لـيـلـة الـميـلاد *
كان كسرى ابرويز ـ ملك الفرس ـ من أعظم سلاطين عصره ، وأكثرهم منعةً ونفوذاً ، وكان يحيط نفسه بهالةٍ من الأبهة والعظمة ، فكان يجلس في إيوانه وقد جمع فيه أجزاء عرش دارا (1) وكانت موشاةً بصور نجوم المجرة ، فإذا كان في مشتاه وضعت هذه الأجزاء يحيط بها ستار من أنفس الفراء تتدلى أثناءه ثريات من فضة وأخرى من ذهب ملئت بالماء الفاتر ، ونصب فوقها تاجه العظيم يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة مشدوداً إلى السقف بسلسلة من ذهب ، وكان يلبس نسيج الذهب ويتشح بحلي الذهب ، مما يلقي الهيبة في نفوس قواده ووزرائه وزواره إذا حضروا بين يديه . وفي ذات يوم إرتجس (2) الإيوان ، ورأى كسرى رؤيا هالته وأفزعته ، فقد رأى في نومه أنه سقط من قصره ستة عشر شرفة ، فلما أصبح ، أفزعه ما رأى ، فصبر تشجعاً ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته (3) فلبس تاجه وقعد على سريره ، وجمعهم إليه ، فلما إجتمعوا أخبرهم بالذي بعث إليهم فيه . ____________ * : هذه القصة أخذت من : أخبار الزمان / المسعودي ص 117 وقصص العرب 1 / 84 وحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم / 76 . 1 ـ أحد الملوك الأشداء قضى عليهم كسرى . 2 ـ ارتجس : إهتز . 3 ـ المرازبة جمع مرزبان : القائد الشجاع .
(32)
قال الموبذان (1) : عسى أن يكون خيراً ، وأنا ـ أصلح الله الملك ـ رأيت البارحة أن النيران قد خمدت وقلعت بيوتها وهلك سدنتها ، ورأيت إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها ، وقد أغمني ذلك . وبينما هم كذلك ، إذ ورد عليه كتاب بخمود النار ، فازداد كسرى غماً إلى غمه ، والتفت إلى الموبذان قائلاً له : وأي شيء يكون هذا يا موبذان ؟ ـ وكان أعلمهم عند نفسه بذلك ـ . قال الموبذان : ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء ـ أيها الملك ـ ولكن ارسل إلى عاملك في الحيرة يوجه إليك رجلاً من علمائهم ، فانهم أصحاب علم بالحدثان . فكتب عند ذلك : « من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر ، أما بعد : فوجّه إلي رجلاً عالماً بما أريد أن أسأله عنه . » فوجه إليه النعمان عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة الغساني . فلما قدم عليه ، قال له : أعندك علم بما أريد أن أسألك عنه . ؟ قال : ليخبرني الملك ، فان كان عندي منه علم ؛ وإلا أخبرته بمن يعلمه له ، فأخبره بما رأى ، فقال : علم ذلك عند خالٍ لي يسكن مشارف الشام ، يقال له سطيح (2) . قال : فأته فاسأله عما سألتك ، وإئتني بجوابه . ركب عبد المسيح راحلته حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت ، فسلم عليه وحيّاه ، فلم يجبه ؛ وكلمه ، فلم يرد عليه ! فقال :
أصَـمُّ أم يسمع غِـطـريـفُ الـيَمَـن * أم فَـادَ فـازْلـَمّ به شـأو الـعَنـَنْ (3) يـا فـاصِل الخِطة أعـيت مـَنْ ومَـنْ * أتـاك شيخ الـحيِّ مـن آل سَـنَـنْ
____________ 1 ـ الموبذان : للمجوس رئيسهم الديني . 2 ـ سطيح : من كهان العرب . 3 ـ فاد : مات . ازلم : ذهب مسرعاً . الشأو : المكان البعيد ، العنن : ما ينوب الانسان من العارض .
(33)
وأمـه مـن آل ذِئــب بـن حـَجَـن * أبيـضُ فـضفـاضُ الـرداء والـبَـدنْ رسـولُ قَيْـلِ الـعُجم يسري للـوسَـنْ * لا يـرهبُ الـرعد ولا ريـبَ الـزمـنْ (1) تجـوبُ بي الأرضَ عَـلَـنْـدَاةٌ شَـزَنْ * تـرفعـني وجـنٌ وتهـوي بـي وَجـَنْ (2) حتى أتى عـاري الجـآجي والـقَطَـنْ * تـلفـه في الـريح بَـوْغـاء الـدِمـَنْ (3)
فلما سمع سطيح شعره ، رفع رأسه وقال : عبد المسيح على جميل مُشيح (4) جاء إلى سطيح ، وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ، ورؤيا الموبذان ، رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً ، قد إقتحمت في الواد وانتشرت في البلاد . ثم قال : يا عبد المسيح ، إذا كثرت التلاوة ، وبعث صاحب الهراوة ، وفاض وادي السماوة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وخمدت نار الفرس ، فليست الشام لسطيح شاماً يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات ، وكل ما هو أتٍ آت ، . ثم قبض سطيح مكانه . ونهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول :
شمّـِر فـانـك ما عُمـّرت شـِمّيـر * لا يُفـزعنّـَك تـفـريـقٌ وتغـييـر إن يُمسِ ملك بني ساسـان أًفـرَطهـم * فـإن ذا الـدهـر أطـوار دهـاريـر فـربمـا ربمـا أضحـوا بـمنـزلـة * تهاب صَـولَـهُـمُ أسـدٌ مهـاصيـر منهـم أخـو الصرح بَهرامٌ واخوتُهـُم * وهُـرمُـزانٌ وسـابـورٌ وسـابـورٌ
____________ 1 ـ القيل : الملك أو من هو دونه . 2 ـ علنداة : ناقة ضخمة طويلة . وشزن : فيها نشاط . الوجن : الأرض الغليظة الصلبة . 3 ـ الجآجي : ربما يقصد بها الإبل ، القطن : أسفل الظهر . البوغاء : التراب الناعم . الدمن : ما تدمن منه ، أي تجمع . 4 ـ مشيح : جادٌّ مسرع .
