهت أمس، وما رأيته مذ أمس.

وقال سيبويه: إنّه جاء في الضرورة مذ أمس ـ بالفتح ـ وأنشد :

لَقَدْ رأيتُ عَجَباً مُذ أمسا * عجائزاً مثلَ السَّعالي خَمسا(1)

وتميم تعربه وتمنعه من الصرف حال الرفع وتبنيه حالتي النصب والجرّ. وقيل: بل يمنعونه الصرف في الأحوال كلّها. وقيل: بل ينوّنونه تنوين الصرف في

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- كتاب سيبويه: 3/285 و نسبه للعجاج، عن نوادر أبي زيد: 57.


( 413 )
غير النصب على الظرف وإذا انكر، كقولك: مضى لنا أمس حسن، لا يريد به اليوم الذي قبل يومك هذا. أو أُضيف نحو: إنّ أمسنا يوم طيّب، أو أُدخلت عليه الألف واللاّم كما في البيت. أو ثنّي كقولك: مضت لنا أمسان. أو جمع نحو: مرّت لنا أُموس أو أمس أو أماس. و يمكن إدخال الأخيرين في التنكير، أُعرب اتّفاقاً، قال ابن مالك: وكذا إذا صغّر أُعرب اتّفاقاً.

وفيه أنّ سيبويه وغيره نصّوا على أنّه لا يصغّر، ولكن حكي عن المبرّد تصغيره.

وقد جاء مع «أل» مبنيّاً على الكسر، كما أنشدوا قوله:

«وإنّي حسمتُ اليوم والأمسِ قَبلَهُ».

وحكي: لقيته الأمس الأحدث وأول، بزيادة «أل» أو حذف حرف الجرّ مع إبقاء أثره.

ومراد الناظم بـ«الأمس»: للزمان الماضي القريب، وإنّما عبّر بالأمس، مبالغة في التقريب.

«الواو» للعطف، أو الحال.

«أوصى به» ووصّى ، أي عهد به، و الاسم، الوصاء والوصاية والوصيّة.

وقال الراغب:«الوصية»: التقدّم إلى الغير بما يعمل بـه مقترناً بوعظ(1)، ثمّ اشتهر في العرف في العهد بما يفعل بعد الموت.

قال الأزهري وغيره: إنّ أصلها من قولهم: وصّى الشيء بكذا يصيه، إذا وصله به، وأرض واصية، متّصلة النبات، فسمّي هذا التصرف المتضمّن لما بعد الموت وصيّة، لما فيه من وصل القربة الواقعة بعد الموت بالقرابات المنجرّة في

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- مفردات غريب القرآن: 525.


( 414 )
الحياة، أو وصل التصرّف بعد الموت بالتصرّف قبله.

أقول: أو لأنّه أمر للوصي بأن يصله ولا ينقطع عنه، أي يفعله ولا يتركه، وهو عام لما بعد الموت وغيره، وأنسب بالإيصاء أو التوصية، فإنّهما يفيدان زيادة تعدّيه عمّا كان عليه وصى ـ مخفّفاً ـ وتصاريفه.

«الباء» للتعدية، أو الظرفيّة.

«الشراء» ـ بالمدّ والقصر ـ: البيع والاشتراء ضدّ. قال الراغب: الشراء والبيع يتلازمان، فالمشتري دافع الثمن وآخذ المثمن، والبائع دافع المثمن وآخذ الثمن. هذا إذا كانت المبايعة والمشاراة بناض و سلعة.

فأمّا إذا كانت بيع سلعة بسلعة، فيصحّ أن يتصوّر كلّ واحد منهما مشترياً وبائعاً، ومن هذا الوجه صار لفظ البيع والشراء يستعمل لكلّ واحد منهما في موضع الآخر ـقالـ: وشريت، بمعنى: بعت أكثر، وابتعت، بمعنى: اشتريت أكثر(1) انتهى.

