الزاهد المتعبد
سلمان العالم من كـلامه قال سلمان فصدق سلمان ، على لسان أئمة أهل البيت ازواجه وأولاده كيفية وفاته وغسله ودفنه كم عاش سلمان
(132)
(133)
الـزاهد المتعبد
قال علي عليه السلام : الزهد كله بين كلمتين من القرآن : قال الله سبحانه : ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي ، فقد أخذ الزهد بطرفيه . (1) هذا هو معنى الزهد باختصار . ويستشف من هذا التفسير أن الذي يملك نفسه حيال مغريات الدنيا وزهوها هو الزاهد . وبهذا نفهم مضمون الكلمة المأثورة : « ليس معنى الزهد أن لا تملك شيئاً ، بل الزهد أن لا يملك شيء » . وهو صفة مميزة للأنبياء والمرسلين والأوصياء والأولياء ، صفة بارزة في سلوكهم لا تقبل التصنع ولا التكلف . وللإمام علي عليه السلام خطبة يصف فيها الدنيا وزهد الأنبياء فيها قال : « ولقد كان في رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كافٍ لك في الأسوة ، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها ، وكثرة مخازيها ومساويها ، إذ قبضت أطرافها ، ووطئت لغيره أكنافها ( أي جوانبها ) وفطم عن رضاعها ، وزوي عن زخارفها . ____________ 1 ـ تصنيف نهج البلاغة / ص 416 رقم الحكمة 655 .
(134)
ثم يقول عليه السلام : وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث يقول : « ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير » والله ما سأله إلا خبزاً يأكله ، لأنه كان يأكل بقلة الأرض ، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه . وإن شئت ثلثت بداوود ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحب المزامير ، وقارئ أهل الجنة ، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده ، ويقول لجلسائه : أيكم يكفيني بيعها ، ويأكل قرص الشعير من ثمنها . ثم يستطرد واصفاً زهد عيسى عليه السلام قائلاً : وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام فلقد كان يتوسد الحجر ، ويلبس الخشن ، ويأكل الجشب ، وكان أدامه الجوع ، وسراجه بالليل القمر ، وضلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذله ، دابته رجلاه، وخادمه يداه . ثم يعود عليه السلام ، فيصف زهد النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول : ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ، ويردف خلفه ، ويكون الستر على باب بيته ، فتكون في التصاوير ، فيقول : يا فلانة ـ لإحدى زوجاته ـ غيبيه عني فاني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها . . الخطبة (1) . وأمير المؤمنين علي عليه السلام كان قمةً في الزهد والتعبد ، ويكفي في ذلك ، ما ورد عن ضرار بن حمزة الضبائي حين دخل على معاوية ، فسأله معاوية عنه ، فقال : ____________ 1 ـ تصنيف نهج البلاغة / 406 ـ 407 رقم الخطبة 158 .
(135)
« أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وهو قائم في محرابه ، قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : يا دنيا يا دنيا ، إليك عني . أبي تعرضتِ ؟ أم إلي تشوقت ؟ لا حان حينك ، هيهات ؛ غري غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آهٍ آه من قلة الزاد ، وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد ! » وعن نوف البكالي ، قال : رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة وقد خرج من فراشه فنظر في النجوم ، فقال لي : يا نوف ، أراقد أنت أم رامق ؟ فقلت : بل رامق . قال : يانوف ، طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها طيباً ، والقرآن شعاراً ، والدعاء دثاراً ، ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح . (1) ولعل القارئ الكريم يستغرب من هذا العرض الطويل ـ وربما اعتبره خروجاً عن حدود الموضوع ـ زهد سلمان ـ لكن الأمر عكس ذلك ، فأنا أجدني مضطراً لعرض هذا وأكثر منه ، لأن ما يروى في زهد سلمان رضي الله عنه يفوق حد الوصف إلى درجةٍ عالية قد يرفضها الكثيرون ، أو على الأقل يعتبرنها ضرباً من الشذوذ ومدعاة للانتقاص . ولكن حين يقارن الباحث والقارئ بين الزهد بالنسبة للأنبياء والأوصياء ، وزهد سلمان الذي كان كما يقال ( قد أدرك أوصياء المسيح ) يهون عليه الأمر ويتقبله بكل إطمئنان وبكل إجلال وإكبار ، وإليك بعضاً مما ورد عن زهده وتعبده . قال ابن أبي الحديد ، قال أبو وائل : ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان ____________ 1 ـ نفس المصدر / 413 رقم الحكمة 577 و 583 .
