الـزّاهد المتعبِـّد
في حلية الاولياء بسنده عن أبي ذر ، قال : والله لو تعلمون ما أعلم ، ما انبسطتم الى نسائكم ، ولا تقَاررتهم على فرشكم ، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني ، يوم خلقني ـ شجرة تُعضد ، ويؤكل ثمرها . وروى الصدوق في الخصال بسنده ، عن الصادق ( عليه السلام ) عن أبيه قال : بكى أبو ذر من خشية الله عز وجل ، حتى اشتكى بصره ! فقيل له : يا أبا ذر ! لو دعوت الله أن يشفي بصرك ! ؟ فقال : اني عنه لمشغول ! وما هو من أكبر همي . قالوا : وما يشغلك ؟ قال : العظيمتان ! الجنة والنار !! . قال أبو ذر : من جزى الله عنه الدنيا خيرا ! فجزاها الله عني مذمة ، بعد رغيفي شعير ، أتغدى بأحدهما ، وأتعشى بالآخر ، وبعد شملتي صوف ، أتَّزر باحداهما ، وأرتدي بالأخرى . وقال : كان قوتي على عهد رسول الله من تمر ، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله !
(174)
عن عيسى بن عميلة الفزاري قال : أخبرني من رأى أبا ذر يحلب غُنيمة له ، فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه ، ولقد رأيته ليلة حلب حتى ما بقي في ضروع غنمه شيء ، إلا مَصَره وقرَّب اليهم تمراً ، وهو يسير ، ثم تعذر اليهم وقال : لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا ، لجئنا به ! وما رأيته ذاق تلك الليلة شيئاً . وقيل له : ألا تتَّخذ ضيعة ، كما إتَّخذ فلان وفلان !؟ قال : وما أصنع ، بأن أكون أميرا ؟ وانما يكفيني كل يوم شربه ماء أو لبن ، وفي الجمعة قفيز من قمح . قال أبو ذر : يولدون للموت ، ويعمرون للخراب ، ويحرصون على ما يفنى ، ويتركون ما يبقى ألا حبذا المكروهان : الموت ، والفقر ( في سبيل الله ) . عن ابي جعفر ( عليه السلام ) قال : أتى أبا ذر رجل يبشره بغنم له قد ولدت . فقال : يا أبا ذر ! أبشر فقد ولدت غنمك ، وكثرت ! فقال : ما يسرّني كثرتها ، وما أحب ذلك ! فما قلَّ وكفى ، أحب اليّ مما كَثر وألهى ! اني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : على حافتيّ الصراط يوم القيامة : الرحم ، والامانة ، فاذا مرَّ عليه الوصول للرحم ، المؤدي للأمانة ، لم يتكفأ به في النار . وقيل له عند الموت : يا أبا ذر ، ما لك . ؟ قال : عملي ! قالوا : إنا نسألك عن الذهب والفضة .! قال : ما أصبح ، فلا أمسى ، وما أمسى فلا أصبح ، لنا كندوج * ____________ 1 ـ هذا الفصل اخذناه من أعيان الشيعة 16 ص 326 الى 331 . * الكندوج : لفظ معرب ، معناه : الخزانة .
(175)
ندع فيه خير متاعنا ، سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كندوج المرء ، قبره (1) . وفي حلية الاولياء ، بسنده ، عن محمد بن سيرين ، قال : « بلغ الحارث ( رجلا كان بالشام ) أن أبا ذر به عوز ، فبعث اليه بثلاثمائة دينار . فقال : ما وجد عبداً لله تعالى هو أهون عليه مني ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من سأل ، وله أربعون ، فقد ألحف ! ) ولآل أبي ذر أربعون درهماً ، وأربعون شاة .
مـن فضـائلـه
ما روي عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال : دخل أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعه جبرئيل ، فقال جبرئيل : من هذا يا رسول الله ؟ قال : أبو ذر . قال : أما انه في السماء أعرف منه في الأرض ، وسله عن كلمات يقولهن اذا أصبح ، قال : فقال : يا أبا ذر ، كلمات تقولهن اذا أصبحتَ ، فما هنَّ ؟ قال : أقول ، يا رسول الله : ( اللهم اني أسألك الايمان بك ، والتصديق بنبيك ، والعافية من جميع البلايا ، والشكر على العافية ، والغنى عن شرار الناس (2) ) . ____________ 1 ـ معجم رجال الحديث 4 / 171 . 2 ـ نفس المصدر 4 / 168 .