ثمّ لما كان كلّ من البيع والشرى مستلزماً للاستبدال استعمل كلّ واحد منهما في كلّ استبدال، قال سبحانه: (أُولئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى)(2) (يَشْرون الحَياةَ الدُّنيا بالآخِرَة)(3)(وَلا تَشْتَرُوا بِ آياتِي ثَمَناً قَلِيلاً)(4) إلى غير ذلك.

«الضرّ» إمّا بالفتح : مصدر «ضرّه» خلاف نفعه، مراداً به معنى اسم الفاعل، أي ما يضرّ، أو المعنى المصدري.

أو بالضمّ: مصدر أيضاً. أو اسم مرادف للألم والأذى.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- مفردات غريب القرآن: 260.
2- البقرة:16و175.
3- البقرة:207.
4- البقرة:41.


( 415 )
وقال الراغب: الضرّ : سوء الحال إمّا في نفسه لقلّة العلم والفضل والعفّة، وإمّا في بدنه لعدم جارحة ونقص، وإمّا في حالة ظاهرة من قلّة مال وجاه ـقالـ: يقال: ضرّه ضرّاً: جلب إليه ضرّاً (1).

و«الألف واللام» فيه إمّا للحقيقة، أو العهد الذّهني، أو الاستغراق.

«الباء» للمقابلة.

«ما» موصولة اسمية، أو حرفية، أو موصوفة.

«النفع» ضدّ «الضرّ» ، نفعه بكذا فانتفع به، والاسم: المنفعة والنفاع والنفعة.

وقال الراغب: النّفع ما يستعان به في الوصول إلى الخيرات (2).

«القطع»: الإبانة، والتقطيع:مبالغة فيه أو تكثير.

«الأرحام» جمع الرحم ـ بكسر الحاء ـ و هي القرابة، قيل: وأصله من رحم المرأة وإنّما سميت القرابة بها لكونها منشأها وسببها; قيل: ورحم المرأة من الرحمة، بمعنى العطف والرقّة ، لأنّها تعطف على ما فيها من الجنين ولا تؤلمها بشيء، بل تلائمه وترتّبه إلى غاية النشء. وقطع الرحم يكون إمّا بالهجران، أو بترك البرّ، فإنّ المراد بالرحم نفس القرابة، فيبنى على تشبيهها بحبل واصل بين القريبين، فإذا هجر أو ترك البرّ فكأنّه قطع ذلك الحبل وزال ما كان بينهما من القرابة.

وإن كان المراد به ذا الرحم، أي القريب، فهو من: قطع فلاناً عنه، إذا منعه عن الاختلاف إليه.

والمراد بأرحامه في البيت: إمّا أُولو أرحامه من أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء وأولادهما صلوات اللّه عليهم بل سائر الهاشميين; إمّا بتقدير المضاف أو إطلاقها

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- مفردات غريب القرآن:293.
2- المصدر نفسه: 502.


( 416 )
عليهم مبالغة، وإمّا نفس قراباته صلوات اللّه عليه وآله بالنسبة إلى أُولئك الذين ذكرناهم، أو قراباته بالنسبة إلى المقطعين فإنّ له ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بالنسبة إليهم أيضاً قرابة وإن كانت بعيدة، أو المراد بقرابته بالنسبة إليهم القرب من جهة كونه رسولاً إليهم وطول صحبتهم إيّاه.

«الفاء» إمّا لمجرّد السببية أو للعطف; مراداً بها التعقيب في الذكر.

«سوف»: حرف تنفيس أي استقبال، فإنّ التنفيس هو التوسيع وإنّها تنقل المضارع عن الزمن الضيّق الذي هو الحال إلى الزمن الواسع. وعند البصريّين أنّها أوسع من السين. وقيل بالمرادفة، وتنفصل عن السين بأنّها قد تدخلها اللاّم، كقوله تعالى:(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ)وبأنّه قد يفصل بينها و بين فعلها بالفعل الملغى، كقوله:

و ما أدري و سوفَ إخالُ أدري * أقومٌ آلُ حِصن أم نِساءُ(1)

و فيه لغات أُخر: «سَفْ» بحذف الواو وإسكان الفاء أو إبقائها على الفتحة، و «سَوْ» بحذف الأخير وإسكان الواو أو فتحها. و «سَيْ» بقلب الواو ياءً، وفي القاموس معناه الاستئناف أو كلمة تنفيس فيما لم يكن بعد، قال: وتستعمل في التهديد والوعيد(2).

