بَينَ النّـبي وَأبي ذَرّ
قال أبو ذر : ودخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو في المجلس جالس وحده ، فاغتنمت خلوته ! فقال : يا أبا ذر ، إن للمسجد تحيَّة ! قلت : وما تحيته يارسول الله . ؟ قال : ركعتان . فركعتهما . ثم التفتّ اليه ، فقلت : يا رسول الله ، أي الاعمال أحبّ الى الله جلَّ ثناؤه ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الإيمان بالله ، ثم الجهاد في سبيله . قلت : يا رسول الله ، أمرتني بالصلاة ، فما الصلاة ؟ قال : خير موضوع ، فمن شاء أقلّ ، ومن شاء أكثر . ! قلت : يا رسول الله ، أي المؤمنين ، اكمل إيماناً . ؟ قال : أحسنهم خُلقاً . قلت : فأيّ المؤمنين أفضل ؟ قال : من سَلِمَ المسلمون من يده ولسانه . ! قلت : فأيّ الهجرة أفضل . ؟ قال : من هجر الشر !
(166)
قلت : فأيّ الليل أفضل (1) ؟ قال : جوف الليل الغابر ! . قلت : فأي الصلاة أفضل ؟ قال : طول القنوت ! قلت : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : جَهد (2) من مُقلّ الى فقير في سر . قلت : فما الصوم ؟ قال : فرض مجزيء . وعند الله أضعاف ذلك . قلت : فأي الرقاب أفضل ؟ (3) قال : أغلاها ثمنا ، وأنفسها عند أهلها . قلت : فأي الجهاد أفضل ؟ قال : من عقر جواده ، وأهريق دمه ! قلت : فأيّ آية انزلها الله عليك أعظم ؟ قال : أية الكرسي ! ثم قال : يا أبا ذر ، مالسموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة ! وفضل العرش على الكرسي ، كفضل الفلاة على تلك الحلقة . قلت : يا رسول الله ، كم النبيون ؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي ! ____________ 1 ـ يعني : للعبادة . 2 ـ جهد المقل : قدر ما يحتمله قليل المال . 3 ـ للعتق .
(167)
قلت : كم المرسلون منهم ؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر ! جمَّاً غفيرا * . قلت : من كان أول الأنبياء ؟ قال : آدم . قلت وكان من الانبياء مرسلا ؟ قال : نعم ! خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه . ثم قال : يا أبا ذر ! وأربعة من الأنبياء سريانيون . آدم ، وشيث ، وأخنوخ ( وهو إدريس ) وهو أول من خط بالقلم ، ونوح . وأربعة من الأنبياء من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . وأول نبي من بني اسرائيل : موسى ، وآخرهم : عيسى بينهما ستمائة نبي . قلت : يا رسول الله ، كم أنزل الله من كتاب ؟ قال : مائة كتاب ، وأربعة كتب . أنزل الله على شيث ، خمسين صحيفة . وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى ابراهيم ، عشرين صحيفة ، وانزل التوارة ، والانجيل ، والزبور ، والفرقان . قال ، قلت : يا رسول الله ، فما كانت صُحُف ابراهيم ؟ قال : كانت أمثالا كلها ! وفيها : ـ أيُّها الملِكُ المتسلِّط ، المبتلى ، المغرور . إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها الى بعض ، ولكن بعثتك لتردّ دعوة المظلوم ، فاني لا أردّها ، وان كانت من كافر أو فاجر !! وفجوره على نفسه . وكان فيها : على العاقل ـ ما لم يكن مغلوبا على عقله ـ ان يكون له ____________ * الجم الغفير ، هنا : الكثير البركة .
(168)
ساعات ، ساعة يناجي فيها ربَّه ، وساعة يصرفها في صنع الله تعالى ، وساعة يحاسب فيها نفسه فيما قدّم وأخَّر ، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال في المطعم والمشرب . فانَّ هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب ، وتوديع لها ؟ وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث : تزوّد لمعاد . أو مرمَّة لمعاش . أو لذة في غير محرّم . وعلى العاقل ، أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه . ومن حسب كلامه من عمله ، قلّ كلامه إلا فيما يعنيه . قلت : يا رسول الله ، ما كانت صحف موسى ( ع ) ؟ قال : كانت اعتبارا كلها ! عجباً لمن أيقن بالنار ، كيف يضحك ؟! عجباً لمن أيقن بالموت ، كيف يفرح ؟! عجبا لمن أبصر الدنيا ، وتقلُّبها بأهلها حالا بعد حال ، ثم يطمئن اليها !؟ عجباً لمن أيقن بالحسنات غدا ، كيف لا يعمل !؟ قلت : يا رسول الله ، فهل في أيدينا مما أنزل الله عليك ، شيء مما كان في صحف ابراهيم ، وموسى ؟ . قال : إقرأ يا أبا ذر : قد أفلَحَ من تَزكَّى ، وذكَر إسم ربِّه فصلَّى ، بل تُؤثرونَ الحَياةَ الدُنيا . والآخرة خير وأبقى إنَّ هذا ( يعني ذكر هذه الأربع آيات ) لفي الصحف الأولى ، صُحُفِ ابراهيمَ وموسى . . قلت : يا رسول الله ، أوصني . قال : أوصيك بتقوى الله ، فانها رأس أمرِكَ كلِّه . قلت : يا رسول الله : زدني . قال : عليك بتلاوةِ القرآن ، وذكرِ الله كثيرا ، فانه ذكر لك في السماء ، ونور لك في الارض .
(169)
قلت : يا رسول الله ، زدني . قال : عليك بالجهاد ، فانه رهبانية أمتي . قلت : يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، زدني . قال : عليك بالصمت ، إلا من الخير ، فانه مطرَدة للشيطان عنك ، وعون لك على أمر دينك . قلت : يا رسول الله ، زدني . قال : إياك وكثرة الضحك ، فانه يميت القلب ، ويَذهب بنور الوجه . قلت : يا رسول الله ، زدني . قال : انظر ( الى ) من هو تَحتك ، ولا تنظر الى من هو فوقك ، فانه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك . قلت : يا رسول الله ، زدني . قال : صِلْ قرابتك وإن قطعوك ، وأحِبّ المساكين وأكثر مجالستهم . قلت : يا رسول الله ، زدني . قال : قل الحق ، وان كان عليك مرّاً . قلت : يا رسول الله ، زدني . قال : لا تَخف في الله لومة لائم . قلت : يا رسول الله زدني . قال : يا أبا ذر ، ليرُدَّك عن الناس ما تعرف من نفسك ، ولا تجد
(170)
عليهم فيما يأتي ، فكفى بالرجل عيباً أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه ، ويجد عليهم فيما يأتي . قال : ثم ضرب بيده على صدري ، وقال : يا أبا ذر ، لا عقل كالتدبير ، ولا ورع كالكفّ ، ولا حسَب كحُسن الخلق (1) . ____________ 1 ـ تنبيه الخواطر ـ 2 / 314 الى 316 / ومعاني الاخبار 333 الى 335 . وقد وجدت بعضا من مقاطع هذا الحوار في الكامل 1 / ص 47 ـ 60 ـ 124 .
(171)
|