الهجرة
وأوصى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علياً بحفظ ذمته وأداء أماناته ، وأمره أن يقيم منادياً بالأبطح غدوةً وعشية ينادي : آلا من كانت له قِبلَ محمدٍ أمانة فيأت لتؤدى إليه أمانته ، وأوصاه بالصبر ، وأن يقدم عليه مع ابنته فاطمة وغيرها من النسوة إذا فرغ من آداء المهمّات التي كلفه بها . وأمر أبا بكر ، وهند بن أبي هالة * أن يقعدا له في مكان حدده لهما في طريقه إلى الغار ، فلما خرج ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ظلمة الليل ، إنطلق جنوباً ميمماً غار ثور ، فوجدهما في الطريق ، ورجع هند متخفياً إلى مكة ، ودخل هو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وابو بكر الغار ، فأرسل الله في تلك الساعة عنكبوتاً نسجت على بابه ، وشاءت قدرته أن تلتجئ إلى باب الغار حمامتان بريتان . ومضت قريش جادة في طلبه ومعها أهل الخبرة بالقيافة وتتّبع الأثر ، إلى أن بلغوا الغار ، وانقطع الأثر عنهم ، فنظروا ، فرأوا العنكبوت قد غطت بابه بنسيجها ، واذا بالحمامتين على جانب من جوانب بابه مما لا يترك أقل شك في ____________ = يقول : بخ لك يا بن أبي طالب من مثلك يباهي به الله ملائكة سبع سموات . راجع سيرة المصطفى / 251 نقلاً عن اليعقوبي 2 / 29 واسد الغابة 4 / 25 والشبلنجي في نور الابصار / 77 والمناوي في كنوز الحقائق / 31 والغزالي في احياء العلوم . * ـ هند بن أبي هالة التميمي : ربيب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أمه خديجة زوج النبي ، وكان فصيحاً بليغاً ، وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأحسن واتقن . وقد استشهد مع علي عليه السلام في حرب الجمل ـ راجع الإصابة 3 / 611 ـ 612
(43)
انهما ليسا فيه ، فقال بعضهم لبعض : إن عليه العنكبوت قبل ميلاد محمد ! (1) وبقي الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصاحبه في الغار ثلاثة أيام ـ على رواية ـ ثم ارتحلا ومعهما غلام لأبي بكر يدعى عامر بن فهيرة ، أردفه ابو بكر خلفه ، وأخذ بهم الدليل على طريق الساحل . ولم تتوانى قريش في طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعلت لمن قتله أو أسره مائة ناقة . ومروا في طريقهم على خيمة أم معبد الخزاعية ، وكانت تقري الضيف ، فسألوها تمراً أو لحماً يشترونه منها ، فلم يجدوا عندها شيئاً ، فقالت : والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم ، ! فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى شاة في جانب الخيمة وقال : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ قالت : هي شاة خلّفها الجَهدُ عن الغنم ! فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هل بها من لبن ؟ قالت : هي أجهد من ذلك ؟ فقال : أتأذنين لي أن أحلبها ؟ فقالت : نعم ، فداك أبي وأمي إن رأيت بها حلباً . فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشاة ، فمسح ضرعها وذكر اسم الله ، ثم قال : بارك الله في شأنها . فدّرت من ساعتها ، فدعا بإناءٍ كبير فحلب فيه فسقاها وسقى أصحابه حتى رويت ورووا ، وشرب هو آخرهم ، ثم قال : وساقي القوم آخرهم شرابا . ثم حلب في الإِناء حتى إمتلاء وتركه لها وارتحل . وما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً حيّلاً عجافاً هُزلاً ، فلما رأى اللبن تعجب وقال : من أين لكم هذا والشاة عازبة ؟ ولا حلوبة في البيت ؟ ! ____________ 1 ـ مقتضب من سيرة المصطفى 250 وما بعدها .
(44)
قالت : لا والله ، إلا أنه مرَّ بنا رجل مبارك ، وقصت عليه قصته . فقال : والله أني لأظنه صاحب قريش الذي تطلب ؟ صفيه لي ! قالت : رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة ، مُنبلج الوجه ، حسن الخلق ، لم تُعيهِ ثَلجة (1) ، ولم تُزرِ به صلعَة (2) ، وسيمٌ ، قسيمٌ (3) ، في عينيه دعج (4) ، وفي اشفاره وَطَف(5) ، وفي صوته صَحَل (6) ، أحور ، أكحل ، ازَج ، أقرن (7) ، شديد سواد الشعر ، في لحيته كثافة ، إذا صمت فعليه الوقار ، وإذا تكلم سما ، وعلاه البهاء ، حلو المنطق ، لا نزر ولا هذر ، ومضت تعدد صفاته . فلما انتهت من وصفه قال لها أبو معبد : والله هذا صاحب قريش ، ولو وافقته ـ يا أم معبد ـ لإلتمست ان أصحبه ، ولأفعلن إذا وجدت إلى ذلك سبيلا ، وأخيراً هاجر أبو معبد وزوجته إلى يثرب وأسلما . وبينما النبي في طريقه إلى يثرب إذ عرض له سراقة بن مالك بن خثعم ـ يريد به شراً ـ فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسخت قوائم فرسه في الأرض ! فقال : يا محمد ، ادع الله ان يطلق فرسي وأرجع عنك وأرد من ورائي ، فدعا له النبي ، فانطلقت الفرس ، فرجع سراقة ووجد الناس يلتمسون رسول الله ، فقال لهم : إرجعوا ، فقد استبرأت لكم خبره فلم أجد له أثراً ، فرجعوا . ____________ 1 ـ أي لم يكن شديد البياض . 2 ـ كناية عن جمال شعر رأسه . 3 ـ قسيم وسيم : أي جميل كله . 4 ـ الدعج : سواد العين مع سعتها . 5 ـ الوطف كثرة شعر الحاجبين والعينين . 6 ـ الصحل : بحة في الصوت . 7 ـ هذه الصفات الأربع لجمال العينين . فالحور : هو اشتداد بياض العين وسوادها واستدارة حدقتها ( كعيون الظبي ) وازج : رفيع الحاجبين .