«الجزاء»: الغناء والكفاية، ثمّ غلب فيما فيه الكفاية من المقابلة للخير بالخير أو الشرّ بالشرّ، يقال: جزيته بكذا وجزيته كذا. هذا إذا أُشير بكذا إلى الجزاء. ويقال: جزيته بكذا أو عن كذا وكذا أو بكذا إذا أُشير بكذا الأُولى إلى الفعل الّذي يقابله الجزاء.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- البيت لزهير ابن أبي سلمى من قصيدة في الهجاء. (ديوانه:12).
2- الفيروزآبادي: القاموسالمحيط: «سوف».


( 417 )
«الباء» للمقابلة.

«ما» مصدرية، أوموصولة.

قال الخليل: أزمعت على أمر فأنا مزمع عليه إذا ثبت عزمه عليه (1).

وقال الكسائي: يقال: أزمعت الأمر، ولا يقال أزمعت عليه.

قال الأعشى: «أأزمَعْتَ مِنْ آلِ لَيلى ابْتِكارا»(2).

و قال الفرّاء: ازمعته وأزمعت عليه مثل: أجمعته وأجمعت عليه (3).

«الغدر» ترك الوفاء بالعهد،غدره وبه، كنصر و ضرب و سمع، غدراً وغدراناً ـ محرّكة ـ وهو غادر و غدّار وغدور وغدير كسكيت وغدر، كصرد. وأكثر ما يستعمل الأخير في النداء.

ويظهر من كلام الراغب أنّ أصله الإخلال بالشيء وتركه أيّاً ما كان.

«التب» والتبب والتباب والتبيب : الهلاك والخسار، وقال الراغب: الاستمرار في الخسران ـقالـ: ولتضمن الاستمرار، قيل: استتب لفلان كذا، أي استمرّ (4).

«اللام» للتبيين، وأصله الاختصاص أو الاستحقاق أو تقوية العامل أو للاختصاص أو الاستحقاق أو التعليل. وتفصيل ذلك يأتيك في قسم الإعراب إن شاء اللّه.

«ما» موصولة اسمية أو حرفية.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- كتابالعين «زمع»، بهذاالمضمون.
2- مطلع قصيدة يمدح قيس بن معدي كرب، والبيت:

أ أزمعتَ من آل ليلى ابتكارا * و شَطّتْ على ذى هوىً أن تُزارا

(ديوانالأعشى: 80).
3- ذكره في تاجالعروس:5/371.
4- مفردات غريب القرآن: 72.


( 418 )
«كان» إمّا ناقصة، أو زائدة.

«الباء» للتعدية أو السببيّة، أو الاستعلاء، أو زائدة.

 

الإعراب:

«إذا» إن كانت ظرفيّة تعلّقت بـ«ضيعوا» وإن كانت شرطية فقد مضى الخلاف فيها.

«ما» في «ما قال» إن كانت موصولة كان عائدها محذوفاً، أي «ما قاله» وأوصى عطف على «قال» .

«به»، متعلّق فإن كانت «ما» موصولة عاد الضمير فيه عليها وكانت «الباء» للتعدية، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على الأمس وكانت «الباء» للظرفية، أي وإيصاءه فيه.

«أرحامه»: مفعول لـ«قطعوا» إمّا على مجاز الحذف إن كان التقدير أُولي أرحامه فحذف المضاف وأُقيم مقامه المضاف إليه، أو لا عليه على التقديرين الأُخريين، أعني إرادة أُولي الأرحام بلفظ أرحامه، أو إرادة معناه الحقيقي من غير حذف.

«بعده»: ظرف للتقطيع، والجملة إمّا عطف على مجموع الجملة الشرطية، أي: وحتى قطعوا، أو على الجزاء حسب، فيكون «بعده» تأكيداً، أو على ما وقع حتى بما خيّرها غاية له. وستأتي الاحتمالات فيه.

