متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
بين المقداد وعثمان
الكتاب : المقداد بن الأسود الكندي ، أول فارس في الإسلام    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

 

بين المقداد وعثمان

 المصادر التاريخية لا تشير إلى أي لون من ألوان الخلاف بين عثمان والمقداد قبل حادثة الشورى ، لا من قريب ولا من بعيد ، حتى إذا بدأت الشورى بدأ معها الخلاف بينهما ! وكان خلافاً يحسبه الغافل أنه ناجم عن عداء قديم مستشرٍ بينهما ، سيما إذا أخذنا بعين الإعتبار مواقف المقداد الصلبة من عثمان في تلك الفترة ، غير أن نظرة تأمل منا في نوعية هذا الخلاف كافية في إيقافنا على حقيقة الأمر ، من أن ما جرى بينهما لم يكن مرده لعداءٍ شخصي ، بل هو خلاف مبدئي تطور فيما بعد ليأخذ صفة العداء والجفوة بين الطرفين .
 واضحٌ أن الخلافة أمانة عظمى في عنق متقلدها ، ومسؤولية كبرى في عاتقه عليه أن ينهض بأعبائها ، وإلا فهي الخيانة ! وبيعة عثمان ؛ أخذ فيها عليه شرطان صريحان غير كتاب الله ، هما : « سنة رسول الله وسيرة الشيخين ابي بكر وعمر ( رض ) بهما تصح بيعته وبدونهما لا بيعة قائمة ولا خلافة .
 تُرى ! أيطوي الصحابة كشحاً عن بعض التصرفات المخالفة ـ صراحةً ـ لسنة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو لسيرة الشيخين . يرون الخليفة متلبساً بها ؟ ! بالطبع ، لا ! إذا كانوا مخلصين لدينهم ، صادقين في تدينهم ؛ وهنا تكمن نقطة الخلاف بينه وبينهم بشكل عام . والمقداد واحد من الصحابة المخلصين لا يمكنه بحال السكوت أزاء حالات كهذه ، لذا ،


(169)

فإنه كان لا يتوانى في توجيه النقد له وإيقافه على الأخطاء التي يرتكبها ، أو التي تُرتكب في حضرته .
 من ذلك : أن عثمان بينما كان جالساً ذات يوم وحوله بعض وجوه قريش ، إذ أقبل رجلٌ أحسبه كان شاعراً يتكفف اعطيات الملوك ، فجعل يمدح عثمان ، وكان المقداد حاضراً ، فجثا على ركبتيه وجعل يحثو الحصباء في وجه ذالك الرجل ! وتعجب عثمان من تصرف المقداد هذا ، والتفت إليه قائلاً : ما شأنك ؟
 فقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ! (1)
 إن حادثة بسيطة من هذا النوع ـ في نظري ونظرك ـ هي غاية في الخطورة إذا صدرت في مجلس كمجلس الخليفة ، لأنها خرق واضح للسنة ، لا يمكن لصحابي كالمقداد أن يسكت عليها ، فما ظنك إذن بما هو أعظم من هذا وأفظع ؟! كتعطيل الحدود ، واقرار الأيدي العادية . والإِسراف في مال الله ووضعه في غير مستحقيه ، كإعطاء مروان خمس خراج إرمينية ! واقطاعه فدك * وكانت فاطمة بنت الرسول قد
____________
1 ـ كما جاء في صحيح مسلم ج 4 ك 53 ح 69 عن همام بن الحارث قال : إن رجلاً جعل يمدح عثمان ، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه ـ وكان رجلاً ضخماً ـ فجعل يحثو في وجهه الحصباء ، فقال له عثمان : ما شأنك ؟ قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب .
* ـ فدك : قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان ، أفاءها الله على رسوله ، فكانت خالصةً له لأنه لم يُوجَف عليها بخيل ولا ركاب . وذلك : أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد فراغه من غزوة خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك ، فبعثوا الى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انهم مستعدون لتسليمه الأرض وما يملكونه على أن يحقن دماءهم ، وعرضوا عليه ان يعملوا في الأرض بنصف الناتج ، فصالحهم على ذلك . ( راجع معجم البلدان 4 / 238 إلى 240 ) وغيره =


(170)


