سلمان والمجوسية
قال سلمان رضي الله عنه وأرضاه : « كنت ابن دهقان * قرية جي من أصبهان ، وبلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت كما تحبس الجارية فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن بيت النار . . » (1) الذي يبدو من هذا النص أن سلمان اعتنق المجوسية في بادئ أمره عندما كان يعيش في ظل أبويه شأن أي إنسان يعتنق دين آبائه وأجداده حين لا يجد مندوحةً عن ذلك وحين يفتقد المرشد والموجّه ويعيش بعيداً عن آفاق المعرفة . ومع هذا فان ذلك لا يمكن جعله خدشةً في نقاء الذات التي كان يحملها سلمان ولا وصمةً في طهرها ، سيما بعد أن يتضح لنا أن إرتباطه بالمجوسية كان شكلياً صورياً غير مستند إلى شيءٍ من قناعاته كما سيأتي . وقبل البحث في هذه الناحية لا بد لنا من المرور في تأريخ « المجوسية » بشكل عابر وسريع نظراً لارتباط سلمان بها تأريخياً ، ومن ثم إيقاف القارىء على حقيقتها ، إذ أن للمجوسية في أذهاننا صورة لم تشأ الذاكرة أن تحتفظ منها بأكثر من « بيوت النيران » وتقديس المجوس أو عبادتهم لها حيث لم ____________ * الدهقان : أمير البيدر أو أمير الفلاحين . وقطن بيت النار : سادنها والمشرف عليها . 1 ـ شرح النهج 18 / 36 ومضمون هذا النص متفق عليه لدى أغلب المؤرخين .
(12)
يوفروا لأنفسهم من هذا الدين سوى طابع الوثنية وتأطيرهم أنفسهم به عبر العصور ، إذن طبيعة البحث تتطلب منا معرفة : ما هي المجوسية ؟ المعروف عن المجوس أنهم المؤمنون بزرادشت ، وكتابهم المقدس ( أوستا ) غير أن تاريخ حياته وزمان ظهوره مبهم جداً كالمنقطع خبره ، وقد افتقدوا الكتاب باستيلاء الإسكندر على إيران ، ثم جددت كتابته في زمن ملوك ساسان ، فأشكل بذلك الحصول على حاق مذهبهم . والمسلّم أنهم يثبتون لتدبير العالم مبدأين ، مبدأ الخير ومبدأ الشر « يزدان وأهريمن » أو « النور والظلمة » ويقدسون الملائكة ويتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم أصناماً كما يفعل الوثنيون ، وهم يقدسون البسائط العنصرية وخاصةً النار ، وكانت لهم بيوت نيران بإيران ، والصين ، والهند ، وغيرها ، وينهون الجميع إلى « أهورا مزدا » موجد الكل . » (1)
هل هم أصحاب كتاب ؟
والجواب عن هذا السؤال تتكفل به الكتب الفقهية لما يحمل من أهمية تتصل ببعض الأحكام الشرعية المترتبة على ذلك نفياً أو إثباتاً . فالمقصود بأهل الكتاب ، هم الأمة أو الفئة الخارجة عن الشريعة الإسلامية ، لكنها تعتنق شريعةً معينة تسندها إلى الخالق سبحانه بواسطة النبي المرسل إليها ، وهؤلاء منهم من له كتاب محقق كاليهود والنصارى فان التوراة والإنجيل كتابان سماويان بلا شبهة . ومنهم من له شبهة كتاب ، كالمجوس . ولا يبعد أن المراد بالكتب الكتب المنزلة على أولياء العزم وهم : نوح ، وأبراهيم ، وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، والذي بقي منها إنما هو التوراة والإنجيل لا غير ، فاختص اتباعهما باسم « أهل الكتاب » في القرآن الكريم ، ولم يثبت أن الإنجيل لم تكن له نسخة في زمن نزول القرآن غير هذه ____________ 1 ـ لاحظ الميزان في تفسير القرآن 14 / 358 .
(13)
النسخ الأربع التي هي ليست منه في خلٍ ولا خمر ، لأنها وضعت من جماعة بعد صعود المسيح عليه السلام بمدد طويلة . فإنجيل « مرقس » كتب بعد سبعين عاماً من صعود المسيح إلى السماء ، وأنجيل « متى » كتب في أوائل القرن الأول من صعوده ، وانجيل « لوقا » كتب في أوائل القرن الثاني وهكذا انجيل « يوحنا » وهي تنقض بعضها بعضاً في نسب المسيح وغيره . (1) أما المجوس ، فالذي يظهر من كلام الشهرستاني أن كتابهم هو : صحف ابراهيم عليه السلام ، لكن تلك الصحف قد رفعت لأحداثٍ أحدثوها . . (2) والأخبار الواردة في كتب الفقه تؤكد على أنهم من أهل الكتاب ، لكنها لا تشير إلى رفعه عنهم . فمن ذلك : ما رواه الشافعي باسناده ، أن فروة بن نوفل الأسجعي قال : على ما تؤخذ الجزية من المجوس ، وليسوا بأهل كتاب ؟ فقام إليه المستورد ، فأخذ بتلبيبه فقال : عدو الله ، أتطعن في أبي بكر وعمر وعلي أمير المؤمنين « عليه السلام » وقد أخذوا منهم الجزية ، فذهب به إلى القصر فخرج علي عليه السلام ، فجلسوا في ظل القصر ، فقال : أنا أعلم الناس بالمجوس ، كان لهم علم يعلمونه ، وكتاب يدرسونه . (3) ومنه : ما رواه أحمد بن عبد الله بن يونس عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة : أن علياً عليه السلام قال على المنبر « سلوني قبل أن تفقدوني » فقام إليه الأشعث فقال : يا أمير المؤمنين ، كيف تؤخذ الجزية من المجوس ، ولم ينزل عليهم كتاب ، ولم يبعث اليهم نبي ؟ . ____________ 1 ـ طهارة أهل الكتاب ، مخطوط ص 7 . 2 ـ الملل والنحل 1 / 208 . 3 ـ طهارة الكتابي ص 13 نقلاً عن سنن البيهقي 9 / 188 .