«ما» في «بما قطعوا» إن كانت مصدريّة فلا تقدير ولا إشكال، وإن كانت موصولة كانت عبارة عن التقطيع وكان عائدها محذوفاً، أي بالتقطيع الّذي قطعوه، أي فعلوه وأوقعوه.

«غدراً» مفعول «أزمعوا».


( 419 )
«بمولاهم» مفعول «غدراً».

«تبّاً» مفعول مطلق لفعل مقدّر أي تبّ تباً فحذف الفعل وأُقيم المصدر مقامه، وهذا الحذف واجب لأنّه لم يسمع منهم اثباته في نثر ولا نظم مع افتقارهم كثيراً إلى تغيير الأُسلوب وتبديله.

ثمّ إنّ «اللام» التي بعده وبعد أمثاله من نحو: بهراً له ووثباً له ومن نحو سقياً له ورعياً له، ممّا كان الضمير عائداً على المفعول للتبيين على ما نصّ عليه سيبويه، إمّا لتبيين الفاعل أو المفعول، وبحسب الإعراب هي مع مجرورها ظرف مستقرّ خبر لمبتدأ محذوف، أي دعائي هذا له أو إرادتي له. وهذه الجملة مستأنفة ومبتدأها واجب الحذف ليلي الفاعل أو المفعول ما قام مقام الفعل.

ومن هذا ظهر لك أنّها في الحقيقة «لام» الاختصاص أو الاستحقاق.

وقال بعض من جعلها للتبيين: إنّ التقدير له أعني.

واعترض عليه ابن هشام في المغني; بأنّ أعني متعدّي بنفسه، وهو مردود بأنّه لا يأتي أن تكون اللام لتقوية العامل، وإنّما دخلت لكونه مؤخراً. وقال الكوفيون: إنّ أصل سقيا لك مثلاً: يسقيك، فهذه اللاّم هي لام الاختصاص المضمرة في الإضافة.

أقول: ويحتمل أن تكون للاختصاص أو الاستحقاق، ويكون الظرف مستقرّاً صفة للمصدر، فكأنّه قال: تب تبّاً مختصاً به أو مستحقّاً له، وكذا سقياً له ونحوه.

وردّ ابن هشام في المغني ذلك، بأنّ الفعل لا يوصف، فكذا ما قام مقامه دعوى لا برهان عليها.

واللاّم الّتي في البيت محتمل مع ذلك أن تكون للتعليل، بأن يكون التقدير تبّاً لهم لما كان، ثمّ إن كان «كان » ناقصة، كان اسمها الضمير العائد على القوم،


( 420 )
وجاز إفراده بناءً على لفظ «القوم» ، أو العائد إلى «ما» إن كانت موصولة.

أو يقرأ «كانُ» بضمّ النون على أنّ الأصل «كانوا» فحذف الواو للضرورة، كقوله: «فلو أنَّ الأطباء كانُ حولي».

أو يكون الاسم «أزمعوا» على تأويله بالمفرد، أي ازماعهم.

وإن كانت زائدة فلا إشكال.

«به» فيه احتمالات: أحدها أن يكون «باؤه» بمعنى «على» و يكون متعلّقاً بـ«أزمعوا» أي: لما كان أزمعوا عليه، فإن كانت «ما» موصولة اسمية عاد الضمير إليها، وإن كانت موصولة حرفيّة عاد على الغدر المتقدم ذكره.

والثاني: أن يكون «الباء» للتعدية ويكون متعلّقاً بالغدر مقدّراً مفعولاً لأزمعوا، وحينئذ فالضمير فيه لا يعود إلاّإلى مولاهم ولا يكون «ما» إلاّمصدرية إلاّ أن يقدّر عائد عليها نحو: «به» أو «له»، أو يكون متعلّقاً بفعله مقدراً، أي ما كان أزمعوا فعله به، وحينئذ يكون عائد «ما» في فعله، أو فعلاً مقدّراً، أي ما كان أزمعوا فعلاً به، وحينئذ فلابدّ من تقدير العائد كما سبق.

