الفَـصْـل الثَّـاني
* بينَ أبي ذَرّ وَعثمان * حُـلمُ الأمـَويّـين * الإمَـــامَـــة * فـي السَّـقيـفَـة * إثَـارَة الـفِـتَـن * رقَـابَـة المُسلمين * فِـقدان الهيَبة في خِلافة عثمان * سيَاسَة عثمان في إختِيار الولاة * سياستهُ في المـال * معـارضة أبـي ذرّ * مَوقف أبي ذَرّ من مُعَاوِية * ودَاع أهـل الشّام لَه
(84)
(85)
يـا أبـا ذر ! انـك غَضِبـتَ للهِ ، فـارجُ مَـن غَضِبـتَ لـه ، إنَّ القـومَ خـافوكَ على دُنيـاهـم ، وخِفتهـم على دِينـك ، فاتـرُك فـي أيـديِـهم مـا خـافـوكَ عليـه ، واهـرب مِنهـم بمـا خفتـهـم عليـه ! فـمـا أحـوَجـَهـُم الـى مـا مـنعـتـهـم ، ومـا أغـنـاكَ عـمَّـا منعـوك .
الإمام علي ( عليه السلام )
(86)
(87)
حُـلمُ الأمـوَيّين
حَلم الأمويين طويلا ، بالحكم والرياسة والمجد ، قبل البعثة النبوية المباركة ، لأن المسألة ـ بنظرهم ـ لا تعدو المفخارة بالإيلام ، والإطعام ، ونحر الجزر ، على مرأى من الحَكَمِ الذي يختارونه للبتِّ فيما بينهم ، والحكم إمَّا لهم ، وإمَّا عليهم . لكن هذا الحلم الطويل ، بترته البعثة النبوية المباركة ، فعاد سراباً بِقيعة . يظهر ذلك ، من خلال ما قاله بعض قادتهم وزعمائهم . قال : « تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، حتى اذا تحاذينا على الرُكب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك مثل هذا ؟ واللات لا نؤمن به ولا نصدقه » (1) . لقد كانت نبوة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مفاجأة رهيبة بالنسبة للفكر العربي المتخلف ـ آنذاك ـ كما كانت ضربة قاصمة في صميم العصبية الجاهلية ، لذلك ، رأينا قريشا ، وقد تألبت وأجمعت على حرب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومكافحة رسالته ، وان الأمويين ـ أبناء العم ـ هم الذين اضطلعوا بذلك ، فكانوا ____________ 1 ـ حياة الامام الحسن 1 / 21 .
(88)
على رأس الحملات المضادة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولرسالته السمحاء . سيَّما وأنهم يعتبرون أنفسهم غرماء مجد للهاشميين . وأظهر الله نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على قريش وكافة من ناهضه من المشركين ، فانتصر المسلمون انتصارات متتالية ، انتصر فيها الحق على الباطل ، والخير على الشر ، وأخذ الاسلام يشق طريقه نحو القمة ، ويأخذ مكانه في النفوس ، بروحيته السمحة ، ومبادئه العالية . . ولا غرو في ذلك ، ولا عجب . فقد استصفى الله الانسان من دون سائر مخلوقاته ، واستصفى للانسان دين الاسلام ، فقال تعالى : « إنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسلامُ ومَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلام دِيناً فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وهوَ في الآخِرة مِن الخَاسرين » . لقد أرسى النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قواعد الرسالة الكريمة ، وأحكم دعائمها ووطد أركانها وأعاد للانسانية شرفها وكيانها ، بعد أن كانت ضحية أهواء الجبابرة وأرباب السلطان ، من