كيفية وفاته رضي الله عنه
لقد آن لهذا الفارس أن يترجل بعد أن حاز قصب السبق في ميدان الإيمان ، لقد كان أروع مثل للعبقرية التي تنجبها أمة فكان « سابق فارس » نحو الإيمان ورائدها نحو الأسلام ، قضى عمره المديد مجداً في طلب الحق حتى كان له ما أراد ، وقد شاء الله له أن يعود من حيث أتى ، إلى وطنه وأهله وعشيرته دالاًّ لهم ومرشداً ، وأمير عدل يحكم بينهم بالحق . ومضت سنين أحسبها تنوف على ربع قرن ، كان سلمان خلالها ينفض عن نفسه غبار هذه الدنيا الزائفة مزمعاً الرحيل نحو العالم الخالد . . عالم الآخرة . لينعم هناك برضوان الله ورحمته في جنته الخالدة مع الأنبياء والشهداء والصديقين . قال الأصبغ بن نباته : كنت مع سلمان الفارسي رحمة الله عليه وهو أمير المدائن ، فأتيته يوماً وقد مرض مرضه الذي مات فيه . . فلم أزل أعوده في مرضه حتى اشتد به الأمر ، فالتفت إلي وقال : يا أصبغ ، عهدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يا سلمان ، سيكلمك ميت إذا دنت وفاتك . (1) ____________ 1 ـ راجع البحار 22 / 374 والقصة طويلة ومفصلة اقتضبنا منها ما يناسب الموضوع .
(156)
وبينما هو في مرضه إذ دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده ، فبكى سلمان ، « فقال له سعد : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنك راضٍ ، وترد عليه الحوض . فقال سلمان : أما اني لا أبكي جزعاً من الموت ، ولا حرصاً على الدنيا ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إلينا فقال : ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب ، وحولي هذه الأساود . وإنما حوله إجانة ، وجفنة ، ومطهرة .(1) واشتد به المرض ، فمر على المقابر ـ وكأنه أراد أن يستعلم أمره ـ فقال : السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين والمسلمين ، يا أهل الدار هل علمتم أن اليوم جمعة . وحين عاد إلى مقره استلقى على فراشه ، فغفى ونام « فأتاه آتٍ فقال : وعليكم السلام يا أبا عبد الله ، تكلمت فسمعنا ، وسلمت فرددنا ، وقلت : هل تعلمون أن اليوم جمعة ، وقد علمنا ما تقول الطير في يوم الجمعة : قدوس . . قدوس . . ربنا الرحمن الملك . . » (2) وأفاق سلمان من غفوته ، ثم التفت إلى من حوله قائلاً لهم : أسندوني ، فلما أسندوه رمق السماء بطرفه وقال : « يا من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ، وهو يجير ولا يجار عليه بك آمنتُ ، ولنبيك إتبعت ، وبكتابك صدقتُ ، وقد أتاني ما وعدتني ، يا من لا يُخلف الميعاد إقبضني إلى رحمتك ، وانزلني دار كرامتك ، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . » (3) والتفت إلى من حوله قائلاً : ____________ 1 ـ نفس المصدر / 381 خبر معروف . 2 ـ سلمان الفارسي / 138 ـ 139 . 3 ـ البحار 22 / 379 .
(157)
« قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « إذا حضرك أو أخذك الموت ، حضر أقوام يجدون الريح ولا يأكلون الطعام ـ يعني الملائكة ـ . » ثم أخرج صرةً من مسك . فقال : هبة أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . . ثم بلّها ونضحها حوله ، ثم قال لإمرأته : قومي أجيفي الباب . » (1) « قالت زوجته : ففعلت ، وجلست هنيئة ، فسمعت هسهسةً ، فصعدت ، فإذا هو قد مات وكأنما هو نائم . » (2)
« تجهيـزه ودفـنه »
قالوا : وإن الذي قام بتجهيزه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام !(4)وكيفية ذلك هو ما رواه الأصبغ بن نباتة ، قال : « فبينما نحن كذلك ـ منشغلين بموت سلمان ـ إذ أتى رجل على بغلة شهباء متلثماً ، فسلم علينا ، فرردنا السلام عليه . » فقال : يا أصبغ جدوا في أمر سلمان ، وأردنا أن نأخذ في أمره ، فأخذ معه حنوطاً وكفناً فقال : هلموا ، فان عندي ما ينوب عنه ، فأتيناه بماءٍ ومِغسل ، فلم يزل يغسِّلُه بيده حتى فرغ ، وكفَّنهُ وصلينا عليه ودفنَّاه ولحدَّه علي عليه السلام بيده ، فلما فرغ من دفنه وهمَّ بالإنصراف تعلقت بثوبه ، وقلت له : يا أمير المؤمنين ، كيف كان مجيئك ؟ ومن أعلمك بموت سلمان ؟ قال : فالتفت عليه السلام إلي وقال : آخذُ عليك ـ يا أصبغ ـ عهد الله وميثاقه أنك لا تحدث به أحداً ما دمتُ حياً في دار الدنيا . فقلت : يا أمير المؤمنين ، أموت قبلك ؟ فقال : لا يا أصبغ ، بل يطول عمرك ! ____________ 1 ـ نفس المصدر / 283 ومعجم رجال الحديث 8 / 195 . 2 ـ سلمان الفارسي / 139 .