والثالث: أن يكون «الباء» للسببيّة وحينئذ لا يرجع الضمير إلاّ إلى «ما» ولا تكون «ما» إلاّ موصولة اسمية ويكون مفعول أزمعوا مقدّراً، أي لما بسببه أزمعوا غدراً بمولاهم، وحينئذ فإن كانت «كان» ناقصة، جاز تعلّق «به» بها على قول، وجاز تعلّقه بأزمعوا أيضاً، وإن كانت زائدة لم يتعلّق إلاّ بأزمعوا.

والرابع: أن تكون «الباء» زائدة ويكون الضمير مفعولاً لأزمعوا، أي أزمعوه، فإن كانت «ما» موصولة عاد إليها وإلاّفإلى الغدر.

والخامس: أن تكون الباء للتعدية ويكون به متعلقاً بأزمعوا، وإنّما عدي


( 421 )
بالباء لأنّه إزماع على الغدر والغدر يتعدّى بالباء فأعطى الإزماع عليه حكمه. أو أراد بالإزماع على الغدر نفس الغدر.

فعلى الأوّل يكون الضمير عائداً على «ما» أو الغدر .

و على الثاني يكون عائداً على مولاهم، فإن كانت موصولة قدّر لها ضمير، أي «به» أو «له» ثمّ إنّ «حتّى» بما في حيزها إما غاية لـ«ظلّ» بما في حيزها، أو لما في حيزها حتى يكون أيضاً ممّا في حيزه، أو لذلك ولما قبله من قوله: فاتّهموه إلى تمام البيت.

أو غاية لـ«ظلّ» وحده إن كان فعلاً تامّاً ويكون مجموع ما بعد قوم صفة لهم، أي: أقاموا حتّى إذا واروه. الخ.

أو قائم مقام خبر «ظلّ» إن كان ناقصاً، أي: وظلّ قوم من صفتهم كذا عازمين على الخلاف مخفين له مقيمين عليه حتّى إذا واروه أبدوا ذلك وفعلوا ما فعلوا.

المعنى:

ظلّوا كذا حتّى، أو ظلّوا غائظين لفعله حتّى، أو ظلّوا مشبهين بهم إذا جدعت آنافهم حتّى ، أو فاتّهموه وكذا وكذا حتى، أو أقاموا حتى، أو ظلّوا غارمين على الخلاف مخفين له مقيمين على النفاق حتّى لما ستروه.

أو حتّى أنّهم لمّا ستروه في قبره ورجعوا عن دفنه أهملوا أو أهلكوا ما قاله يوم الغدير أو قوله يوم الغدير وما أوصى به من التمسّك بأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه والاقتداء والإئتمام به، أو إيصاءه بذلك في ذلك اليوم أو ضيّعوا ذلك في زمان ستروه في قبره ورجعوا عن دفنه واستبدلوا حالة السوء، أو ما يضرّهم أو


( 422 )
الإضرار بهم بما ينفعهم أو ينفعهم وبالغوا أو أكثروا في قطع أُولي قراباته، أو قطع قراباته بالنسبة إليهم، أو إلى أُولي القرابات، فسوف يقابلون بما يكفيهم يوم القيامة بتقطيعهم أو بالتقطيع الذي أوقعوه وأثبتوا عزمهم على الغدر بمولاهم خسراناً وهلاكاً; لإزماعهم ذلك أو على ذلك أو لما أزمعوه وأزمعوا عليه من الغدر، أو لما بسببه أزمعوا على الغدر وهو الكفر والنفاق.

أو غلبة الهوى و إيثار الدنيا على العقبى، أو الغيظ لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وعداوته، أو لما أزمعوا أو إزماعهم غدراً بمولاهم، أو هلاكاً وخسراناً لهم لأجل ما كان به أزمعوا.

ثمّ إنّ من الظاهر عند المتتبّع أنّ المذكور في كتب الأصحاب وغيرهم أنّهم بادروا إلى الخلاف واجتذاب الخلافة بعضهم من بعض قبل دفن النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، والّذي ينصّ عليه النظم أنّ ذلك وقع بعد الفراغ عن الدفن.