شذاذ الآفاق الذين لا همَّ لهم إلا إشباع رغباتهم ونزواتهم على حساب الضعفاء من عامة الناس . والتحق صلى الله عليه وآله وسلم بربه راضيا مرضيا ، وظل حُلمُ الامويين محالا في قاموس الاسلام ، ولكن ما ان مضت فترة من الزمن وجيزة ، حتى عاد هذا الحلم يراود أهله من جديد ، فقد بدأ يتمطى عن رقدة طويلة ، عادت بعدها آمالهم خضراء مورقة . فها هي إمارات « ملك بني أمية » تلوح من قريب ، بعد ان كانت بعيدة عن دنيا الاسلام . إنه « الملك » في مفهوم بني أمية و « الخلافة » في مفهوم الاسلام . وما أبعد ما بينهما . إنه كالبعد بين الحق ، والباطل ، خطان متوازيان ، ذاك يدعو الى الجنة ، وهذا يجر الى النار ، وذاك ينصر المظلوم ـ في الله ـ
(89)
وهذا يقرّ الظالم ، وذاك يطارد المفسدين والقتلة ، وهذا يقتل أولاد الأنبياء ، ويمثِّل بالأبرار ، ويطارد المؤمنين . ويأتي السؤال هنا : كيف تسنى لهذه الفئة التي جهدت في حرب الرسول والرسالة ، أن تخلف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مقعده ، وأن تتسلط على مقدرات الامة الاسلامية ، زهاء ثمانين سنة ؟ ! كيف تسنى لهم استغلال نبوة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للاستيلاء على العالم الاسلامي ، وبسط نفوذهم فيه ، وتحويل الخلافة بالتالي الى ملك عضوض يتوارثه الأبناء ؟ ومن المسؤول عن ذلك ؟ وسواء تجاهلنا الامر ، أو تجاهله غيرنا ، فان ذلك لا يترك لنا مندوحة للتهرب من إدراكنا للظروف الصعبة التي عاشها المسلمون السابقون في فترات مختلفة ، أو التهرب من الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون اليوم بشكل عام ، والذي حدث نتيجة للانحراف القديم . إن هذا السؤال يفرض نفسه ، ويتطلب منا جوابا واضحا لا إلتواء فيه ، ولا مواربة . ويجدر بنا ـ ونحن نتلمس الإجابة عن هذا السؤال ـ أن نتناول بعض النصوص التأريخية وننظر فيها نظرة تمحيص وتحليل ، نسلط خلالها الأضواء الكاشفة على خفاياها ـ إن كانت غامضة ـ ونتأملها طويلا ، فهي تحكي وتجلو لنا حقبة تأريخية معينة ، عاشها المسلمون وتفاعلوا معها، وأوصلتهم بالتالي الى ما وصلوا اليه من تفكك وانهيار ، أفقدهم شخصيتهم المميزة عبر التأريخ . نتأمل تلك النصوص ـ بموضوعية وعمق ـ كي نصل الى نقطة الارتكاز الرابطة بين ما عاناه المسلمون في السابق ، وما يعانونه اليوم ، وبين الاسباب الحقيقية لذلك ، محاولين قدر الإمكان أن نبتعد بضمائرنا
(90)
وتفكيرنا ، عن كل الحساسيات ، والتشنجات النفسية ، لنوفر للعقل وحده فرصة الانتصار . والذي يبدو جليا واضحا ، أن المسلمين الأوائل يتحملون شطرا من المسؤولية حول هذا الامر . لكن من المتيقن ان القيادة بدورها تتحمل الشطر الاكبر من تلك المسؤولية ، اذ إنها كانت محط الثقة الكاملة لدى المسلمين ، ومعقد آمالهم ، فكانوا يرون في الخلافة مصدرا يمدهم بالقوة والثقة اذا ضعفوا أو وهنوا ، ومصدرا تنبعث منه كل الطاقات التي تمكنهم من الثبات والاستمرار ، ويضمن لهم السلامة والرقي ، لذلك ، فانهم كانوا يتركون للخليفة كلمة الفصل في أحرج الظروف ، ويشاركهم هو