مـعَ الرَسُـول (صلى الله عليه وآله وسلم )
لم يأمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا ذر ( رض ) باللحاق بقومه ، ودعوتهم الى الاسلام ، إلا لأنه توسم فيه صفات الكمال ، لما يتمتع به من روح عالية ، وثبات لا يتزعزع ، وتفان في العقيدة . فوجده أهلا لأن يقوم بدور من هذا النوع ، والاسلام يمر بأدق المراحل وأخطرها . نحن نعلم أن النبي صلوات الله عليه كان ـ في بدء رسالته المباركة ـ يحتاج الى مزيد من المؤيدين والأعوان في داخل مكة ، وفي خارجها . في داخل مكة ، لتقوية الصف فيها ، وليمنع نفسه من قريش ! وفي خارج مكة ، لنشر مبادئ هذا الدين الجديد الحنيف ، واستقطاب أكبر عدد ممكن من الأفراد المسلمين كي ينهض بهذا الأمر جهرة وعلى الصعيد العام ، وتكون لديه القوة الكافية لصد أعدائه الذين يتربصون به الغيلة ويخططون للقضاء عليه وعلى الرسالة في مهدها . لقد آثر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إيفاد أبي ذر الى قومه بني غفار ، على بقائه معه ، لثقته العالية بأنه سينجح في نشر الاسلام بينهم . وهذا ما حصل ، فقد نجح أبو ذر في ذلك ، فقد أسلم نصف قومه على يده ، وأسلم النصف الباقي عند مجيء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى المدينة كما اسلفنا .
(39)
وبقي أبو ذر بينهم فترة طويلة . لم يحضر في خلالها غزاة بدر ولا أحد ، ولا الخندق ( كما تقول الروايات ) ، بقي بينهم في خندق الجهاد الآخر ، حيث كان يفقههم في دينهم ، ويعلمهم أحكام الاسلام ، وهذا جهاد يحتاج الى عزيمة وحكمة ودراية ونفس طويل . وليس من الوارد في ذهن من يعرف أبا ذر ، أن يعتقد بتخلفه عن هذه الغزوات الثلاث بمحض ارادته واختياره ، بل من المؤكد أن تخلفه عنها ، وبقاؤه في قومه إنما كان بايعاز من الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . والجهاد بالسيف مقرون مع الجهاد في اللسان ، بتعليم الناس أحكام دينهم ، وتفقيههم بها . بعد تعلمها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . قال تعالى : « وما كانَ المؤمنونَ لِينفورا كافِّة فَلولا نَفَر مِن كُل فِرقة مِنهم طَائِفَة لِيَتفقَّهوا في الدِّين وليُنذِروا قَومَهم اذا رَجِعوا اليهم لَعَلَّهم يَحذرون » 9 ـ 122 . قضى أبو ذر ، فترة بين بني قومه ، ثم عاد ليصحب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويأخذ عنه العلم والمعارف والحكمة . وقد حظي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاهتمام الكبير ، والعناية الخاصة . فقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يبتدئه بالسؤال والكلام اذا حضر ، ويسأل عنه اذا غاب . فعن ابي الدرداء قال : « كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبتدئ أبا ذر اذا حضر ، ويتفقده اذا غاب » (1) . ويظهر من بعض الأخبار انه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يمازحه ، كما كان هو يمازح ____________ 1 ـ الاصابة 4 / 63 والاستيعاب ص 64 .
(40)
النبي صلوات الله عليه وهذا إن دل على شيء ، فانما يدل على مكانته الخاصة لدى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . فقد روي انه قدم الى المدينة ، فلما رآه النبي قال له : « أنت أبو نملة ! فقال : أنا أبو ذر . قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : نعم ، أبو ذر (1) . وعن الصادق عليه السلام ، قال : طلب أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقيل إنه في حائط ( بستان ) كذا وكذا . فتوجه في طلبه ، فوجده نائماً ، فأعظمه أن ينبهه . فأراد أن يستبرئ نومه من يقظته ، فتناول عسيباً يابساً ، فكسره ليسمعه صوته . فسمعه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فرفع رأسه فقال : يا أبا ذر ، تخدعني . أما علمت أني أرى أعمالكم في منامي ، كما أراكم في يقظتي ! إن عينيَّ تنامان ، ولا ينام قلبي (2) !! وكان رضي الله عنه في صحبته للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حريصاً على اقتباس العلوم ، فكان يغتنم الفرصة في ذلك ، ويحدثنا هو عن نفسه ، فيقول : لقد سألت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن كل شيء حتى سالته عن مس الحصى ( في الصلاة ) ، فقال : مسَّه مرة ، أو دع (3) . وقال : لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء ، إلا ذكَّرنا منه علما (4) . ____________ 1 ـ الاصابة 4 / 63 والاستيعاب ص 64 . 2 ـ معجم رجال الحديث 4 / 171 . 3 ـ الغدير 8 / 312 عن مسند أحمد . 4 ـ الاستيعاب 4 / 64 .
