مضت الايام على محمود وهو يعاني صراعاً عنيفاً بين قوى الشر والخير ، وما أكثر ما أرق لياليه يتقلب بين مختلف الأفكار ... وكانت سعاد تتجنبه طيلة هذه المدة ، ظناً منها أنه عاشق مفتون مندفع وراء هواه ... وفي أحد الأيام خرجت سعاد من البيت ، فرأت محمود يستعد لركوب السيارة ، وقد حمل بين يديه حقيبة صغيرة ، فتوقفت وسألته متخابثة : ـ إلى أين أنت مسافر يا محمود ؟ ـ أنا ذاهب لزيارة جدتي العجوز فقد علمت أنها مريضة... ـ ومتى أصبحت طبيباً تداوي العجائز ؟ ـ أنا لست بطبيب ، ولكن علي أن أذهب لآتي لها بطبيب ، فأنا كل ما تبقى لها في الوجود. ـ ومنذ متى أصبحت تحس بهذه العواطف الانسانية ؟!. ـ منذ أبصرت عيني نور الحياة
( 186 ) وظنت سعاد أنه يهزأ ، فأردفت تقول : ـ وكم سيطول بقاؤك هناك ؟ ـ إلى الوقت الذي أطمأن فيه على صحتها. ـ حتى ولو أسبوع ؟. ـ أنا سوف أبقى أسبوعاً على كل حال ، فلم أزر جدتي المسكينة هذه منذ سنوات ، مع أنها بعثت تسدعيني عشرات المرات ، ولكن إذا أحوج الأمر فسوف أظل أكثر من أسبوع. ـ إذهب مع السلامة يا محمود !. واستقل محمود سيارته ، ومضى ينهب بها الشارع وكأنه كان يريد الابتعاد عن سعاد بأسرع وقت ، وتابعته سعاد بنظرها ، وردت في نفسها قائلة : أنت لن تذهب إلى جدتك يا محمود ! ... فهنيئاً لنقاء بأسبوعها الحافل ... وليكن هذا الأسبوع هو أسبوع الوداع ، فقد قربت عودة إبراهيم... أما محمود فقد كان صادقاً فيما قال ، وكانت جدته مريضة حقاً ولكنها لم تشأ أن تستدعيه ، فقد يئست من استجابته لها لكثرة ما استدعته فلم يجب ، وكتبت إليه فلم يرد عليها بكلمة واحدة ، فأقامت على علتها ووحدتها تنتظر الأجل المحتوم. ولم يتوقف محمود في الطريق ، فقد كان يخشى أن يتأخر
( 187 ) ساعة فيصل بعد فوات الأوان ، فهو يحس بعاطفة قوية تجيش بصدره نحو هذه الجدة المسكينة ، وهو يتصورها على سرير الموت ، تقلبها أيدي الأجانب والأغراب ، وود لو يلقاها حية ليستغفرها عن عقوقه ويذرف بين يديها دموع التوبة والندم... ووصل أخيراً إلى بيت جدته وطرق الباب ففتحه له خادم شيخ استغرب قدومه ولم يتعرف عليه ، فسأله محمود في لهفة : ـ كيف حال السيدة يا حاج ؟!. فرد الخادم بصوت يشوبه الاستغراب لهذه اللهفة قائلاً : ـ لا تزال كما هي يا أستاذ !.. ـ تقصد أنها لا تزال مريضة ؟. ـ نعم فهي ما برحت تصارع الموت ولكن... ولم يمهله محمود ليتم جملته بل اندفع نحو الداخل ، وهم الخادم أن يمنعه من الدخول وهو يقول : ـ إن الدخول ممنوع يا سيدي ! فحالها لايسمح بذلك. ـ ولكني ابنها يا شيخ !. ـ ابنها !؟. ـ نعم أنا حفيدها الوحيد.
( 188 ) ـ أه ... أنت السيد محمود إذن ؟ ـ نعم. ـ لقد كانت تذكرك كثيراً يا سيدي ! ... وطالما سكبت لأجلك الدموع. ودخل محمود على جدته فوجدها في غيبوبة وقد وقفت عند رأسها خادمتها العجوز التي لازمتها منذ صباها الأول ... ولهذا فقد عرفت محمود في الوهلة الأولى ، فقالت بصوت تخنقه العبرات : ـ هل أتيت أخيراً يا سيد محمود ! ... لقد كانت تحيى بذكرك دائماً ولكنها الآن لا تتمكن أن تحس بوجودك. وتساقط العرق بارداً على وجه محمود وردد في جزع قائلاً : ـ لعلها .. لعلها ... ـ لا يا سيدي ! إنها لم تنته بعد ولكن نهايتها ليست ببعيدة. ـ وكيف ؟ ألا يوجد طبيب هنا ؟! ـ لقد رآها الطبيب منذ ساعة ، ولكنه قال : إنها لن تحتاج إليه بعد الآن.
( 189 ) أنحنى محمود على الجسد المسجى ، ورفع اليد المعروفة إلى فمه وطبع عليها قبلة طويلة ثم رفع رأسه وقد تبلل وجهه بالدموع ، وظل واقفاً أمامها لا يريم ، وفجأة صدرت عن صدر المريضة العجوز آهة أتبعتها بتململ قليل من رأسها ، فانحنى عليها مرة أخرى وناداها بصوت خافت حنون : جدتي ... جدتي العزيزة ! أنا محمود . جهد جبار فتحت العجوز عينيها وابتهل محمود إلى ربه في سره قائلاً : ليتها تعرفني يا رب ! وعرفته المسكينة ، فقد لاحت على وجهها المغضن الشاحب شبح ابتسامة... فعاد محمود يقول : ـ أنا محمود ، جئت إليك تائباً نادماً مستغفراً عما بدر مني ، فهل تغفرين لابنك العاق ؟. ورفعت المرأة العجوز عينها نحو السماء كأنها تريد أن تدعو له بالغفران ، فانحنى مرة أخرى وقبل يدها بخشوع وشعر بأناملها باردة متشنجة ، فلم يشأ أن يترك تلك اليد الكريمة التي طالما هدهدته وداعبته فأبقى عليها بين يديه ، واختجلت الأنامل في قبضته اختلاجة صغيرة ، وصدرت عن الجسد المسجى أنة خافتة ، فنظر نحوها فزعاً ، وحاول أن يناديها مرة أخرى ، ولكن الخادمة العجوز منعته من ذلك ، وقالت وهي تذرف العبرات : ـ دعها فقد أسلمت روحها إلى باريها راضية مرضية.
|