(176)
مِـن كَـلاَمه
روي عن أبي جعفر ( الباقر ) عليه السلام قال : قام أبو ذر رضي الله عنه ، بباب الكعبة ، فقال : أنا جندب بن جنادة الغفاري ، هلموا الى أخ ناصح شفيق . فاكتنفه الناس ، فقالوا : قد دعوتنا ، فانصح لنا . قال : لو أن أحدكم أراد سفرا ، لأعدَّ فيه من الزاد ما يصلحُهُ ، فما لكم لا تزوّدون لطريق القيامة ، وما يصلحكم فيه ؟ قالوا : كيف نتزوّد لذلك ؟ فقال : يحج الرجل حجة لعظام الامور ، ويصوم يوما شديد الحرّ ليوم النشور ، ويصلي ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور . ويتصدق بصدقة على مسكين لنجاة من يوم عسير . يا ابن آدم ! اجعل الدنيا مجلسين ، مجلساً في طلب الحلال ، ومجلساً للآخرة ، ولا تزد الثالث ، فانه لا ينفعك . واجعل الكلام كلمتين ، كلمة للآخرة ، وكلمة في إلتماس الحلال ، والثالثة تضرّك . واجعل مالك درهمين ، درهماً تنفقه على عيالك ، ودرهماً لآخرتك ، والثالث لا ينفعك . واجعل الدنيا ساعة من ساعتين ، ساعة مضت بما فيها ، فلست قادراً على ردِّها ، وساعة آتية لست على ثقة من ادراكها ، والساعة التي أنت فيها ساعة عملك ،
(177)
فاجتهد فيها لنفسك ، وإصبر فيها عن معاصي ربِّك ! فان لم تفعل ، فقد هلكت ! . ثم قال : قتلني همّ يوم لا أدركه (1) . وعن أبي عبد الله الصادق ، عن أبيه ـ عليهما السلام ـ أنه قال : في خطبة أبي ذر : يا مبتغي العلم ، لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك . أنت يوم تفارقهم كضيف بتَّ فيهم ثم غدوت الى غيرهم . الدنيا والآخرة كمنزل تحولت منه الى غيره . وما بين البعث والموت ، إلا كنومة نمتها ، ثم استيقضت منها . يا جاهل العلم تعلَّم ، فانَّ قلباً ليس فيه شرف العلم ، كالبيت الخراب الذي لا عامرَ له . وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام ، عن أبي ذر قال : يا باغي العلم ، قدّم لمقامك بين يدي الله ، فانك مرتهن بعملك ، كما تدين تُدان . يا باغي العلم ، صلِّ قبل أن لا تقدر على ليل ولا نهار تصلي فيه ! إنما مَثلُ الصلاة لصاحبها ، كمثل رجل دخل على ذي سلطان فأنصتَ له حتى فرغ من حاجته . وكذا المرء المسلم باذن الله عزَّ وجلّ ، ما دام في الصلاة ، لم يزل الله عز وجل ينظر اليه حتى يفرغ من صلاته . يا باغي العلم ، تصدّق من قبلِ أن لا تُعطى شيئا ، ولا جميعه ، إنما مَثل الصدقة لصاحبها ، مَثلُ رجل طلبه قوم بدم ، فقال لهم . لا تقتلوني ، ____________ 1 ـ تنبيه الخواطر 2 / 274 .
(178)
إضربوا اليّ أجلا أسعى في رجالكم ! كذلك المرء المسلم باذن الله ، كلما تصدق بصدقة ، حلَّ بها عقدة من رقبته ، حتى يتوفى الله عز وجل أقواماً وهو عنهم راض ، ومن رضي الله عز وجل عنه ، فقد أمن من النار . يا باغي العلم ، إن هذا اللسان مفتاح خير ، ومفتاح شر ، فاختم على فمك كما تختم على ذَهبك وعلى وَرِقِك . يا باغي العلم ، إن هذه الأمثال ضربها الله عز وجل للناس ، وما يعقلها إلا العالمون (1) . ! ____________ 1 ـ تنبيه الخواطر ـ 2 / 316 .
(179)
|