(14)
فقال : بلى يا أشعث ، قد أنزل الله عليهم كتاباً ، وبعث إليهم نبياً . . (1) ومنه : صحيحة أو موثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى البحرين فأصاب بها دماء قوم من اليهود والنصارى والمجوس ، فكتب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أني قد أصبت دماء قوم من اليهود والنصارى فوديتهم ثمانمائة درهم ثمانمائة ، وأصبت دماء قوم من المجوس ولم تكن عهدت إلي فيهم عهداً . فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن ديتهم مثل دية اليهود والنصارى ، وقال : إنهم أهل الكتاب . (2) إلى غير ذلك من النصوص .
واضع شريعة المجوس الذي يظهر من أقوال المؤرخين أن واضع شريعتهم هو زرادشت الحكيم ، وأنه كان موحداً كما يستفاد ذلك من مجموع ما نقل من آرائه الفلسفية ، قال ابن الأثير : « وشرح زرادشت كتابه وسماه « زند » ومعناه التفسير ، ثم شرح الزند بكتاب سماه « بازند » يعني تفسير التفسير وفيه علوم مختلفة كالرياضيات وأحكام النجوم والطب وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء . . الخ » (3) والذي يقوى عندي ـ بعد ملاحظة النصوص ـ أن زرادشت ليس هو واضع شريعتهم ، بل هو مجدد لها ومبين للكتاب الحقيقي الذي رفع عنهم . ____________ 1 ـ الوسائل 11 ب 49 ج 7 ص 98 وفيه أخبار كثيرة تشير إلى أنه كان لهم نبي فقتلوه وكتاب حرقوه لكنها غير معتبرة . 2 ـ الوسائل 19 ب 13 ح 7 ص 161 . 3 ـ الكامل 1 / 258 وللتفصيل راجع الملل والنحل للشهرستاني فانه أسهب في عرض معتقداتهم 1 / 233 وما بعدها .
(15)
مذاهبهم ويبدو أن الفرق المجوسية تنوف على أربع عشر فرقة ، منها : « الثنوية » « والمانوية » و« الزرادشتية » و « والكيومثرية » و « الزروانية » و « المسخية » و « الديصانية » . وغيرها . (1)
هل اعتنق سلمان المجوسية . . ؟ إلا أنه من المقطوع به عندي أن سلمان لم يعتنق المجوسية حتى في صباه ، بل كان موحداً لله سبحانه ، نعم حكمت عليه بيئته التي عاش فيها أن يرتبط بالمجوسية أرتباطاً شكلياً ، كما ورد ذلك في الأحاديث المأثورة عن النبي الكريم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين . من ذلك ما رواه الصدوق عن ابن نباتة عن علي عليه السلام حديث جاء فيه : « حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلمان بين يديه فدخل أعرابي فنحاه عن مكانه وجلس فيه ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى در العرق بين عينيه واحمرتا عيناه ثم قال : يا أعرابي أتنحي رجلاً يحبه الله تبارك وتعالى في السماء ويحبه رسوله في الأرض . . إلى أن قال : إن سلمان ما كان مجوسياً ، ولكنه كان مظهراً للشرك مبطناً للإيمان . » (2)
وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام « إن سلمان كان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين . » (3) قال الصدوق : إن سلمان ما سجد قط لمطلع الشمس ، إنما كان يسجد لله عز ____________ 1 ـ الملل والنحل 1 / 233 . 2 ـ لاحظ البحار 22 / 347 وستأتي القصة مفصلةً انشاء الله تعالى . 3 ـ البحار 22 / 327 .
(16)
وجل ، وكانت القبلة التي أمر بالصلاة إليها شرقيةً ، وكان أبواه يظننان أنه إنما يسجد للشمس كهيئتهم . » (1) أجل ، إن من يتتبع قصة إيمان هذا الرجل يلمس فيها شواهد على ذلك ، لقد خيل لي وأنا أكتب عن هجرته من فارس أن هذه الآية كانت تعج في أعماق نفسه : « قال يا قوم إني بريءٌ مما تُشركون إني وجّهتُ وجهيَ للذي فَطَر السمواتِ والأرضَ حَنيفاً وما أنا مِنَ المشرِكين . » الأنعام ـ 79 ____________ 1 ـ سلمان الفارسي / 4 .
(17)
|