وأيضاً فلم يذكر في شيء من الكتب أنّ أُولئك الغاصبين ومن تبعهم كانوا حاضرين في دفنه حتى يتحقّق منهم انصراف عنه، فلعلّه أراد أنّ تمام ذلك وكماله إنّما حصل بعد الدّفن وانصراف قوم منهم عن الدفن فإنّ كثيراً من النّاس لم يبايعوا أبا بكر إلاّ بعد الانصراف عن الدفن، و أيضاً إنّما حصلت البيعة الفاسدة بعد طول مشاجرة ومقاولة لم تنته إلاّ بعد حصول الفراغ عن دفنه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .

المعاني:

فيه مسائل:

الأُولى: التعبير عن الزمان الماضي بـ«إذا» الموضوعة للمستقبل، لإظهار كراهة ما وقع فيه من التضييع أو الدفن أو كليهما والدّلالة على شدّة فظاعته


( 423 )
وغرابته حتّى أنّه لا يجوز أن يكون قد وقع، وللدلالة على أنّ التضييع وإن كان أثراً قد مضى وانقرض لكن أثره باقي لا يزول إلى يوم القيامة وثبوت الشيء وظهوره بثبوت أثره وظهوره، فكأنّه نفسه باقي لا يزول.

الثانية: تقديم الظرف أعني «إذا» بما في حيّزها على عامله، أعني «ضيعوا» إن كانت «إذا» ظرفية محضة، للتوجيه والدلالة على الحصر، أي أنّهم إنّما ضيعوا في ذلك الزمان لا في زمان بعده، أي لم يؤخّروا أو التضييع عن ذلك.

الثالثة: حذف عائد الموصول إن كانت «ما» موصولة اسمية، للاختصار والوزن والتّوجيه.

الرابعة: في التعبيرعن يوم الغدير بالأمس ما لا يخفى من الدلالة على قرب زمان النقض من زمان العهد.

الخامسة: التعبير عن على بالباء إن كانت الباء في «تبّاً لما كان به أزمعوا» بمعنى «على» للدلالة على لزومهم لذلك والتصاقهم به وعدم انفكاكهم عنه، أو على أنّه لم يكن مجرّد إزماع بل إزماعاً ترتّب عليه أثره الّذي هو الغدر،حتى كأنّه نفس الغدر، وللوزن والتوجيه، وهي الوجوه في زيادتها إن كانت زائدة.

السّادسة: تقديم «به» على متعلّقه إن تعلّق بـ «أزمعوا» للوزن والقافية وتقريب الضمير من مرجعه والتوجيه.

البيان:

استعمال «إذا» في الزمان الماضي إمّا مجاز مرسل، بأن استعمل في الزمان المطلق، فيكون استعمالاً لاسم الكلّ في الجزء ثمّ يكون تحقّق المطلق في ضمن ذلك الفرد، أو استعارة تبعية بناءً على تشبيه الواقع بما لم يقع وزمانه الماضي بالذي لم


( 424 )
يمض في بعد الوقوع، واستعمال الاشتراء في الاستبدال إمّا مجاز مرسل من إطلاق اسم الملزوم على اللاّزم، أو استعارة تبعية على تشبيه الاستبدال بالاستبدال المشترى.

و في قوله:«قطعوا أرحامه» إمّا استعارة تبعيّة تشبيهاً للهجر وترك البر، بالتقطيع أو الأرحام، استعارة بالكناية تشبيهاً لها بالحبل ونحوه ممّا يقبل القطع.

والتقطيع استعارة تخييلية، بمعنى أنّه ثبت لها شيء شبيه بالقطع للحبل ونحوه.

وفي الأرحام استعارة أُخرى إن أُريد بها ما بينهم و بين النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ من القرب دون القرابة نسبة التب إلى ما كان به أزمعوا ، مجازية فإنّ الحقيقة نسبته إليهم.

«الباء» في «به» إن كانت بمعنى «على» كانت استعارة تبعية، وإن كان المراد بأزمعوا «غدروا » كان مجازاً من إطلاق اسم مبدأ الشيء وملزومه عليه.

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net