(41)
وقال : دخلت ذات يوم في صدر نهاره على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مسجده ، فلم أر في المسجد أحداً من الناس إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلي عليه السلام جالس الى جانبه ، فاغتنمت خلوة المسجد ، فقلت : يارسول الله ، بأبي أنت وأمي ، أوصني بوصية ينفعني الله بها . فقال صلى الله عليه وآله وسلم : نعم ، واكرم بك يا أبا ذر ، إنك منا أهل البيت (1) . . وقد ذكرت وصيته بكاملها في آخر الكتاب ، وهي من عظيم كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وتصلح أن تكون بذاتها موضوعاً مستقلا يدرس . وفي ميدان معارفه وعلومه التي اكتسبها من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نذكر ما قاله أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) حين سئل عن أبي ذر . فروي أنه قال في ذلك : وعى أبو ذر علما عجز الناس عنه ، ثم أوكأ عليه ، فلم يخرج شيئاً منه (2) . وانما أوكأ أبو ذر على ذلك العلم ، ومنعه عن الناس ، لأنه لا تحتمله عقولهم . وفي رواية أخرى عن علي عليه السلام ، فيه : « وعى علما عُجز فيه ، وكان شحيحاً حريصاً على دينه ، حريصا على العلم ، وكان يكثر السؤال ، فيُعطى ويَمنع ، أما ان قد ملئ في وعائه حتى امتلأ » (3) . وجاء عن كتاب حلية الأولياء : في هذا الصدد : كان أبو ذر رضي الله تعالى عنه ، للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ____________ 1 ـ تنبيه الخواطر 2 / 300 . 2 ـ الاستيعاب / حاشية على الاصابة 4 / 64 . 3 ـ الغدير 8 / 311 .
(42)
ملازما وجليسا ، وعلى مسائلته والاقتباس منه حريصا ، وللقيام على ما استفاد منه أنيسا ، سأله عن الأصول والفروع ، وسأله عن الايمان والاحسان ، وسأله عن رؤية ربه تعالى ، وسأله عن أحب الكلام الى الله تعالى ، وسأله عن ليلة القدر أترفع مع الأنبياء ، أم تبقى ؟ وسأله عن كل شيء حتى مس الحصى في الصلاة (1). الخ . وقد منحه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوسمة عالية أهمها : قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر . ومن سرّه أن ينظر الى تواضع عيسى بن مريم ، فلينظر الى أبي ذر (2) . وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن صحة هذا الحديث ، فصدَّقه . ففي معاني الأخبار بسنده ، عن رجل . قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أليس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أبي ذر ـ رحمة الله عليه ـ ما أظلَّت الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء على ذي لهجة ، أصدق من أبي ذر ؟ قال : بلى . قال : قلت : فأين رسول الله ، وأمير المؤمنين ؟ وأين الحسن والحسين ؟ قال ، فقال لي : كم السنة شهراً ؟ ____________ 1 ـ نفس المصدر 312 . 2 ـ الاستيعاب / الاصابة 1 / 216 .
(43)
قلت : إثنا عشر شهراً . قال : كم منها حُرُم ؟ قال : قلت : أربعة أشهر . قال : فشهر رمضان منها ؟ قال : قلت : لا . قال ( عليه السلام ) : إن في شهر رمضان ليلة أفضل من ألف شهر ! إنَّا أهلُ بيت لا يقاس بنا أحد ! (1) .
فـي غـزوة تبـوك
في غزوة تبوك ، وقف بأبي ذر جمله ، فتخلف عليه ، فقيل : يارسول الله : تخلف أبو ذر . فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ذروه ، فان يك فيه خير ، فسيلحقه الله بكم ، فكان يقولها لكم من تخلف عنه . فوقف أبو ذر على جمله ، فلما أبطأ عليه ، أخذ رحله عنه ، وحمله على ظهره ، وتبع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ماشياً . فنظر الناس ، فقالوا : يارسول الله ، هذا رجل على الطريق وحده . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كن أبا ذر ! فلما تأمله الناس ، قالوا : هو أبو ذر ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ويشهده عصابة من المؤمنين (2) . ____________ 1 ـ معاني الاخبار ص 179 . 2 ـ الكامل 2 / 280 والاصابة ج 4 / 64 بلفظ قريب .
(44)
|