____________
= وهذا الصنف من الأراضي يسمى ( الأنفال ) وسماه الفقهاء ( فيئا ) ويعد من الأنفال بالمفهوم الفقهي : كل ما أُخذ من دار الحرب بغير قتال : وكل أرض جلا عنها أهلها بغير قتال أيضاً ، والأرض الموات ، والآجام ، وبطون الأودية ، وقطايع الملوك ، وميراث من لا وارث له والأنفال في الكتاب العزيز هي لله وللرسول خالصة ، قال تعالى : ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) وعلى هذا فإن فدك مما يملكه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاصة وله أن يقطعها لمن يشاء ، وقد وهبها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لإِبنته فاطمة ( عليها السلام ) حين نزلت الآية الكريمة : وآت ذا القربى حقه ؛ كما عن تفسير « الدر المنثور ـ للسيوطي » فتصرفت بها في حياة أبيها ؛ ( الميزان في تفسير القرآن 9 ص 5 وما بعدها ) و ( سيرة المصطفى 559 ) ولما توفي الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منعت الزهراء فدكاً ، وكان لها مع الخليفة أبي بكر موقف مشهود معروف ، حيث احتجت عليه تارة بالنحلة ، واخرى بالميراث ، وثالثة بسهم ذوي القربى . وكان الخليفة ابو بكر يأخذ غلتها فيدفع لآل النبي ما يكفيهم ، وكان عمر بعده يفعل مثل ذلك ، فلما جاء عثمان « أقطعها لمروان بن الحكم » . كما يستفاد ذلك من « العقد الفريد 4 / 283 وشرح النهج 1 / 198 .
ولما ولي معاوية جعلها ثلاثة أثلاث ، بين مروان وعمرو بن عثمان ويزيد بن معاوية ، وذلك بعد وفاة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ولم يزالوا يتداولونها إلى أن خلصت كلها لمروان أيام حكمه ، فوهبها لعبد العزيز إبنه ، وعبد العزيز بدوره وهبها لإبنه عمر ، ولما ولي عمر بن عبد العزيز كانت أول ظلامةٍ ردها ، حيث دعا الحسن بن الحسن بن علي ، وقيل بل دعا علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام ) ، فردها عليه وكان يقول في ذلك : « أشهدكم إني قد رددتها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) » العقد الفريد 4 / 435 فكانت بيد ابناء فاطمة مدة حكمه . فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم ، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت من قبل .
فلما ولي أبو العباس السفاح ، ردها على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي . ثم أخذها المنصور ، ثم ردها إبنه المهدي . ثم أخذها موسى بن المهدي وهارون أخوه ، فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون ، فردها على الفاطميين .
وذلك : أن المأمون جلس يوماً للمظالم ، فأول رقعةٍ وقعت في يده نظر فيها وبكى وقال للذي على رأسه : نادِ : أين وكيل فاطمة ؟ فقام شيخ عليه دُراعة وعمامة ، وخُف تعزي ، فتقدم ؛ فجعل يناظره في فدك والمأمون يحتج عليه وهو يحتج على المأمون ! ، ثم أمر المأمون أن يسجل لهم بها ، فكُتب السجل وقرئ عليه ، فأنفذه ! فقام دعبل =


(171)

طلبتها من أبي بكر بدعوى النحلة او الميراث ، فدفعت عنها ، وإعطاء ابن أبي سرح جميع ما أفاء الله على المسلمين من فتح افريقية . (1) إلى غير ذلك مما يضيق به المقام والتي كان آخرها إرساله إلى ابن أبي سرح ـ واليه على مصر ـ كتاباً يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين ! (2) مما لم يدع مجالاً للسكوت أو الإِغضاء ، فكان آخر ما قام به المقداد في هذا المضمار ـ هو وتسعة نفر من الصحابة ـ أن وجهوا الى عثمان كتاباً يحتوي على سرد بعض الأمور التي خالف بها سنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسنّة صاحبيه ـ كما يقول ابن قتيبة ـ . وتعاهدوا ليدفعن الكتاب في يد عثمان ! ومضى عمار بن ياسر بالكتاب ، فكان الرد أن ضُرب وفتقت بطنه (3) .
 إن هذه المواقف من المقداد حيال تصرفات الخليفة ، تركت ولا شك أسوأ الأثر في نفسه وعرضته لغضبه وسخطه ، وحقد بني أمية حتى مات وعثمان ساخط عليه ، أو بالاحرى هو ساخط على عثمان كما روي ذلك
____________
= الخزاعي وانشد الأبيات التي أولها :
أصبـح وجـه الـزمـان قـد ضحكـا * بـرد مـأمـون هــاشـم فـدكــا
فلم تزل في أيديهم حتى حكم المتوكل فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار ، وكان فيها آنذاك إحدى عشر نخلة غرسها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيده ، وكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها ، فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم فيصير اليهم من ذلك مال جزيل ؛ فوجه عبد الله البازيار رجلاً يقال له : بشران بن أمية الثقفي الى المدينة ، فقطع ذلك النخل ،فرجع الى البصرة فَفُلِج !! راجع ( شرح النهج 16 / 207 إلى 217 ) .
1 ـ للتفصيل ، راجع كتاب ( ابو ذر الغفاري ) من ص 107 إلى 114 وشرح النهج 1 / 198 وما بعدها .
2 ـ مروج الذهب 2 / 344 وغيره من المصادر .
3 ـ راجع الإمامة والسياسة 1 / 35 .


(172)

عنه حيث قال للزبير :
 « أتراني أحب أن يموت مثل هذا من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسملم ) وهو عليّ ساخط ! » (1).
____________
1 ـ سفينة البحار ، مادة : قدد .


(173)


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net