(158)
قلت يا أمير المؤمنين ، خذ علي عهداً وميثاقاً ، فإني لك سامع مطيع ، اني لا أحدث به حتى يقضي الله من أمرك ما يقضي ، وهو على كل شيء قدير . فقال لي : يا أصبغ ، بهذا عهدني رسول الله ، فاني قد صليت هذه الساعة بالكوفة ، وقد خرجت أريد منزلي ، فلما وصلت إلى منزلي إضطجعت ، فأتاني آتٍ في منامي وقال : يا علي ، إن سلمان قد قضى نحبه ! فركبت وأخذت معي ما يصلح للموتى ، فجعلت أسير ، فقّرب الله لي البعيد ، فجئت كما تراني ، وبهذا أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال الأصبغ : ثم إنه دفنه وواراه ، فلم أرَ صعد إلى السماء ، أم في الأرض نزل ، فأتى الكوفة والمنادي ينادي لصلاة المغرب . (1) رواية ثانية عن ( مناقب ابن شهر اشوب ) روى حبيب بن حسن العتكي ، عن جابر الأنصاري قال : صلى بنا أمير المؤمنين عليه السلام صلاة الصبح ، ثم أقبل علينا فقال : معاشر الناس ، أعظم الله أجركم في أخيكم سلمان ، فقالوا في ذلك ـ أي صاروا بين مصدق ومكذب ـ فلبس عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودراعته ، وأخذ قضيبه وسيفه ، وركب على العضباء (2) وقال لقنبر (3) : عدَّ عشراً ! قال : ففعلت ، فإذا نحن على باب سلمان . قال زاذان : فلما أدركت سلمان الوفاة قلت له : من المغسل لك . ؟ قال : من غسل رسول الله . ( يعني علياً ) . فقلت : انك بالمدائن وهو بالمدينة ! ____________ 1 ـ البحار 22 / 380 . 2 ـ ناقة النبي . 3 ـ خادم الإمام .
(159)
فقال : يا زاذان ، إذا شددت لحيي ، تسمع الوجبة ! فلما شددت لحييه سمعت الوجبة ، وأدركت الباب ، فإذا أنا بأمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : يا زاذان ، قضى أبو عبد الله سلمان ؟ قلت : نعم يا سيدي ، فدخل وكشف الرداء عن وجهه . . الخ الرواية (1) وهناك رواية أخرى بنفس المضمون ، لكنها تشير إلى أن ذلك حدث في خلافة عمر بن الخطاب . ومن الواضح أن هذه الروايات يناقض بعضها بعضاً ، فالأولى تقول : أنه ـ يعني علياً ـ كان في الكوفة ، والثانية تقول : أنه جاء من المدينة ، والثالثة : أن ذلك تم في خلافة عمر . إلى غير ذلك . ولكن لنا أن نقول : بأن هذا الأمر شائع بين الناس ، بل بين الخاصة إلى عصرنا الحاضر ، فالمعروف أن الذي جهز سلمان رضي الله عنه هو أمير المؤمنين علي عليه السلام ، ولعل عدم اثبات المؤرخين لمثل هذا في كتبهم يرجع إلى تكذيب القصة من أساسها ، حيث أن أذهانهم لا تتحمل فكرة إنتقال الأجسام من مكان إلى مكان بسرعة غير طبيعية تفوق سرعة ( الحصان والجمل ) . أما نحن ، فعلينا أن ننظر لهذا الأمر من زاوية فكرية متحررة ، فنقول : إن حدوث مثل هذا الأمر ممكن عقلاً ، بل هو واقع أيضاً في عصرنا الحاضر بفضل التقنية والتقدم العلمي الذي يهيئ الوسيلة لذلك . إذن ، يبقى السؤال : كيف وما هي الوسيلة في ذلك العصر ؟ إن قدرة الله سبحانه لا يقف دونها شيء ، فهو مسبب الأسباب ، والقادر على تهيئتها متى يشاء ، وقد ورد في كتابه الكريم مثل لما نحن في صدده ، في عرضه لقصة « عرش بلقيس » حيث قال تعالى : « قال يا أيها الملأُ أيُّكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريتٌ من » ____________ 1 ـ البحار 22 / 373
(160)
الجنّ أنا آتيكَ به قبلَ أن تقوم من مَقَامِك وإني عليه لقويُّ أمين ، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيكَ به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي . » (1) وهكذا في طرفة عين كان عرش بلقيس ينقل من اليمن إلى القدس على يد صاحب سليمان ( آصف بن برخيا ) (2) الذي عنده علم من الكتاب ! فما ظنك بصاحب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال فيه : أنا مدينة العلم وعلي بابها . ____________ 1 ـ النمل / 38 ـ 39 . 2 ـ راجع مجمع البيان 7 / 223 .
(161)
|