(45)
وتابع ركب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طريقهم يقطعون السهول والجبال والأودية ، ويتحملون حرّ الهاجرة وجهد السير سبعة أيام حتى أمنوا من طلب قريش . وخرج ابو ذر في قبيلتي غفار وأسلم ، للقاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلما دنا منه الركب ، أسرع إلى ناقة النبي وأخذ بزمامها وهو يكاد يطير فرحاً بلقائه ، فأخبره أن غفاراً قد أسلم أكثرها ، واجتمع عليه بنو غفار فقالوا له : يا رسول الله ، إن أبا ذر قد علمنا ما علمته ، فأسلمنا وشهدنا أنك رسول الله . واسرع المتخلفون منهم الى الإسلام ، وبايعوا النبي وأعلنوا إسلامهم . ثم تقدمت أسلم ، فقالوا : إنا قد أسلمنا ودخلنا فيما دخل فيه إخواننا وحلفاؤنا ، فأشرق وجه النبي سروراً بنصر الله ، ثم قال : غفار ، غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله . وإستأنف طريقه ، فلما قارب المدينة قال : من يدلنا على الطريق إلى بني عمرو بن عوف . فمشى أمامه جماعة ، فلما بلغ منازلهم ، نزل فيهم بقبا * في ربيع الأول ، وأراد أبو بكر منه أن يدخل المدينة ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن عمي وابنتي ـ يعني علياً وفاطمة ( عليهما السلام ) ـ . واستقبل رسول الله بالتكبير والتهليل ، وكان في استقباله من بني عوف نحو من خمسمائة . ثم كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبا إلى علي ( عليه السلام ) ، فلما ورد كتابه الى علي ابتاع ركائب لمن معه من النسوة وتهيأ للخروج ، وأمر من كان قد بقي في مكة ____________ * ـ قُبا : أصله اسم بئر ، عُرفت القرية باسمه ، وكانت مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار . فيها أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وبنى رسول الله مسجده المعروف هناك فسمي ( قبا ) وهو اليوم في أجمل منطقة من المدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام ، وفي أجمل موقع .
(46)
من ضعفاء المؤمنين أن يتسللوا ليلاً الى ذي طوي ، وخرج عليه السلام بالفواطم (1) وتبعتهم أم أيمن مولاة رسول الله ، وأبو واقد الليثي ، فجعل ابو واقد يسوق الرواحل سوقا حثيثاً ، فقال له علي : ارفق بالنسوة يا أبا واقد ، ثم جعل علي يسوق بهن ويقول :
لـيس إلا الله فـارفع ظنكـا * يكفيـك رب النـاس ما أهمكـا
فلما قارب ضجنان (2) أدركه الطلب ، وكانوا ثمانية فرسان ملثمين معهم مولىً لحرب بن أمية ، إسمه : جناح ، فقال علي عليه السلام لأيمن وابي واقد : انتحيا الإِبل واعقلاها ، وتقدم وأنزل النسوة ، واستقبل القوم بسيفه ، فقالوا : أظننت يا غدار إنك ناج بالنسوة ؟ إرجع ، لا أبا لك . فقال عليه السلام : فإن لم أفعل ؟ ! قالوا : لترجعن راغماً ! ودنوا من المطايا ليثورها ، فحال علي بينهم وبينها ، فأهوى له جناح ، فراغ عليٌّ عن ضربته وضرب جناحاً على عاتقه فقدَّه نصفين حتى دخل السيف إلى كتف فرسه . وشد على أصحابه ، فتفرق القوم عنه وقالوا : إحبس نفسك عنّا يا بن أبي طالب ! فقال لهم : إني منطلق إلى أخي وابن عمي رسول الله ، فمن سرّهُ أن أفري لحمه ، واريق دمه ، فليدن مني !! ثم أقبل عليه السلام على أيمن وأبي واقد ، وقال لهما : أطلقا مطاياكما . وسار بها ظافراً قاهراً حتى نزل ضجنان ، فلبث بها يومه وليلته تلك هو والفواطم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، حتى طلع الفجر ، فلما ____________ 1 ـ الفواطم : هن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة بنت أسد ام الإمام علي ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وفاطمة بنت حمزة راجع سيرة المصطفى / 259 . 2 ـ ضجنان : إسم جبل على اربعة فراسخ من مكة .
(47)
صلوا صلاة الفجر سار بهم حتى قدموا المدينة ، وكان قد تفطرت قدماه ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتنقه وبكى رحمةً لما به ، ثم تفل في يديه وأمرهَّما على قدمي علي ودعا له بالعافية ، فلم يعد يشتكي منهما (1) ____________ 1 ـ راجع سيرة المصطفى 258 وما بعدها
(48)
|