روايـة ابن أبي الحـديـد
قال في شرح النهج (1) وأما حديث إسلام سلمان ، فقد ذكره كثير من المحدثين ، ورووه عنه . قال : كنت ابن دهقان قرية جيّ من أصبهان ، وبلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية ، حتى صرت قطن (2) بيت النار . فأرسلني أبي يوماً إلى ضيعةٍ له ، فمررت بكنيسة النصارى ، فدخلت عليهم فأعجبتني صلاتهم ، فقلت : دين هؤلاء خير من ديني . فسألتهم : أين أصل هذا الدين . ؟ قالوا : بالشام . فهربت من والدي حتى قدمت الشام ، فدخلت على الأسقف (3) فجعلت أخدمه وأتعلم منه حتى حضرته الوفاة . فقلت : إلى من توصي بي . ؟ فقال : قد هلك الناس ، وتركوا دينهم إلا رجلاً بالموصل ، فالحق به ، فلما _________________ 1 ـ شرح النهج / ج 18 ص 37 إلى 39 . 2 ـ قطن النار : خادمها . 3 ـ الأسقف : من رجال الدين النصارى ، وهو فوق القسيس ودون المطران .
(60)
قضى نحبه لحقت بذلك الرجل . فلم يلبث إلا قليلاً حتى حضرته الوفاة . فقلت : إلى من توصي بي . ؟ فقال : ما أعلم رجلاً بقي على الطريقة المستقيمة إلا رجلاً بنصيبين . فلحقت بصاحب نصيبين . . (1) قال : ثم أحتضر صاحب نصيبين ، فبعثني إلى رجل بعموريه من أرض الروم ، فأتيته وأقمت عنده ، واكتسبت بقيرات وغنيمات . فلما نزل به الموت ، قلت له : بمن توصي بي . ؟ فقال : قد ترك الناس دينهم ، وما بقي أحد منهم على الحق ، وقد أظل زمان نبي مبعوث بدين ابراهيم ، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين ، لها نخل . قلت : فما علامته . ؟ قال : يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة . قال : ومر بي ركب من كلب ، فخرجت معهم ، فلما بلغوا بي وادي القرى ، ظلموني وباعوني من يهودي ، فكنت أعمل له في زرعه ونخله ، فبينا أنا عنده ، إذ قدم ابن عم له ، فابتاعني منه ، وحملني إلى المدينة ، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها . وبعث الله محمداً بمكة ، ولا أعلم بشيء من أمره ، فبينا أنا في رأس نخلة ، إذ أقبل ابن عم لسيدي ، فقال : ____________ 1 ـ نصيبين : مدينة تقع على الطريق القديم الممتد بين الشام والموصل ، كانت مشهورةً بكثرة العقارب . راجع معجم البلدان ج 5 / 288 . قالوا : وتلك الصومعة اليوم باقية ، وهي التي تعبد فيها سلمان قبل الإسلام ( الاصل ) .
(61)
قاتل الله بني قيلة (1) قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من مكة ، يزعمون أنه نبي . قال : فأخذني القُرّ (2) والانتفاض ، ونزلت عن النخلة ، وجعلت استقصي في السؤال ، فما كلمني سيدي بكلمة ، بل قال : أقبل على شأنك ، ودع ما لا يعنيك . فلما أمسيت ، أخذت شيئاً كان عندي من التمر ، وأتيت به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت له : بلغني أنك رجل صالح ، وأن لك أصحاباً غرباء ذوي حاجة ، وهذا شيء عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم . فقال عليه السلام لأصحابه : كلوا ، وأمسك فلم يأكل . فقلت في نفسي : هذه واحدة ، وانصرفت . فلما كان من الغد أخذت ما كان بقي عندي وأتيته به ، فقلت له : اني رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية . فقال : كلوا ، وأكل معهم . فقلت : إنه لهو . فأكببت عليه أقبله وأبكي . فقال : مالك ؟ فقصصت عليه القصة ، فأعجبه ، ثم قال : يا سلمان ، كاتب صاحبك . فكاتبته على ثلاثمائة نخلة ، وأربعين أوقية . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار : « أعينوا أخاكم » . فأعانوني بالنخل ، حتى جمعت ثلاثمائة ودية ، فوضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، فصحت كلها . وأتاه مال من بعض المغازي ، فأعطاني منه ، وقال : أدِّ كتابتك . فأديت وعتقت . ____________ 1 ـ لقب أهل المدينة . 2 ـ القر : البرد .
(62)
(63)
|