(34)
والـناس أولاد عَـلاَّتٍ فمـن عَـلمِـوا * أن قـد أقـَلَّ فمهجـورٌ ومحقـورٌ (1) وهـم بنـو الأمِّ لـمـا أن رأوا نَشَبـاً * فـذاك بالغيب محفـوظ ومنصـور (2) والخيـر والـشر مقرونـان في قَـرَنٍ * فـالخير مُـتَّبَـعٌ والـشر محـذوراُ
فلما قدم عبد المسيح على كسرى ، أخبره بقول سطيح . فقال : إلى أن يملك منا ستة عشر ملكاً تكون أمور ويدور الزمان . قالوا : ولما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارتج إيوان كسرى ، وسقطت منه أربع عشر شرفة ، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك مائة عام ، وغاضت بحيرة ساوة ، وكانت لا تغيض ، وفاض وادي السماوة بالماء . وان الرؤيا التي رآها كسرى والموبذان كانت في تلك الليلة . وقد يجد القارئ في هذه القصة شيئاً من الغرابة يأخذه معها العجب ، ولكن حينما يعود الأمر لله سبحانه فيما يختص به أنبيائه وأصفيائه ، لا يبقى العجيب عجيباً ، ولا الغريب غريباً . لقد كان هذا التغير الطارئ العجيب إشعاراً ببداية عهد جديد على الأرض ، يقوم على أسس العدل والحكمة ، كما كان إخطاراً يلوح لبداية انقراض العهود المظلمة ، وانتهاء مسيرة المدلجين في وهد الباطل .
الـبشـارة
مع هذه البداية الغريبة بدأت البشارة باقتراب الموعد وساعة الخلاص ، البشارة التي تحدث عنها المسيح عليه السلام ، ورسمت في الإنجيل ، وترجمها لنا القرآن . « وإذ قال عيسى بن مريمَ يا بَني اسرائيل إني رسول اللهِ إليكم مصدّقاً لما بين ____________ 1 ـ أولاد العلات : أولاد امهات شتى لرجل واحد . 2 ـ النشب : المال والخير . 3 ـ القرن : الحبل .
(35)
يديَّ من التوراة ومبَشِّراً برسولٍ يأتي من بعدي إسمه أحمد . . » الآية (1) لقد تناقل الرهبان والموحدون هذه البشارة ، ودارت على ألسنتهم طيلة الفترة ما بين صعود المسيح إلى السماء ، ومبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد تحدثت كتب التأريخ القديمة عن ذلك ، بل إتفق المؤرخون على أن بعض الأحبار والكهان كانوا يعلمون ذلك . وعلى سبيل المثال نذكر بعض الشواهد على هذا : روي عن عبد المطلب أنه حين زار مع وفد من سادات قريش سيف بن ذي يزن لتهنئته بملك اليمن ، اختلى هذا الأخير بعبد المطلب وبشره بمولود لقريش في مكة يكون رسولاً إلى الناس أجمعين ، وأعطاه صفاته ، ولما وجد عبد المطلب هذه الصفات تنطبق على حفيده محمد صلى الله عليه وآله وسلم سجد لله شكراً على ذلك . وقصة الراهب بحيرى الذي مر به أبو طالب ومعه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في طريقهم إلى الشام فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً ، وينظر إلى أشياء في جسده كان يجدها عنده من صفاته ، ثم نظر إلى كتفه فوجد فيه خاتم النبوة ، فتيقن أنه هو النبي الذي بشر به المسيح ، فأقبل إلى عمه أبي طالب ، فقال له : ما هذا الغلام منك . ؟ قال : إبني . قال بحيرى : ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً . قال : فانه ابن أخي . قال : فما فعل أبوه ؟ قال : مات وأمه حبلى به . ____________ 1 ـ الصف ـ 6 .
(36)
قال : صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه . . القصة (1) . وقس بن ساعدة ، كان أحد المبشرين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبرسالته ، وكان من عقلاء العرب وحكمائهم ، وهو القائل :
هل الـغيث معطي الأمن عند نزولـه * بحـال مسـيءٍ في الأمـور ومحسـن
وما قـد تـولى فهو فـات وذاهـب * فهـل ينفـعنـي لـيتـني ولـو أننـي
وكان قس في زمانه أكثر الناس عبادةً ، وأفصحهم خطابةً ، وكان كثيراً ما يذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويبشر الناس به ، وآمن به قبل مبعثه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن أخباره وترحم عليه ويقول : سيحشر قس أمةً وحده . (2) ولقد كانت هذه البشارة تزداد شيوعاً كلما اقترب وقت مبعثه صلوات الله عليه وكان سلمان قد سمع هذه البشارة ، ووعاها قلبه فنبت حب محمد صلوات الله عليه في لحمه ودمه ، فكان أحد المنتظرين ، يترقب ساعة الخلاص لحظةً بعد لحظة ، ويوما بعد يوم وكلمة الراهب لا زالت ترن في أذنه : « هذا آوان يظهر فيه نبي من العرب . . » . لا يكاد سلمان يتذكر هذا ، حتى يتمنى لو أن الزمان يطوى له كي يلتقي بالرسول المرتقب صلوات الله عليه . ____________ 1 ـ السيرة النبوية 1 / 165 ـ 166 بتصرف . 2 ـ حقائق الإيمان / 383 .
(37)
|