في ذلك ، ومن ثَمَّ يضحُّون بكل شيء في سبيل انجاح مقرراته طائعين غير مكرهين ، حفاظا على الاسلام . وهذه الرؤية ـ بالذات ـ نجدها قد تبددت في عهد عثمان ، لما لمسه المسلمون من انحراف واضح في مسلكه ، سواء في ذلك مسلكه السياسي مع كبار الصحابة كأبي ذر الغفاري ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، والأشتر النخعي وأصاحبه . أو مسلكه المالي ، في اغداقه على المقربين من ذوي رحمه ، وحرمانه الآخرين من أعطياتهم المفروضة . فنفى أبا ذر الى « الربذة » حتى مات فيها غريبا . وسيَّر عبد الرحمن بن حنبل صاحب رسول الله ، الى القموس من خيبر . وهمَّ بتسيير عمار بن ياسر ، فحال علي ( عليه السلام ) وبنو مخزوم دون ذلك . وأمر بعبد الله بن مسعود ، فجُرّ برجله ، حتى كسر له ضلعان ، ووطئ جوفه ، حتى صار لا يعقل صلاة الظهر ، ولا العصر ، ومنعه عطائه
(91)
ـ على حد تعبير ابن مسعود (1) ـ حتى مات . وسيَّر جماعة من صلحاء الكوفة ، من بينهم مالك ابن الأشتر النخعي وصعصعة بن صوحان وأخوه زيد ، وعدي بن حاتم لكلام جرى بينهم وبين عامله على الكوفة سعيد بن العاص ، فسيًّرهم أولا الى الشام ، ثم بعد ذلك أعادهم ، ثم سيَّرهم الى حمص وكان العامل فيها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وكان هذا الاخير يغلظ لهم ، فكان من جملة ما يقول لهم : لا أهلا بكم ولا سهلا . . جزى الله عبد الرحمن إن لم يؤذكم (2) . . الى غير ذلك . لقد كانت هذه الفترة ، من أشد الفترات حساسية في الاسلام . فمنها كانت بداية الشر ، فقد كان المسلمون قبلها يلجأون في مخاصماتهم الى الخليفة نفسه للنظر فيها والاستماع الى رأيه العادل في ذلك ، أو ـ على الاقل ـ كان يستمع منهم ويأخذ بآرائهم . أما ، وقد اختلت القاعدة ، وانعكست الموازين ، حيث أصبح الخليفة طرفا في الخصومة ، أو منحازا الى فئة معينة ، فانه لم يعد بالامكان ضبط الامور ، ولم تعد مخاصماتهم لتقتصر على الملاسنة والحجاج ، بل تعدتها الى استعمال القوة ، واللجوء الى القتل والفتك . هذه الفترة الصعبة ، بدأت مواسمها تمرع في السنة السادسة من خلافة عثمان ، فكان مقتله بداية الحصاد ، ثم استمر وطال أعواما وقرونا ، خلَّف فيما بعد الجسم الاسلامي ، جسما هزيلا مفككا ، بعد ان كان صلبا قويا لا تعادله قوة . ومن هذه الفترة ، تولدت الفترات المظلمة في تأريخ الاسلام ، والتي ____________ 1 ـ اليعقوبي 2 / 170 و 173 . 2 ـ الغدير : 9 / من 30 الى 46 .
(92)
وصف بعضها عمر بن عبد العزيز بقوله : « الوليد في الشام ، والحجاج في العراق ، ومحمد بن يوسف في اليمن ، وعثمان بن حيان في الحجاز ، وقرة بن شريك في مصر ، ويزيد بن مسلم في المغرب ، إمتلأت الارض والله جورا ! » . وعلينا الآن ـ لكي نقف على حقائق تلك الفترة ـ أن نستعرض النصوص الكافية التي تعطينا صورة واضحة عن مواقف عثمان وسياسته . وقبل أن نتحدث عن ذلك ، يجدر بنا ان نمر مرورا سريعا بالظروف التي مهدت لعثمان ، والتي كانت سببا في تسلط الأمويين ، والتي بدأت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(93)
|