(136)
الفارسي ، فجلسنا عنده فقال : لو لا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن التكلف لتكلَّفت لكم ، ثم جاء بخبز وملح ساذج لا أبزار عليه ، فقال صاحبي : لو كان لنا في ملحنا هذا سعتر ! فبعث سلمان بمطهرته فرهنها على سعتر ، فلما أكلنا قال صاحبي : الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا . فقال سلمان : لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة ! (1) ودخل قوم على سلمان وهو أمير على المدائن ، وهو يعمل الخوص ، فقيل له : تعمل هذا وأنت أمير يجرى عليك رزق ؟ فقال : اني أحب أن آكل من عمل يدي ، وذكر أنه تعلم عمل الخوص بالمدينة من الأنصار عند بعض مواليه . » (2) وعن الحسن البصري : « كان عطاء سلمان خمسة آلاف ، وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به ، ويأكل من عمل يده ، وكانت له عباءة يفرش بعضها ويلبس بعضها » . (3) « ولم يكن لسلمان بيت ، إنما كان يستظل بالجدر والشجر ، وإن رجلاً قال له : آلا نبني لك بيتاً تسكن فيه . ؟ » قال : لا حاجة لي في ذلك . فما زال به الرجل ، حتى قال له : أنا أعرف البيت الذي يوافقك . فقال : فصفه لي . قال : أبني لك بيتاً إذا أنت قمت فيه ، أصاب رأسك سقفه ، وإن أنت مددت فيه رجليك أصابهما ( الجدار ) . ____________ 1 ـ البحار 22 / 384 . 2 ـ شرح النهج 18 / 35 إلى 37 وكذلك في أسد الغابة قريباً منه 2 / 328 وفي الأعلام 3 / 170 : وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به ينسج الخوص ويأكل خبز الشعير من كسب يده . 3 ـ نفس المصدر والصفحة .
(137)
قال : نعم فبنى له . »(1) « وقع بين سلمان الفارسي ورجل كلام وخصومة . فقال له الرجل : من أنت يا سلمان ؟ ! فقال ( رضي ) : أما أولي واولك فنطفة قذرة ! وأما آخري وآخرك فجيفة نتنة ! فإذا كان يوم القيامة ، ووضعت الموازين . فمن ثقلت موازينه فهو الكريم ، ومن خف ميزانه فهو اللئيم . » (2) وذكر المسعودي في مروج الذهب : أنه « كان يلبس الصوف ، ويركب الحمار ببرذعته بغير إكاف ويأكل خبز الشعير ، وكان ناسكاً زاهداً فلما احتضر بالمدائن قال له سعد بن أبي وقاص : أوصني يا أبا عبد الله . قال : نعم . قال : اذكر الله عند همك إذا هممت ، وعند لسانك إذا حكمت وعند يدك إذا قسمت ، فجعل سلمان يبكي ، فقال له : يا أبا عبد الله ما يبكيك ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن في الآخرة عقبة لا يقطعها إلا المخفون ، وأرى هذه الأساود حولي . فنظروا فلم يجدوا في البيت إلا إداوة وركوة ومطهرة » (3). ____________ 1 ـ راجع المصدر السابق ، والإستيعاب ( على الإصابة 4 / 58 ـ 59 ) . 2 ـ الدرجات الرفيعة / 212 . 3 ـ مروج الذهب 2 / 306 .
(138)
(139)
|